في سياق الحديث عن التحديات الراهنة التي بات الإنسان المغربي يرزح تحت وطأتها وما تخلفه من تداعيات مباشرة غير مرغوب فيها، تعمل على خلخلة التوجهات العامة، وتمس في جوهر الاستراتيجيات المتبعة على مستوى السياسات العامة، لا بد أن ننطلق من موقف مفاده أن من يدعي أن الواقع المعيش مزدهر، وبأن الشعب يثني وينعم بالأمن والاستقرار في كنف بلد الاستثناءات، أدعوه معي إلى تجاوز المنظور الاقتصادي والاجتماعي الظاهر، ليكتشف ما هو خفي يعتلي نفسية الإنسان المقهور كما وصفه مصطفى حجازي. فالأكيد أنه ومن يشاركه هذا الادعاء لم يستطيعوا الغوص في وجدان الشعب المقهور لكي يتلمس بذور التمرد التي تنمو في أحشائه ببطء وبصمت، لكن بشكل أكيد وحتمي. وبذلك يكبر وتكبر معه أحاسيس وأساليب التمرد والانتقام من واقعه المتردي بدءا بما هو خفي ورمزي (كسل، تخريب، غش..). فرغم أنه يبدي مهادنة ورضوخا ظاهريا، إلى أنه يخفي ويكبت ربما بشكل لاواعي ملامح العداء ضد المتسلطين والمسؤولين بدءا بأقربهم له. إنه يحس بداخله أن خطابهم هو أبدا كذب ونفاق ووعود معسولة، وتضليل تحت شعار غايات نبيلة قوامها الإصلاح والنماء والمستقبل الأفضل... يعي تماما أنها هراء اعتاد عليه وتواطأ معه، وهو بدوره يخادع ويضلل نفسه عندما يدعي الولاء ويتظاهر بالتبعية. إنه بذلك يتمسك بشدة بالمظاهر التي تشكل سترا واقيا لبؤسه الداخلي.
"يصبح بذلك هذا التضليل وهذا الكذب جزءا أساسيا من نسيج وجود هذا الإنسان، فيعمم كذب المسؤول على المواطن على كل العلاقات: كذب في الحب والزواج، كذب في الصداقة، كذب في ادعاء القيم السامية، كذب في الإيمان، كذب الشرطي حينما يدعي الحفاظ على الأمن، كذب الموظف على صاحب الحاجة، كذب الحرفي على الزبون...فتصبح معظم العلاقات زائفة وهدفها الأساسي استدراج الآخر واستغلاله لإعلان البراعة في ممارسة اللعبة (المسؤولية)، وويل لذي النية الطيبة الذي يعتبر ساذجا وغبيا." وفي ظل هذا الانهيار الذي يلم بقيمة الإنسان في هذا الواقع، وما يتبعه من إحساس بالعجز أمام المصير، والحكم على إنسانية الإنسان بالتبخيس، تبرز مجموعة من العقد تسم حياة أبناء الشعب و تحركها دوما نحو التغيير. فالأكيد أن البؤس الداخلي والذي نظنه خفيا هو الذي يفجر لدى الإنسان سلوكات ضد اجتماعية غالبا ما نصنفه من خلالها في خانة المنحرفين والخارجين عن القوانين المتعارف عليها، دون أن نمنح لأنفسنا فرصة البحث عن الجذور العميقة لهذه السلوكات، ودون أن نفكر في فرضية مفادها أن "وسخ الشعب نتاج للغبن الذي يعانيه الشعب" خلال مراحل حياته كلها. كما أن هذا الوصم لا يلحق الفئات المحظوظة اجتماعيا، خاصة ذات المكانة غير الخاضعة للسؤال والمحاسبة نظرا لتظافر عوامل كان لها نصيب في صياغتها، بل تدفع بالفئات المضطهدة إلى الرغبة في التماهي معها وبالتالي تبني وهم تكسير الهوة الفاصلة بين الطبقات ولو بشكل متخيل أو لاواعي، ولو اقتضى منها الأمر انتهاج أساليب غير مشروعة في سبيل ذلك. ومن تم ينمو الفكر التمردي (الخامد) دون أن يظهر للعيان.
وفي الوقت نفسه "يعيش المواطن حالة من الاضطهاد، يسقط خلالها مشاعر الذنب والتبخيس الذاتي على الآخر الشبيه، ويوجه إليه عدوانية متراكمة تتخذ طابع الحقد المتفشي، أملا في تحطيم الصورة غير المقبولة عن الذات التي يعكسها للمواطن البئيس من هو أكثر منه غبنا"، مما يعطيه انطباعا ولو وهميا بالإفلات من ذلة القهر. أما تجاه الآخر المستبد فتبدأ العدوانية بالظهور نحوه بشكل تدريجي متخذة أشكالا متنوعة.
وبالعودة إلى السلوكات الضد اجتماعية التي تسم مرحلة الطفولة (كذب، سرقة، هروب..) والتي تتحول إلى سلوكات جانحة مع التقدم في السن، فإنه غالبا ما يعتقدها عامة الناس خروجا عن الطاعة وعن القوانين الاجتماعية المتعارف عليها، بل تمس في جوهر وصرامة المنهجية التربوية المتبعة من قبل الآباء، دون أن يتم التساؤل عن أسبابها النفسية التي قد ترتبط بما يعانيه الطفل من تهميش يدفعه نحو التمرد، هذا الأخير يجد له أرضا خصبا للتعزيز والتثبيت في ظل عبثية التعاطي مع مشاكل الطفل. وبذلك يمكن أن نعتبرها بداية لثورة انتقامية خفية تنمو في أعماق نفسية الإنسان المقهور لتنفجر وتفاجئ بذلك الفئة المتسلطة نفسها.