الخيال الرمزي: تاريخ الهيمنة على المجتمع - محمد عمر سعيد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasseمدخل
إن ما يمكّن من استيعاب وإدراك سلطة التاريخ على أي لحظة من لحظات الاجتماع الإنساني هو إمكانية التمييز بين بعدين بنيويين يسجلان حضورهما داخل السيرورة التاريخية لكل مجتمع، هما تحديدا البعد الواقعي الفعلي والبعد المخيالي الرمزي؛ وما يوطد الوعي بتلك السلطة هو بلوغ الفهم حدود التماس والتداخل بين البعدين بوصفهما غير قابلين للفصل إلا من الزاوية النظرية، وهذا تسليما بحقيقة تلازمهما الجدلية، وهي الحقيقة التي تنفي مبدئيا القول بهيمنة أي بعد على الآخر؛ إذ الإطار الجدلي يمكّننا من تصور إمكانية تحول أي من البعدين إلى خانة البعد المقابل.
لكن يبدو أن هذا المدخل ينطوي على تناقض ظاهري يمكن صياغته على الشكل التالي: كيف ننفي هيمنة أي من البعدين على الآخر في نفس الوقت الذي كنا قد سلمنا فيه بهيمنة التاريخ على المجتمع؟ إذ أن محاولة تفكيك هذا التناقض ستكون جوهر هذه المساهمة التي يعترف صاحبها بأنه لا يمتلك الكثير من الأدوات التي تخول له فعل ذلك فهو مبتدئ في هذا الميدان، لكن المؤكد هو أن المحاولة ذاتها تحوم حول سؤال جوهري من أسئلة الوجود الإنساني عموما فضلا عن كونه أدق القضايا الراهنة في تخصصنا.

1- استكشاف الوعي لوضعه التاريخي فردا وجماعة؟
الوعي هو حالة انفتاح للعقل البشري على نقطة ارتكاز رمزية تكون المرآة التي تعكس للإنسان جميع مجريات سلوكاته اليومية والعمليات الاجتماعية التي يتبوتق ضمنها بما يجعل من الوعي مرجعية ظرفية للفرد و الجماعة، أي بمثابة مخزون لحظي يخزنه الكائن البشري ليعود إليه كلما اقتضت الضرورة اللحظية ذلك، ولتحصيل وفرة مخزون الوعي يحدث القيام بتكوين شبكات متينة من المعاني هي ذات حمولة كثيفة يتم ربطها بالإيقونات والعقائد التي تتسم بطابع الخلود، إذ الوظيفة الأساسية التي يقوم بها الإنسان تتمثل في عملية المَنطَقة التي يتم من خلالها الربط بين نقطة الارتكاز التي يقع الاختيار عليها ـ وهو الوعي ـ وبين تلك الرموز الخالدة. 
بذلك تتكرس الأيقونات والعقائد كلها في خدمة نقطة الارتكاز الرمزية التي عرّفنا بها مفهوم الوعي، ولا يصبح مهما حينها عند الإنسان أن يكون كل من الوعي والرموز مبنيان على أسس متينة من الاختبار العقلاني بوصفه آلية لتحري الصواب وليس أداة لتأويل الحقائق، ولكن الأهم هو ربط الإنسان نفسه بفكرة تفارق وجوده اليومي إلى نوع من الارتباط السرمدي بالروح المطلق ـ بمدلولها الهيغلي ـ بما هي انشداد إلى الفكرة الشاملة التي تكتنف كلية الإنسان؛ إذ أهمية الاختبار العقلاني لمسألة الوعي تتحدد في السعي إلى تكامل موقف الوعي المنتخب مع الوضعية التاريخية بوصفها محيطا ثقافيا وموازين قوى، وذلك هو الاتجاه الأمثل الذي تكون فيه سيرورة المجتمع معبرة عن حالة انفتاح وحيوية خلاقة؛ وهو عكس ما يمكن أن يحدث من جراء تتبع المجتمع لخطو المخيال الذي يسحبه نحو نهايات هي حتما ماضوية مالم يكن العقل حَكَما في التعامل مع المخيال.
 إذ أعتقد أننا قد وصلنا عبر ورود هذه المسألة إلى عقدة المخيال- الحداثة كقضية بنيوية في كل المجتمعات الإنسانية، حيث السؤال المركزي: هل أن المخيال هو الذي يهيمن على العقل فلا يكون حينها سوى أداة تأويل تُعِين التراث على إعادة إنتاج نفسه، أم أن العقل كآلية للوصول إلى الحقيقة هو الذي يقوم بتوظيف المخيال في قراءة التراث بل وأكثر من ذلك أن يتحكم فيه؟ وطبعا فإن ثبوت سلامة الخيار الثاني لا يكون إلا بعد بلوغ العقل درجة انفصاله التام عن كل ما يكبله من بقايا الماضي أيا كان حتى وإن تزين ذلك الماضي بأرقى البطولات والملاحم الإنسانية.
إذ تطرح على العقل مسألة "استمراريته" عبر الزمن دون هاجس أفوله في أية لحظة من لحظات التاريخ الإنساني، وذلك ما يتطلب التوفر على "مصلحة تشخيص" لحالة العقل يفترض فيها أن تكون أقوى وأضمن استمرارية من العقل ذاته، وهو الأمر الذي يحيلنا إلى المخيال نفسه كونه المخول الممكن الوحيد الذي يتعالى على التاريخ بطبيعته السرمدية، إلا أن الصورة النمطية التي أخذناها عن المخيال هي من طبيعة تتناقض مع أهليتها في الهيمنة والرقابة على العقل فلا شك أنه قد تغلغل في التصورات عن المخيال تلك الطبيعة الغرائبية والأسطورية التي تَعرَّف العقل نقيضا لها؛ إلا أن فرضية واحدة ممكنة إمكانا يجعل من تحققها يقلب كل التصور الإنساني عن مفهوم التطور والتقدم فضلا عن إحداثها ثورة في مفهوم العقل نفسه هي إمكانية تَضَمُّن المخيال لأسس العقل، التي تحيلنا إلى فرضية أخرى أكثر عجبا هي: أيمكن أن تكون جملة التاريخ الإنساني قد تحددت وسطر مصيرها منذ نقطة ما في الماضي؟! فالحق أن مجرد طرح سؤال كهذا يعد أهم مفاتيح الوعي الفردي والجماعي بالوضع التاريخي الراهن للبشرية.

2- في إمكانية مقاربة المتخيل كمكون لمضمون الوعي؟
تبدو محاولة مقاربة المتخيل عموما من التعقيد بمكان نظرا لتعدديته كما أنه ما يزال في طور البداية كما نحن كذلك كباحثين، فالمسألة في هذا السياق منهجية بالدرجة الأولى تعنى بالمداخل والحيل التي يمكن تشبيهها بمحاولة التعرف ومن ثم الإمساك بهذا الطائر الليلي ـ طائر الوطواط ـ الذي وبالمناسبة يبدو أنه ذو مكانة في مجال بحثنا هذا حيث يرتبط عند المجتمعات البدائية بالأساطير والخرافات كما لا يعدم دورا خفيا له في المجتمعات التي تدعي الانتساب للعقلانية كما يحب أن يصف لنا ذلك الفرنسي اليوناني كورنيليوس كاستورياديس، فالكلام عن الخيال الرمزي عموما محاولات منهجية أكثر منها مقاربة تتخصص في مخيال بعينه، حتى أننا لنشعر بحالة انعكاسية تكتنف الرغبة في الإمساك بالمتخيل بزعم المحاولة نوعا من محايثة واعية للمتخيل نفسه فتكون دراسة المتخيل التعبير الأسمى عنه لذاته أو كما يعبر عنه في الاصطلاح الفلسفي بوعي الوعي، حيث يصير من العبث التكلم في المخيال قبل تنجز في إطاره الأعمال البحثية، إذ ومن الناحية النفسية لا ريب أن أي رغبة في مقاربة المتخيل تعبر عن خيال صاحبها الجامح.
لكن ما دامت المسألة مطروحة على العلم فإنه لا مشاحة من استحضار العقل هنا على الأقل بوصفه نتيجة لجهود التجريب العلمي؛ إذ وفي سياق التجريب تحضر وبقوة مسألة التخصص الذي ضمنه يُتدارس المتخيل، حيث أن الوهلة الأولى في التعرف على موضوع المقاربة بين أيدينا تحيلنا إلى تصور بين-تخصصي يشمل أساسا كلا من الفلسفة والنفس والاجتماع والتاريخ، لكن إذا كان ولابد من التخصص فقد تكون الانتروبولوجيا التخصص الأكثر تأهيلا لاحتضان الدراسات المخيالية والرمزية، وفي كل الأحوال تبقى المعضلة المنهجية هي ما يطرح نفسه بإلحاح في سياق العقلنة والتخصص اللذان لا يسمحان بأي تجاوز من هذا النوع.
لقد حاول ديران جيلبير تأسيس منهج مبني على نقده للمقاربتين السيكولوجية والسوسيولوجية للمتخيل واللتان تختزلان الصور ضمن نزعة تشييئية، ومن ثم سعى إلى تحرير منهج مستقل لدراسة الحضور المباشر للمتخيل في الواقع وذلك من خلال اعتباره غير منفصل عن الفكر مما يجعله ذا حضور مباشر عبر الرموز اللغوية مسلما بأنها هي أساس كل عملية تفكير في نفس الوقت الذي يعتبر فيه الرمز تابعا للمتخيل الذي هو بدوره ليس ذا اتجاه معروف ولا بعد واحد؛ لكن وبغض النظر عن مدى مصداقية وفاعلية هذا المنهج المبتكر يحضر السؤال التالي: ما دام كل علم يتميز بمنهج مستقل، فهل يمكن نتوقع أن جيلبير يسعى ولو بصورة ضمنية إلى أن يصبح الخيال الرمزي علما مستقلا بذاته؟
إن هذا اقتراح ذو أهمية كبيرة بالقدر الذي يبدو من غير اليسير تحققه، إذ يقتضي ذلك تصور اجتماع جملة من العلوم ضمن منهج واحد مما يجعله علما متعدد الأرحام، فلو قسنا عليه مقولة (الفلسفة أم العلوم) يتحول الخيال الرمزي إلى مقولة مضادة مفادها أن (الخيال الرمزي ابن العلوم)، إذ يحدث التوجس من عملية البتر التي قد تحدث للعلوم الأمهات حين لا يكون همّ الدارسين في الحقل الرمزي سوى الإعداد الأفضل لإنجاح التجربة العلمية المحدثة، وإلا فإنها ستكون عودة محتومة إلى زمن الموسوعية بأي شكل من الأشكال أو بعبارة أوضح فإن مقاربات المتخيل ستتحول إلى غول لا يهدد فقط بالعودة إلى الماضي وإنما إلى إحداث ثورة مضاعفة في نطاق العقلانية والحداثة؛ وأما معنى الثورة المضاعفة فتأتي من كون الخيال الرمزي من حيث المضمون استفزاز مباشر ومقصود للعقل الأسطوري والذهنية الخرافية بما يمكن أن يكون محاولات ضمنية لبعث مقولات ما قبل العقلانية الحديثة، والثانية هي الثورة التي تتم على مستوى المنهج الذي يهدد بإزالة الحدود بين التخصصات.
لكن السؤال الأكثر أهمية في هذا السياق هو: إذا كان العقل قد تم تأسيسه حقا ولا مخافة من عود إلى الوراء فلماذا التوجس من الخيال الرمزي شكلا ومضمونا؟ أوليس ذلك سيكون تمحيصا إيجابيا لأطروحة العقل نفسها؟ أليس التخوف علامة من علامات ضعف العقل نفسه؟! فيبدو أن الجواب الأكثر فاعلية على هذا الارتياب هو الاقتحام والسير بالأبحاث المخيالية قدما إذ البشرى الحتمية الناتجة عن هذا السياق هي أن العقل سيكون على غير الحال التي كان يوجد فيها قبل بروز الخصم الجديد.

3- العلاقة بين العقل و الخيال الرمزي
إن كلا من العقل والخيال الرمزي اصطلاحان نظريان، لكن المفارقة بينهما هو أن الأول يرتبط بإمكان وليس بحقيقة واقعة فليس كل شيء عقلانيا كما وليس من الضروري أن يفكر الإنسان بعقلانية، لكن بالمقابل يبدو أن الخيال الرمزي لفظ تقريري لحقيقة خالدة، إذ العلاقة بين الإنسان والخيال الرمزي علاقة تلازمية ينتفي أحدهما بانتفاء الآخر، فلو فصّلنا نجد أن الخيال ملكة من ملكات الإنسان التي شكلت موضوع تمحيص لكثير من الفلاسفة على مر العصور بوصفها مكونا من مكونات النفس البشرية، كما أن الرموز ليست إلا نتاجا للحقيقة التاريخية التي ينتفي الوجود الإنساني بانتفائها كذلك؛ على أن تمييزا آخر يجب أن نقرره هنا هو جوهرية مفهوم الاختلاف في الخيال الرمزي، بينما يشكل مفهوم الوحدة جوهر مدلول العقل، هذا إلا إذا أخذنا بمقولة الترابط بين العقل والإنسان ذي الانتماء الحتمي لهذا المجتمع أو ذاك بحيث يختلف مفهوم العقل شكلا ومضمونا ويتوحد مع الدلالة الجذرية للمتخيل، لكن ومادام التاريخ يشير ولو صوريا إلى وجود عقل مطلق فهذا ما يجعلنا نسلم على الأقل بوجود صنفين في تعريف العقل هما المطلق والمتعيّن.
والحق أن الصنفين ممكنان واقعيا ولا يجادل أحد في حقيقة ذلك، لكن علينا أن نبحث عن المطلوب أولا وقبل الدخول في التفاصيل التي سنتيه حتما معها لو لم يكن لنا مسلمات أساسية عليها يتقوم نسق بحثنا هذا وهو ما يمكن بلورته بديهيا في صيغة السؤال التالي: هل العقل المطلق ممكن، أم أنه مجرد وهم؟
هيغل هو أول رجل نقوم باستفتائه في الأمر، فهو الذي تكلم عن العقل بما هو تجل من تجليات الروح المطلق من حيث تعاليه عن التعينات، إذ العلاقة بين الفكر والواقع ليست إلا جدلا عقلانيا لذاته يَكُون فيه الفكر وحدة متكاملة يستحيل الواقع إثرها إلى أداة تعمل تحت رقابة العقل المطلقة إلى درجة نتصور فيها أن الواقع ليس إلا ما هو موجود في الأذهان، وذلك تحديدا ما تعنيه العبارة الهيغلية "كل ما هو واقعي عقلاني": أي أنه إذا ما سلمنا بوجود واقع ما فلن يكون شيئا غير العقل ذاته؛ لكن ماذا كانت نهاية هذا التصوير الهيغلي لمفهوم العقل؟
إن مجرد البداهة توحي لنا بأن تعريفا كهذا للعقل هو نوع من احتواء سلمي له يخرجه في النهاية عن أن يكون التعبير الصحيح عن مفهوم العقل في تجليه الإطلاقي، فلا يجوز لنا تقبله إلا كتجل تاريخي من تجليات العقل أنتجه ذهن هيغل نفسه أو هو العقل كما تطور على مر العصور لكن حتما هو ليس غاية العقل، وإلا ما الذي أدى بهيغل إلى أن ينتهي بنا إلى مقولة روح الشعب، والعقل أربى من أن يكون روحا للشعوب، فضلا عن يقوم بتحديده في نهاية المطاف بشعب واحد هو الأمة الجرمانية، لذلك وجب السؤال عن إمكان "العقل المطلق" ما دام لم يتحقق عند آخِر من ادعى العقلانية المطلقة، على أنه وبالمقابل كان للتطوير الهيغلي لمفهوم العقل صدى يزداد ترددا كلما سار التاريخ قدما إلى الأمام مما يجعلنا نأمل من تحقق إطلاق العقل في مسيرة التاريخ الإنساني مستقبلا بعد أن تستنفذ الطاقة الكامنة للعقل الهيغلي فلا يصبح أمامنا حينئذ إلا إمكانية استشراف مستقبلي لمسارات العقل الإنساني وهو ما يجعلنا نعود على بدء لنتفقد نتائج التطوير الهيغلي للعقل.
فلا أجدر من أطروحةٍ تلت مقولة "الروح المطلق" سوى مقولة "الاختلاف" بوصفها نتائج تعكس المأزق الذي دخل فيه العقل الإنساني المحتوى هيغليا إثر المفارقة التي حدثت بادعاء إطلاق العقل مقابل تقييده إلى أمة واحدة، إنه العقل ما بعد الحديث الذي نحب أن نصفه بأنه نتاج المسلمات الخاطئة للعقل الحديث، إذ لم يعد بالإمكان أحسن مما كان كما يقول المثل العربي، والعجيب في كل ذلك هو حدوث مواطئة مؤلمة من خلال اجتماع نتائج الحداثة الواقعية الراهنة للعقل الحديث في زمن تفتت فيه الفكر و فيه أيضا ظهر مجتمع مابعد الحداثة، إذ الحقيقة التاريخية تقول بأن الوضع العقلاني للمجتمع ليس إلا نتاجا موضوعيا لاجتهادات عصور الأنوار وأن تفتت الفكر لم يحدث إلا بعد أن غابت وقدة الروح في بني البشر.
فإذا عدنا على سؤال البداية نكتشف أن محاولات إطلاق العقل لم تكن سوى في باطنها سعيا للتحرر من المخيال إلا أنها ولسوء الحظ لم تكن ناجحة تماما ما دامت لم تحقق إلى غاية يومنا إمكان العقل الإنساني المطلق من قيوده كما قد بينا، لكن يبدو من المفيد عند محاولة الاستشراف اقتباس تصنيف كاستورياديس للمخيال حيث قسمه إلى مخيال جذري يسكن البناء النفسي للإنسان مقابل نظيره الاجتماعي ذي الطبيعة الإبداعية المتغيرة باستمرار؛ فإذا سلمنا بالمخيال الجذري يعسر علينا تصور إطلاق العقل في شكله النهائي يوما ما، على أن تصور النهايات هي ضرب من الحجر على العقل نفسه وهدر لإمكانيته، لذلك لا يكون الحل العملي إلا "التسليم" بحقيقة المخيال الجذري في مقابل الحفاظ على "الإمكان" العقلي.
وهذه في الحقيقة صورة كاريكاتورية عن مدى التيه الذي بلغه الكائن البشري في أعلى توتراته الدرامية، لكنه في الآن نفسه هو ترقب للتاريخ وترصد له وهذا أكبر جهد نظري يمكن أن يقوم به بنو البشر في سبيل تحقيق المثل الإنسانية العليا. 

خاتمة
لا شك أن التاريخ يتجدد بتجدد الأجيال وتعاقبها، ولو شئنا الدقة لقلنا أنه يتجدد بموت الأفراد وميلاد أفراد آخرين، و تجدد التاريخ وفقا لهذا المنظور البيوطبيعي يعطي معنى مفارقا لتجدد التاريخ وفقا للمنظور البيوعقلاني إن صحت العبارة، فالوهم الذي يتلازم مع أي جيل جديد كما يقرر بيار مانييه في كتابه مدينة الإنسان يتمثل في اعتقاد ذلك الجيل بأنه أرقى من الجيل السابق لمجرد كونه يعيش زمنا متقدما عليه، فالحق أنه وهم يثبت الواقع أنه حقيقة نسبية وليس وهما مطلقا، لكن مصدر الوهم يتمثل تحديدا في الأساس المذكور الذي بني عليه هذا الاعتقاد؛ لكن بالمقابل فإنه وفي أحيان شاذة تفرض المرحلة الحضارية لأمة ما بأن يرى أفرادها أن ماضيهم هو أحسن من حاضرهم بشكل يسبب شيزوفرينيا تنتج واقعا هو مزيج من التراجيديا والكوميديا تتلخص نهاياتها الصادقة في "الرغبة بالموت" التي تنتج عن التوق إلى تسريع الالتحاق بهؤلاء الماضين، وهي فيما يبدو أنها قراءات مغلقة نتجت عن أنساق ثقافية بلغت حدا من الانكفاء جعل من مجتمعاتها تعيش وكأنها حقا خارج التاريخ والأدهى أنها تظهر في طبيعة بدائية يتعسر حتى على الدارس الأكاديمي تفهمها فيظنها من طبيعة دونية فعلا!
لكن وفي كل الحالين يتراءى أن الأمر محكوم بحالة بنيوية تختزل وجودها في جملة من التصورات عندما تفهم أن الفارق الوجودي بين فرد وآخر يتلخص في مجرد تصورات في حد ذاتها مما يحوّل البشر إلى مجرد قَعَدة وعاجزين يدفعون العالم إلى صراعات ما من بد منها؛ في حين أن الإنسان لا يتميز عن باقي المخلوقات بتصورات قد يشترك فيها مع الحيوان وإن بدرجة أقل، ولكن تميّزه يكمن تحديدا في القدرات الإيزوتيرية (الرمزية) التي يكتسبها من محض جهده الذاتي وليس في الإمكانات الإيكزوتيرية (الواقعية) التي تتوفر له دونما عناء أو معاناة، وهذا هو معنى هيمنة الفكر على التاريخ بوصفه وليدا من رحم الرموز.
حيث الخلاصة من كل ذلك أن هيمنة الإنسان على أخيه الإنسان تصبح ممكنة ما دام المهيمَن عليه حبيس تصوراته وغير مدرك لقدراته الذاتية وجهله كذلك بأن تلك القدرات لا يمكن تحصيلها إلا بالجهد الضروري، والشرط الوحيد في تحرر الإنسان هو إعادة استكشاف الأيقونات كونها مصدر سلوكاته الفعلية وليست مرجعيات صورية متخاذلة.   

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟