شذرة البدء " كنت قد أصبحت نهائيا عالم إجتماع ، كما يدل قرار تعييني ، فذلك لكي أضع بشكل أساسي مفاهيم جماعية ما زال شبحها يحوم بإستمرار ، و بتعبير أخر لا يمكن أن ينجم علم الإجتماع إلا من أفعال أحد الأفراد أو بضعة أفراد ، أو العديد من الأفراد المنفصلين ، لذلك يقتضيه تبني طرائف فردية تحصر المعنى " ماكسيميليان فيبر
أنهكت السوسيولوجيا نفسها بالبحث و التنقيب ، و لا زالت كذلك في مسعاها للحصول على النجومية داخل مدار الإبستمولوجيا و العلوم ، تفنتت في الفضح و التمحيص ، و لا زالت كذلك لفرض برديغماتها ضمن علوم المجتمع و الإنسان ، و أجهدت حالها بشغف حثيث و بإجتهاد كبير ، لتقديم علمائها داخل خرائط الفكر و التحليل ، و تصارعت بقوة الكتابة و الإنجاز ، لإبراز أهم مفكريها بين فلاسفة العقل و السؤال ، و كافحت و لا زالت كذلك ، لإبراز أيقوناتها للملأ من النقاد و المحللين ، فكدحت بحثا عن موضع قدم داخل مضمار باقي العلوم ، و تصارعت لإصباغ النخبوية على نفسها و تحاليلها ، فحبا و إلتزاما كدحت و ثابرت ، و بآليات الفهم و التشفير تقاتلت لتقديم أنجع الرؤى و النظريات ، و بأدوات المنهج تطاحنت من أجل فهم ما يعتمل في المجتمع أملا في معرفة عين الخلل و الهزات .
فبهكذا طريقة إنكتب لمسيرتها الإبستمولوجية أن تكون ، و بسبب كارثية الظروف إجترحت طريقا للإستمرار تأكيدا للذات و ترسيخا للحضورا ، و بسبب عوامل واقع الحال تأسست و أطلقت العنان للتحليل ، أملا في تقديم جرعات فهم تهدئ غليان المجتمع و تكهربات الأوضاع ، فهي نتيجة الخضات إذن و الهزات ، و وليدة اللواعج و التقرحات ، و إبنة شرعية للأزموية و التغيرات ، فضمن ثنايا كل هذه الأمور ، طفا على سطح المعرفة و التفكير إسم من روادها المؤسسين ، ببذلة رجل إطفاء مهمته إخماد حريق المشاكل و لهيب التمزقات ، و بزغ نجمه في سماء البحث و التنظير ، لتقديم يد عون التحليل ، رغبة في فهم سبب التحولات و علل التوترات ، و بإرادة معرفية لإستكناه المعنى المتواري في ثنايا التغيرات ، بهدف إصلاح المجتمع و معالجة أعطابه ، و تغييره بغيرة سوسيولوجية تعلن العداء للرؤى المحافظة ، و تمتعض من إستراتيجيات تكريس نفس الأحوال و الأوضاع ، و تبرز مقتها لكل توجه يسعى لحماية النظام القائم و تحصينه من أي تجديد أو تغيير ، فضمن هذه المرايا إلتمعت أبحاثه و أخذت كامل التقدير و الإستحقاق ، فليس داخل أحضان علم الإجتماع فقط أو القانون تميزت و تبخترت ، بل إمتدت عدوى البهاء و الإمتياز إلى السياسة و علم التاريخ ، و باقي تخصصات علوم الإجتماع من أنتروبولوجا و إقتصاد ، كاتب هو غزير الإنتاج ، و مفكر ألماني معقد يتميز بالشهرة و قوة الكاريزما و شساعة النفوذ و التأثير ، يمتاز بضخامة الإنتاج و نجاعة الرؤى و التحاليل ، غنية أفكاره في ميزان علم الإجتماع ، و فعالة هي في حقل السياسة و القانون ، أفكار تستعصي على التلخيص و التبسيط ، و تتبرم من التحليل الساذج التجزيئي و البسيط ، أعمال معرفية مائزة عنوانها التعدد و التنوع ، و سماتها تتجمع في حدة التأثير على باقي النظريات المنتمية لحقل التحليل السوسيولوجي و فضاءات علم الإجتماع ، هو المنظر الواسع المعرفة إذن ، و شديد التأثير بدون أدنى نقاش أو سجال ، بزخم فكري تستلهم منه أغلب ميادين المعرفة و أغلب تخصصات الفكر و الإبستمولوجيا ، مفكر بألبسة مزركشة المنهج و البراديغم ، و بأعمال مرجعية للمهتمين و الباحثين ، أعمال و دراسات تصب إهتمامها في فلسفة علوم الإجتماع ، و ضمن مناهجها تجد ذاتها و نجاعتها ، أعمال تمتاز بالتعددية في المواضيع ، و تجد موطن قوتها في البحث و التنقيب في مختلف التوجهات و التخصصات ، مما يجعل من محاولة تصنيفها في خانة معرفية محددة ، مجرد عملية إختزالية تافهة لا معنى لها ، تفقر إسهاماتها الغنية في مجال علوم المجتمع و الإجتماع ، و تسلب محتواها الأخاذ و الخام ، تنوع هو إذن في المواضيع ، و في الرؤى أيضا و التحاليل ، لا يتقاطع بتاتا و مطلقا بعدم الإنسجام أو خلط الأنواع ، و لا يجد ذاته في سمات الترف و لا الإعتباط ، فهنا تكمن الصهارة الإبداعية التي تأبى أي إختزال و تقزيم ، فبالموسوعية العلمية عرف ، و بالنجاعة التحليلة إشتهر ، باحث بألبسة معرفية تنتصر للتنوع و الإختلاف ، مفكر جدي و عملي ، لم تخرج كمياء الإبداع عنده هو الأخر كغيره من كبار المفكرين ، عن شرنقة التمزقات و الأهات ، و لم تخرج كتبه لمشارف الفكر و الإنتقاد إلا عبر مرورها من حرقة السقم و الآلام ، و لم تستمد مشروعيتها إلا بعبورها من شوكة الزفرات و لهيب الإحتراقات ، فقد كان معتل الصحة في أيام الطفولة و الصبى ، شاحب اللون و نحيف ، و هش البنيان البدني ، و ضعيف الأساس العصبي منذ سنواته الأولى في دنيا الحياة ، إذ كان مستهدفا دون إعلان ، و ضحية بدون سابق إنذار ، لمرض إلتهاب السحايا في سن الرابعة من عمره ، مما أفرز سياسة صارمة لحمايته و العناية به ، بتبذير و إفراط ، و تسبب في الحرص الشديد عليه و المبالغ فيه خصوصا من طرف والدته ، كيف لا و هو المتقلب المترنح ، فلم يكن عاديا بتاتا و لا متزنا أبدا ، كان ميالا للخجل و كذلك للإنطواء ، و كان متمردا يكره السلوك القويم و الإنضباط ، فغالبا ما إشتكى معلموه من عدم إحترامه لسلطتهم ، و من قلة إنصياعه لقراراتهم و لأوامرهم ، حتى أن الأمور الكارثية و السوداء لم تتوقف عند هذه الحدود ، فقد كاد الإكتئاب في مرحلة متقدمة من عمره أن يودي بحياته و أن يقتلعه من الإنوجاد ، لكن كان رحيما به على الأقل ، و تسبب فقط في إنسحابه من التدريس لمدة من الزمن نتيجة إنهياره النفسي الحاد ، لكن مرضه و واقع حاله السوداوي ، لم يزاحم علامات النبوغ على الظهور ، و لم يستطع منعها من الإنبراز و اللمعان ، فقد قرأ بنهم لكبار الفلاسفة و المفكرين ، و عشق المطالعة و المعرفة بحب و إلتزام شديدين ، و غاص في أمهات كتب الفلسفة و الفكر إلى أبعد الحدود و الدرجات ، و جال بين طياتها و عوالمها بشغف تام ، متأثرا بزمرة من نخبة الكلمة و التفكير ، فقد تأثر بالشاعر الفيلسوف نيتشه ، و قرأ لمتشاءم الوجود شوبنهاور ، و أيضا إستلهم الكثير من وعاء كانط العقلاني ، كما تغذى من الألق الأدبي لغوته ، و إستأنس بغيرهم من الأدباء ، و من محبي الحكمة و السؤال ، لكن رغم كل دوافعه الذاتية المحضة للشموخ و التعالي ، إلا أنها لم تساهم لوحدها في إنتاجه مفكرا صبغي المعرفة و عالمي الشهرة ، كما لم يكن لها كل الأثر على مساره و إختياراته ، فلوسط تنشئته الأسري كذلك الفضل الكبير عليه ، فقد نشأ في بيت علم و سياسة و فكر ، فثراء العائلة على جل الأصعدة و المستويات ، بدءا بالإقتصادي مرورا بالفكري ، زيادة على الرمزي ، كانت كلها مساهمة في تكوينه و تربيته ، فأبوه رجل سياسة محنك يحظى بكامل التقدير و الإحترام ، كيف لا و هو أحد الأعضاء المهمين في الحزب القومي الليبرالي ، و هو حزب الطبقة البورجوازية و المثقفين ، أما والدته فتنحدر من عائلة عريقة ذات هيبة و نفوذ ، فضمن هذه الأجواء تفتحت عبقريته و مواهبه ، و سُقلت ضمن وسط بروتستانتي غني ، يتميز بعلاقات مع كبار الساسة و المفكرين ، و يمتاز بصلات مع خير النخبة من آل المجتمع و المثقفين ، حتى أن هذه الأجواء بما لها و ما عليها ، إنعكست على إختياراته الجامعية في القادم من السنين ، فمساره العلمي متشعب و غني ، ميزته التراكم الكمي و التعدد النوعي ، فقد درس علوم القانون بكلية الحقوق سعيا منه للتماهي مع شخصية أبيه الفذة ، و تشعب في مادة التاريخ و ميادينها ، لكن شغفه المعرفي لم يردخ لرغبة الإكتفاء و العفاف ، فأردف الأول و الثاني بمادة الحكمة و ما وراء الفيزياء ، و زاد على الثلاثة علم الإقتصاد السياسي ، و دراسات أخرى موسعة في اللاهوت و الجماليات ، ليحظى بالموسوعية و الهيبة المعرفية بعد مسار شاق من التعلم و الإكتساب ، ليمارس التدريس بعد تخرجه في تخصصات تستمد مشروعيتها من المواد التي درسها و تلقنها ، بدءا بتدريسه بتدريسه لعلم الإقتصاد السياسي ، و مواد أخرى تتراوح بين القانون و التاريخ الإقتصادي ، إلى حدود السنتين الأخيرتين قبل رحيله عن بسيطة الوجود ، حيث سيحظى بكرسي علم الإجتماع ، و هنا سيكون قد وهب نفسه بالكامل للسوسيولوجيا و لمبادئ علم الإجتماع ، كبراديغم معرفي يحاول الوصول إلى فهم تفسيري للفعل الإجتماعي ، و يسعى لتقديم تفسيرا لمجراه و نتائجه ، فهذا هو ماكسيميليان كارل إميل فيبر ، رجل عريض المنكبين ، بجسد بدين ، يدخن غليونه طوال اليوم ، لم تنفرد سياسة المعرفة لوحدها به ، بل شاطرتها معرفة السياسة كذلك فيه ، فتقاسما حبهم عليه ليصبح العالم و السياسي في أن ، فقد إشتغل في العمل السياسي بلباس القومي ، فأختار بمحض إرادته النضال داخل عوالمها و دروبها ، لكونه كان مولعا بها ، مخصصا كل حبه و عشقه لها ، فكم تمنى أن يكون زعيما سياسيا أو حتى عضوا في البرلمان ، لكن رغم تأثيره القوي هذا ، لم يحصل على وظائف و مناصب سياسة سامية تستفيد من فكره و رؤاه ، فإكتفى بالدفاع عن أفكاره ضمن قالب المعرفة و الفكر ، بعد إخفاق سياسي لم يجني من ورائه أدنى المهمات و المناصب ، لينحاز فيما بعد لصوت المعارضة ضد غيوم الثاني ، حيث سيصبح عضوا فعالا في الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني ، لكن حياته المتخنة بالمحطات و الأحداث الكبرى ، لم تعرف السياسة لوحدها ، بل جودته تكمن في أبحاثه الفكرية أيضا و دراساته المعرفية ، كتابات قيمة يوحدها منطق التركيز على العلاقات المتبادلة بين التشكيلات القانونية و السياسية و كذلك الثقافية من جانب ، و أيضا النشاط الإقتصادي من جانب أخر ، فقد تفرغ للسياسة كحرفة و إنكب عليها بأدوات التحليل ، و تبحر في عوامل العلم بأليات الدرس و التشفير ، و رفض النظرة الإختزالية الصرفة سواء للعالم أو للرجل السياسي ، ففي غياب البعد الروحي و الأخلاقي ، يؤكد بأن حرفة السياسي و لا حتى مهنة العالم ستظل خاوية جوفاء ، تفتقر للعمق و المعنى المتمثل في نداء الضمير و تنبيهات الوعي ، لتكتنز في غياب الشرطين السابقين سطحية المهنة فقط و مظهرها الخارجي ، كما إستفاض في دراسته لظاهرة الحداثة و الدين ، و إعتبر أن حضور الأول هو شرط حيوي لتبخر الأساطير و المعجزات ، و عامل محوري في ظهور العالم في حالة عراء تام ، يبدوا على كامل حقيقته المادية ، الفيزيائية و البيولوجية المعرفية ، عالم خال من الأوهام ، و من روايات ما فوق الفيزياء ، أما الثاني فنظر إليه ثاقبا بعلاقة جدلية مع المجتمع و الإقتصاد ، ماضيا في شرح أفكاره بتحليل محايد تاريخي تراكمي ، مبرزا كون الدين لدى الغرب بقي سلاحا عظيما و خطيرا بحدين متباينين ، يستخدمه الساسة لشد العامة من الناس و العكس صحيح ، يستخده العامة لفك قيدهم من الساسة الطغاة ، كما أن أغلب الأديان من وجهة نظره هي بمثابة الكابح الذي يلجم الإلتزام القوي للتطور الإقتصادي ، و يعرقل أي محاولة للتقدم و النماء ، إذ تنطوي جل هذه الأديان من زاوية تفكيره على حواجز عالية تحول دون تنمية إقتصادية راقية و حقيقية ، فالواقع المادي في نظر أغلبها يعتبر حاجزا يستر الهموم الحقيقية التي ينبغي للبشرية أن تتوج إليها ، و أن تخصص كل وقتها لها ، هذه الهموم هي العبادة و التقوى ، أما النماء و الإزدهار الإقتصادي فيضعف العلاقة التعبدية بين الرب و العبد ، بمعنى أن قيم هذه الأديان تؤكد على ضرورة الهروب من متاعب العالم المادي ، و إختيار التحليق إلى مستويات عالية من الوجود الروحي ، كما لم يتوقف بحثه في هذه الحدود و المستويات ، بل زاد غوصه في تحليله لظاهرة الحداثة و التحديث ، و كيفية تشكلها و نشوئها و سيطرتها على المجتمعات الصناعية المتقدمة ، معتبرا إيها نتيجة مسلسل العقلانية و المنطق الوضعي ، و ليس عصارة سحرية العالم ، و لا نتيجة المنطق الخرافي ، فالقوة الدينامية المؤثرة في التنمية الحديثة هي العقلنة و ترشيد الإنتاج ، فبهذه التحاليل حظيت أعماله بالمرجعية المركزية لأي مثقف معاصر يخوض غمار الفحص و التشخيص لظاهرة الحداثة بمقوماتها و قواعدها ، كما درس جميع الأديان بكل مرتكزاتها و أسسها ، و إستشف أن أخلاق البروتستانتية هي أخلاق مثالية ، و منها إستقى النموذج المثالي للبيروقراطية المتميز بالرشادة و العقلانية ، إذ من الصعب تطبيقه في الواقع كما يقول ، و لو طبق في التنظيم لوصل الأخير لأعلى درجات الحكامة ، و لأرقى مستويات الرشادة و العقلنة ، فجزء إذن كبير من علم إجتماع التنظيم يمكن إرجاعه لعمله هذا عن البيروقراطية ، فهي نموذج مثالي للحرص و الدقة و الكفاءة و الفعالية الإرادية ، و هي الأسلوب الأنجع و الأداة الوحيدة لتنظيم أعداد ضخمة من الناس على نحو فعال ، زيادة على ذلك فحديثه عن الرأسمالية لا يرتبط بالإقتصادي فقط ، بل كان إهتمامه يميل للمعتقدات الدينية و للقيم البروتستانتية و دورها في بروز نظام الإقتصاد الرأسمالي ، فجوانب معينة من تعاليم المسيحية قد تركت أثارها على نشوء الرأسمالية و بروزها ، أما إنتاجه في علم الإجتماع فكان فريدا مائزا ، فالفعل الإجتماعي هو الموضوع الأساس للسوسيولوجيا ، و عَرفهُ بأنه صورة للسلوك الإنساني الذي يشمل على الإتجاه الداخلي و الخارجي و الذي يكون معبرا عنه بواسطة الفعل و الإحجام عن الفعل ، و مهمة السوسيولوجي ها هنا ، هي تفهم المعاني الكامنة وراء هذه الأفعال ، فهذا هو ماكس فيبر ، الباحث و الإنسان ، و العالم و السياسي في نفس الآن ، مفكر بارز و مقتدر ، ينتصر لخطاب العلمية و التفكير ، و صاحب أفكار تجد صداها في الواقع الإجتماعي بطموح التغير ، و بنزعة التعجيل بذاك التغيير ، و تغيير التغيير ، مبدع مفاهيم كغيره من السوسيولوجين النزيهين الغيورين ، و صاحب طروحات إبستمولوجية غاية في الجودة و الأهمية ، كما تزن الفائدة و القيمة و أيضا الإمتياز ، طروحات تمتلك في طياتها إجابات للمشاكل المعاصرة و المستفحلة ، إذ لم يكتفي الرجل بغزارة الكتابة و الإنجاز ، بل تسبب في ضخامة إنتاج أخرى أنتجها محللوه و منتقدوه ، فمواضيع محددة مثل العقلانية عوض الخرافة و الأساطير ، و البيروقراطية كتنظيم إداري فعال و راقي ، و الكاريزمية كشرط أرثوذوكسي للسياسي ، و الرأسمالية كنتيجة للدين البروتستانتي ، و الفردانية كمنهج سوسيولوجي ، و سياسة القوة ، و إحتكار الدولة للعنف الشرعي ، كلها تؤكد أننا إزاء موسوعي لا يمتهن السوسويولوجيا كأفق ضيق للإشتغال ، و لا الأنتروبولوجيا كبحث و ميدان ، و لا يعتمر قبعة الإقتصادي فقط ، و لا حتى لباس التاريخ ، فللسياسة الأخلاقية نصيبا لها منه أيضا ، فهو مزيج من كل هذا و ذاك ، أبدع بدون توقف و لا إنقطاع ، و أنتج بإسترسالية حبا في الحكمة و السؤال ، و أخذ لنفسه مكان التقدير و الإحترام بإستحقاق تام ، ضمن باقي مفكري المجتمع و الإجتماع ، فلم يعش هذا الموسوعي سوى ستين سنة إلا القليل نتيجة موت مفاجأ خاطف سببه مرض الإلتهاب الرئوي ، لكنه ترك بصماته و أثاره الكبرى على علم الإجتماع و أصبح أحد كبار الثلاثة المؤسسين له ، و الواضعين لأهم قواعده و ضوابطه ، بجانب كل من مفكر فرنسا الإجتماعي دوركايم إميل ، و الإشتراكي الألماني كارل ماركس ، فبأعماله إذن إختط إسمه في سماء السوسيولوجيا ، و إنكتب لقبه على سجل الفكر و الإبداع ، فمن خلال كتبه عٌرف بأنه الإنسان العميق الذي يتحدث بكل رؤاه للجميع ، دون نفحات الديماغوجيا أو التخدير ، و يغور عميقا في تحليل المجتمع وفقا لآليات الدرس و التحليل السوسيولوجي ، فالكبار لا يموتون كما يقال ، فقد بقي الرجل طودا شامخا يتحدى الزوال و الإنمحاء بأفكاره القيمة و النيرة ، فليس غريبا مطلقا أن يظل مفكرا خالدا متفردا برقي و تعفف عن أشباه المفكرين و الباحثين ، خصوصا و أن مكانته لم تزدها الأيام إلا توهجا و بريقا ، نتيجة أعمال واسعة النفوذ شملت طائفة كبيرة من المواضيع و التيمات ، لا زال آل الفكر الإجتماعي يغرفون منها ، و يستلهمون من أفكارها و معانيها ، لبناء أخرى قد تسعفنا في التنمية و التغيير .