برز علم النفس كعلم حديث مستقل عن الفلسفة ليشهد تراكما وتطورا كبيرا في فترة قصيرة وجاء هذا العلم لدراسة الانسان سواء من الجانب الوجداني أو السلوكي أو المعرفي . فإذا كان علم النفس يهتم بهذه الجوانب الثلاث المكونة للشخصية الانسانية . فلماذا لا يتم تفعيل الثقافة السيكولوجية في مجتمعنا على غرار ما هو سائد في المجتمعات الغربية ؟
للإجابة عن هذا الاشكال لابد من الاشارة الى البراديغمات الثلاث التي توالت على علم النفس , فهناك البراديغم السلوكي بقيادة واطسون الذي اعتمد على دراسة السلوك على أساس التعلم والإكتساب ومن ثم فالتعلم في نظره يتم عبر عملية إرتباطية بين المثير والاستجابة معتمدا المنهج التجريبي في دراسة سلوك الحيوان مقتنعا بملائمة هذا المنهج لدراسة سلوك الانسان كذلك . وهناك أيضا البراديغم الوجداني بقيادة فرويد الذي ادخل لعلم النفس مفاهيم جديدة اهمها اللاشعور والتحليل النفسي معتمدا في دراسته على المنهج الاكلينيكي الذي طبقه على مرضاه. ليأتي البراديغم المعرفي بقيادة جون بياجيه الذي جاء بمفاهيم جديدة لعلم النفس (كالادراك,والتصنيف النوعي ...) كما اشتهر بنظريته في تطور الذكاء ,وساهم في خلق فرع جديد هو علم النفس المعرفي الذي حقق نتائج علمية كبيرة في السنوات الاخيرة نتيجة استفادته من علوم مثل النورولوجيا والبيولوجيا واللسانيات...
إن هذا التقديم الموجز للمدارس التي توالت على علم النفس بفضل روادها ليصير علما قائما بذاته له موضوع ومنهج خاصين به إضافة الى مجال للتطبيق . فما هو إذن مجال تطبيق علم النفس ؟ فالجواب سيكون عفويا إذا ما قلت هو دراسة الانسان , سواء نفسيا أو سلوكيا أو معرفيا , لأنه حيثما يوجد الإنسان فإن الحاجة لعلم النفس تكون ضرورية. اعتمادا على هذا الجواب المبسط يمكنني طرح اشكال هل هناك ثقافة سيكولوجية في مجتمعنا ؟
إذ ا كان علم النفس يهتم بدراسة الانسان وهذا الاخير هو المحور الاساسي في المجتمع فما سبب غياب هذه الثقافة السيكولوجية ؟ التي اهتمت بالانسان منذ بداية تشكله جنينيا الى مرحلة الشيخوخة مرورا بمرحلة الطفولة ثم المراهقة ثم الرشد ... , وبإدراجنا لهذه المراحل التي يمر منها الانسان فإن التطرق لمرحلة الطفولة والمراهقة سيكون أساسيا . سأبدأ بمرحلة الطفولة لألقي عليها نظرة سيكولوجية بسيطة من داخل المجتمع المغربي فإذا كان نمو الطفل يمر بمراحل متعددة حددها فرويد في النمو الجنسي عند الطفل وايريكسون في النمو النفسي الاجتماعي وبياجيه في النمو المعرفي او الذهني . فهل بالفعل يتم مراعاة مراحل نمو الطفل عندنا (لان عملية النمو مبرمجة في عضوية الكائن الحي وهذه البرمجة تدفع به الى النمو المستمر حتى بلوغ النضج إلا ان هذا النضج يتأثر بعوامل وراثية وبيئية ولذلك شدد علماء النفس على أهمية المراحل المبكرة في النمو أي الطفولة وتأثيرها في المراحل المقبلة ). وهنا يمكن استحضار القولة التي رددها فرويد كثيرا في كتاباته " الطفل ابو الرجل " اي ان شخصية الانسان الراشد تتحدد بخبرات الطفولة لذلك فان ركائز بناء الشخصية السوية يتم في الطفولة , فالطفولة هي عماد الرشد وأساسه القويم أو الضعيف .
وهنا يمكن استحضار مرحلة من المراحل التي حددها ايريكسون في نظريته( المراحل النفسية الاجتماعية) وهي مرحلة الثقة في مقابل عدم الثقة فالعناية التامة والعطف الحقيقي يجعلان الطفل يحقق الثقة إلا ان العناية الناقصة والرفض يؤذيان إلى الخوف وانعدام الثقة , ففي مجتمعنا غالبا ما يتم مواجهة الطفل بعناية ناقصة بعدم منحه الحنان والاهتمام الكافي وتركه امام القنوات التلفزيونية والحواسيب ... التي تأثر بشكل سلبي على الاطفال وتزرع فيهم حب العنف وغريزة الانتقام وانعدام الصبر الناتج عن الاستعمال المكثف لأجهزة التحكم عن بعد . كما ان الطفل عندنا لا يمنح الحرية في ممارسة نشاطه ولا تتم الاجابة على الاسئلة التي يطرحها ويواجه غالبا بعبارات دالة على النبذ والإقصاء (اصمت ,اجلس ,نم ...) مما يحسسه بأنه غير مرغوب فيه مما يؤدي الى عدم الاحساس بالهوية والشخصية في فترة المراهقة ,وهي فترة صعبة جدا تم مناقشتها بشكل كبير نظرا لأهميتها القصوى في حياة الشخص لكونها ذات خصائص ومميزات خاصة,ونتيجة لأهمية المرحلة فعلماء النفس أبدوا اهتماما كبيرا بها بحيث ثم تشكيل فرع خاص من سيكولوجيا النمو يدعى بسيكولوجية المراهق ورغم صعوبة المرحلة فإن المراهقين في مجتمعنا تتم مواجهتهم بعنف نفسي كبير ونبذ من طرف المؤسسات الاجتماعية , فالأسرة ( غالبا لا تراعي التغيرات التي تطرأ على المراهق سواء على جسمه او طريقة تفكيره ) , اما في المدرسة (بعض المدرسين يتعاملون مع التلاميذ بالتعالي والتسلط والقمع وعدم مناقشة افكارهم...) . وبالتالي فالمراهق عندنا لا يجد المجال الرحب لإفراغ الطاقة الزائدة في هذه الفترة وذلك في غياب مجالات الترفيه كالملاعب الرياضية والأمسيات الثقافية ... , يؤدي به للتوجه صوب الشارع لاستقبال سلبياته بشتى انواعها من سلوكات مشينة كالمخدرات.. مما ينتج شابا متشبعا بثقافة الشارع وهو ما يصعب تواصله واندماجه داخل المجتمع ليكون المآل هو الانحراف والضياع .
وتفاديا لهذه المشاكل التي إجتاحت مجتمعنا مكبدة إياه نتائج وخيمة, مما يجعل الاقتداء بالنموذج الغربي ضروريا في نشر الثقافة السيكولوجية في جميع المؤسسات الاجتماعية وبالخصوص داخل المؤسسات التعليمية من أجل تكوين جيل جديد له قدرة على التواصل وشخصية قوية وثقة في النفس ودلك من خلال الاعتماد على متخصصين نفسانيين في كل المؤسسات الاجتماعية( مدارس ومعامل وسجون ...).
إن تحقيق ثقافة سيكولوجية داخل مجتمعنا المغربي يستدعي القيام بمجهودات جبارة عن طريق نهج استراتيجية واضحة المعالم تبتدئ بدراسة حقيقية للمجتمع بهدف الوقوف على مكامن الخلل والعمل على اصلاح ما يمكن اصلاحه .