آليات قراءة النص التراثي عند طه عبد الرحمن - أحـمد اتـزكـنرمت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
69.jpgليست القراءة فعلا فيزيولوجيا يرتبط بإحداث الوحدات الصوتية عبر النطق بحسب ما تقتضيه الأنظمة اللغوية، وإنما القراءة، سواء أكانت قراءة للعالم بوصفه وجودا يقع خارج الذات الإنسانية، أو نصا بوصفه تشكيلا لغويا، تعني: الفهم، والتفقه، والتوصيل، ومن ثم فإنها تمثل نشاطا معرفيا ذهنيا يختلف ويتفاوت بحسب رؤية القارئ وبحسب طبيعة نظرته إلى العالم أو النص، والزاوية التي يصدر عنها.(١)

وقد ارتبط مفهوم القراءة في التراث الإسلامي بالتفسير والتأويل، باعتبارهما طريقين لاستخراج المعنى وإظهاره من الكيان النصي، ويرتبط التأويل بالاستنباط، في حين يغلب على التفسير النقل والرواية، وفي هذا الفرق يكمن بعد أصيل من أبعاد عملية التأويل، وهو دور القارئ في مواجهة النص والكشف عن دلالته).. (إن المؤول لابد أن يكون على علم بالتفسير يمكنه من التأويل المقبول للنص، وهو التأويل الذي لا يخضع النص لأهواء الذات وميول المؤول الشخصية والإيديولوجية، وهو ما يعتبره القدماء تأويلا محظورا مخالفا لمنطوق النص ومفهومه».(٢)

وفي خضم سيل من القراءات المعاصرة للتراث يقدم المفكر المغربي طه عبد الرحمن مشروع قراءته للنص التراثي بأنه منحى غير مسبوق يأخذ بالنظرة الشمولية والتكاملية إلى التراث وليس بالنظرة التجزيئية والتفاضلية، وبأدوات مأصولة وليس بأدوات منقولة، مؤكدا أن قراءة النص التراثي هي:«مطالبة النص بالتدليل على وسائله أو مضامينه» (٣.)فأخذ على عاتقه زحزحة التقليد المعاصر في قراءة التراث، الذي آثر في نظره الاقتصار على نقد مضامين التراث من دون الوسائل التي عملت في توليد هذه المضامين وتشكيل صورها، فكان بذلك -التقليد المعاصرفي قراءة التراث-نظرة جزئية تفاضلية، بسبب وقوفه عند مضامين النصوص والنظر فيها بوسائل تجريدية وتسييسية منقولة مع نسيان الوسائل التي عملت  في تأصيل وتفريع هذه المضامين التراثية.فما هي الخلفيات المعرفية الموجهة لهذه القراءة؟ وما هي مستويات وآليات هذه القراءة؟.
ينطلق طه عبد الرحمن في مشروعه الشمولي والتكاملي لقراءة وتقويم التراث، على حد تعبيره، من دعوى: زأن التقويم الذي يتولى استكشاف الآليات التي تأصلت وتفرعت بها مضامين التراث كما يتولى استعمالها في نقد هذه المضامين يصير لا محالة إلى الأخذ بنظرة تكاملية.(٤)

ولإثبات هذه الدعوى تحرك الباحث في مشروعه على ثلاثة مستويات:
١. نقد الخطابات التجزيئية والتفاضلية في قراءة التراث.
٢. التأسيس لقراءة التراث قراءة تكاملية اعتمادا على آليات التداخل المعرفي.
٣. التأسيس لقراءة التراث قراءة تكاملية اعتمادا على آليات التقريب التداولي.

 - نقد الخطابات التجزيئية والتفاضلية  في قراءة التراث

سعى طه عبد الرحمن في نقده للخطابات التجزيئية والتفاضلية في قراءة التراث إلى الكشف عن المظاهر الأساسية التي يتجلى فيها تجزيئ التراث، للوقوف على الأسباب العامة التي أفضت إلى هذه المظاهر التجزيئية، وقد انطلق من دعوى: »أن التقويم الذي يغلب عليه الإنشغال بمضامين النص التراثي، ولاينظر البتة في الوسائل اللغوية والمنطقية التي أُنشئت وبُلِّغت بها هذه المضامين يقع في نظرة تجزيئية إلى التراث»(٥)

واستند في إثبات هذه الدعوى على «مقدمة التركيب المزدوج للنص»، فاعتبر أن كل نص حاملٌ لمضمون مخصوص، وأن كل مضمون مبني بوسائل معينة، ومصوغٌ على كيفيات محددة، بحيث لايتأتى استيعاب المستويات المضمونية القريبة البعيدة للنص إلا إذا أحيط علما بالوسائل والكيفيات العامة والخاصة التي تَذخل في بناء هذه المستويات المضمونية(٦)، لذا فكل قراءة تراثية تأخذ بالمضامين من دون الوسائل التي أنتجتها، واقعة بذلك في الإخلال بحقيقة التلازم بين طرفي النص: المضمون والشكل أو الآليات، وأن تقسيم المضامين التراثية إلى أجزاء تُفاضل بينها، فتنتقي ما حَسُنَ عندها، نزعة مضمونية حملت أصحابها إلى اعتناق النظرة التجزيئية، واختيار النَّظر في مضامين التراث، وترك النظر بالمقابل من ذلك في الآليات التراثية الأصلية، إضافة إلى توسلها آليات مستمدة من مجالات ثقافية أخرى غير التراث العربي الإسلامي. ويسمي طه عبد الرحمن هذه الآليات بالآليات المنقولة-الاستهلاكية، وحصرها في صنفين أساسيين: الآليات العقلانية، والآليات الإيديولوجية الفكرانية.

وقد ميز طه عبد الرحمن في القراءات المعاصرة للتراث بين نزعتين، الأولى مضمونية تقوم على الاكتفاء بالمضامين النصية دون الوسائل التي أنتجتها، على اعتبار أن حصيلة التراث مردودة كلها إلى جملة من المضامين والمحتويات التي هي في حاجة إلى الاستيعاب والتوظيف بسبب المتطلبات والأهداف العلمية والعملية. أما النزعة الثانية فتجزيئية تقسم مضامين التراثية إلى قطاعات متمايزة فيما بينها، و تفضيل بعضها على بعض، بحجة أن في تلك المضامين ما هو حي يحتمل أن تربط أسباب الحياة فيه بالحاضر والتوجه إلى المستقبل، وفيها ما يعد، على العكس من ذلك، مردودا لا يستحق الدرس، بحجة أنه ميت ينبغي قطع صلاته بالحاضر، حتى لا يضر بآفاقه المستقبلية.

ومن الاعتراضات التي يقدمها طه عبد الرحمن على القراءات المعاصرة وآلياتها المتوسلة في فهم وتفسير وتأويل التراث، نجد ما يلي:

١- عدم التمرس والدربة في استخدام الآليات العقلانية المنقولة، فضلا عن غياب الإحاطة التامة والكافية بتقنياتها و إجراءاتها.
٢- عدم التمهيد لإنزال هذه الآليات العقلانية على التراث بنقد كاف وشامل لهذه الآليات، قصد تبيين كفايتها الوصفية وقدرتها التحليلية وقوتها الاستنتاجية.
٣- المعرفة التراثية ليست معرفة نظرية خالصة كأدوات العقلانية المنقولة، وإنما لها تعلق راسخ بـ«الحقيقة العملية»(٧) التي تتصل بالقيم السلوكية المكتسبة بالتعاون مع الغير في إظهار الصواب وتحقيق الاتفاق، وإنزال معايير العقل النظري المنقولة على مثل هذا العقل العملي الذي تميز به التراث، لن يؤدي إلاَّ إلى استبعاد أجزاء التراث بحجة ضآلة درجتها العقلانية أو حمل أجزاء منه على وجوه من التأويل تفصلها عن بقية الأجزاء.
٤- استناد القراءات المعاصرة للتراث إلى مبدأ «التسييس» وحمل التراث على ما يحمله في سياقه الاجتماعي من دلالات الصراع من أجل ممارسة السلطة، وإن اختلف في تحديد شكله من الثوري أو الإصلاحي أو التأسيسي وغيرها.
٥- إغفال القراءات المعاصرة أن التراث هو أقرب إلى التأنيس  منه إلى «التسييس» ، أي أن التراث يولي الجانب الأخلاقي والمعنوي والروحي وظيفة رئيسية في النهوض بالفكر، فتكون قيمة النص المقروء من جهة التأنيس في الفوائد العملية والآثار المعنوية التي يولدها عند القارئ، أكثر من الجوانب التسيسية والمادية، وهي معان تمتد آفاقها إلى الإنسان حيثما كان.

التأسيس لقراءة متكاملة للتراث اعتمادا على آليات التداخل المعرفي :

يعلن الأستاذ طه عبد الرحمن في سياق عمله على نقد الرؤى التجزيئية والتفاضلية في قراءة التراث، عن دعواه إلى قراءة تكاملية اعتمادا على آليات التداخل المعرفي للتراث، مؤكدا «أن التقويم الذي يتولى استكشاف الآليات التي تأصلت وتفرعت بها مضامين التراث كما يتولى استعمالها في نقد هذه المضامين يصير لا محالة إلى الأخذ بنظرة تكاملية»(٨).  وتقوم هذه الدعوى على ثلاث مقدمات، وهي:

١-  مقدمة التركيب المزدوج للنص التراثي، فخصوصية النص التراثي تقوم على خصوصيات كيفية إنشائه وتبليغه، لذلك فدارس التراث مطالب بإقامة بحثه في مضامين التراث على البحث في الآليات التي أنتجت هذه المضامين، مبينا خصائص هذه الآليات الإنتاجية وشروطها وقوانينها وآثارها في تشكيل المعرفة داخل التراث.
٢- مقدمة تنقل الآليات الإنتاجية، فالآليات الإنتاجية للتراث تختص بكونها تقبل أكثر من غيرها التنقل من حقل معرفي إلى آخر، والتجول بين مختلف حقول المعرفة وأصناف العلوم، حتى إن الآلية الواحدة قد تشترك في استخدامها علوم متباينة في مقاصدها ووسائلها.
٣- مقدمة تشبع التراث بآليات إنتاجية دقيقة ومتنوعة استحكمت في مضمون النص التراثي، بحيث لا يمكن فهم هذا النص بغير معرفة تامة بأصول وفصول هذه الآليات.

وقبل الحديث عن مظاهر تداخل المعارف التراثية، كما قدمها طه عبد الرحمن، نقف عند مفهوم الآلية كما عرفها في مشروعه فقه الفلسفة، حيث يؤكد على أن الآلية تحمل معنيين أولهما عام والثاني خاص، فأما العام فهي بالنسبة إليه خاصية إضافية تلحق كل علم يشترك في تحصيل غيره، فيكون كل علم داخل علم آخر بمنزلة آلة من آلاته. فإذا كان الحساب في الفقه يجعل منه آلة له، [فالمنطق آلة الرياضيات والقراءة آلة النص]، فالآلية صفة تعرض للعلوم من جهة استخدامها في غيرها بحيث لو صرف عنها الاستخدام صارت علوما مقصودة لذاتها، فيكون لذلك كل علم مقصودا من جهة لذاته، ومن جهة أخرى لغيره، وأما المعنى الخاص للآلة، فهو أن تكون صفة ذاتية لبعض العلوم، أي صفةٌ تحقَّق بها دون غيرها(٩).

وإذا انتقلنا للحديث عن مظاهر التداخل بين المعارف والعلوم التراثية، نجد الأستاذ طه عبد الرحمن قد ميز في هذا التداخل بين درجتين أساسيتين، هما: «التراتب»و«التفاعل»، أما عن درجة تراتب العلوم، فقد تولى فلاسفة الإسلام وعلماؤه مهمة ترتيب العلوم التي عرفتها الثقافة الإسلامية منذ عهودها الأولى، فتركوا تصانيف مبنية على تقارب العلوم وتشابهها وتراتبها، مما يوضح النزعة التكاملية للمعرفة التراثية.

أما عن درجة تفاعل العلوم التراثية، فلم يكتف علماء الإسلام بالقول بتدرج العلوم فيما بينها، بل أقروا بمشروعية تفاعل العلوم، وتشابك العلاقات فيما بينها، فالمباحث الكلامية تتفاعل مع المباحث اللغوية والبلاغية والفلسفية، كما تتفاعل المباحث المنطقية مع المباحث اللغوية والأصولية(١٠).
وعلى هذا الأساس يخلص الأستاذ طه عبد الرحمن إلى أنه لا يصح تقويم وقراءة إنتاج علماء المسلمين ما لم يقع التسليم بتداخل علوم المجال التداولي الإسلامي.

التأسيس لقراءة تكاملية للتراث اعتمادا على آليات التقريب التداولي :

بعد الاعتراض على آليات ووسائل القراءة التجزيئية والقراءة التفاضلية للتراث، بكونها نقلت من مجال تداولي مغاير للمجال التداولي الإسلامي، ولكون الناقلين لها لم يحيطوا بتمام أسرارها التقنية، ينتقل طه عبد الرحمن إلى مستوى التأسيس لقراءة تكاملية للتراث اعتمادا على آليات التقريب التداولي بين المنقولات الأجنبية والمجال التداولي الأصلي، منطلقا من دعوى التداول الأصلي، والتي مضمونها أن«لا سبيل إلى تقويم الممارسة التراثية ما لم يحصل الاستناد إلى مجال تداولي متميز عن غيره من المجالات بأوصاف خاصة ومنضبط بقواعد محددة يؤدي الإخلال بها إلى آفات تَضِرُّ بهذه الممارسة».(١١)

من مضمون هذه الدعوى يتبين أنها مبنية على ثلاثة أركان، هي:

١- تميز المجال التداولي الإسلامي عن غيره من المجالات الثقافية، وهذا التميز يعود إلى ثلاثة أسباب كبرى لغوية وعقدية ومعرفية تؤسس لأسباب التواصل والتفاعل داخل هذا المجال.

فاللغة أداة من أقوى الأدوات التي يستخدمها المتكلم لتبليغ مقاصده إلى المخاطب والتأثير فيه بحسب هذه المقاصد وبقدر ما تكون الأسباب اللغوية مألوفة للمخاطب وموصولة بزاده في الممارسة اللغوية، فهما وعملا يكون التبليغ أفيد والتأثير أشد.

أما العقيدة فلا تقل، في نظر طه عبد الرحمن، نهوضا بمقتضيات التواصل والتفاعل من الأسباب اللغوية، فلولا الصبغة العقدية الدينية للأسس الأولى للممارسة التراثية، لما تمتعت هذه الممارسة بما نعلمه عنها من السعة والثراء.

وأما الأسباب المعرفية فترتبط بما يتناقله المتخاطبون بواسطة لغتهم وما يتعاملون به بموجب عقيدتهم، فهي جملة مضامين دلالية وطرق استدلالية تتوسع بها المدارك العقلية وتنفتح بها آفاق العالِم.(١٢)

٢- تحديد قواعد ضبط المجال التداولي الإسلامي، وينطلق طه عبد الرحمن في تحديد هذه القواعد من مبدأ عام تتفرع منه جميع القواعد التداولية الضابطة لمجال الممارسة التراثية ، أسماه بـ«مبدأ التفضيل» وصاغه على الوجه الآتي: «ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من صحة العقيدة وبلاغة اللسان وسلامة العقل مثلما أوتيت أمة العرب، تفضيلا من الله»(١٣).

والقواعد التداولية المستنبطة من مبدأ التفضيل تختلف بحسب الأصول الثلاثة لمجال التداول :اللغة والعقيدة والمعرفة.فالقواعد العقدية في نظر طه عبد الرحمن هي التي تقرر الكيفيات التي تكون بها العقيدة الإسلامية أصح من غيرها، وهذه القواعد هي :( ١٤)

-قاعدة الاختيار : التسليم بأن العقيدة التي لا تنبني على الشرع الإسلامي غير مقبولة عند الله.
-قاعدة الائتمار : التسليم بأن الله واحد مستحق للعبادة دون سواه و اتباع تعاليم الرسالة المحمدية.
-قاعدة الاعتبار: التسليم بمشيئة الله ومقاصده في أحكامه وحكمته في مخلوقاته.
أما قواعد الأصل اللغوي فتحدد حسب طه عبد الرحمن الكيفيات التي تكون بها اللغة العربية أبلغ من سواها، وهي:
-قاعدة الإعجاز: التسليم بأن اللسان العربي استعمل في القرآن بوجوه من التأليف وطرق في الخطاب يعجز الناطقون عن الإتيان بمثله عجزا دائما.
- قاعدة الإنجاز : الالتزام بإنشاء الكلام جريا على أساليب العرب وعاداتهم في التبليغ.
-قاعدة الإيجاز:الاختصار في العبارة وتأدية المقاصد.
وأما قواعد الأصل المعرفي فتحدد الكيفيات التي يكون بها العقل الإسلامي العربي أسلم من غيره، وهذه القواعد هي:
-قاعدة الاتساع: التسليم بأن المعرفة الإسلامية حازت اتساع العقل بطلبها النفع في العلم والصلاح في العمل.
-قاعدة الانتفاع: التوسل بالعقل النظري طلبا بالأسباب الظاهرة للكون، والانتفاع بتسديد العقل العملي.
-قاعدة الاتباع:التوسل بالعقل الوضعي طلبا للعلم بالغايات الخفية للكون، واتباع إشارات العقل التداولي.

ويؤكد طه عبد الرحمن أن هذه القواعد التداولية تتناول المظاهر الثلاثة للممارسة التراثية، المظهر التفضيلي الذي يمد هذه الممارسة بأسباب التمايز وتثبيت الهوية وإظهار الخصوصية، والمظهر التأصيلي الذي يمد أهلها بأسباب التواصل واستنهاض الهمم إلى العمل، والمظهر التكميلي الذي يمدهم بأسباب التفاعل والإنتاج والإبداع(١٥).

٣- الآفات المترتبة عن الإخلال بقواعد المجال التداولي، وقد تنبه طه عبد الرحمن إلى أن قواعد المجال التداولي الإسلامي تتعرض للخرم كلما وردت على مجال التداول الإسلامي ظواهر ثقافية أو حضارية منقولة، مما تترتب عنه آثار تضر بالممارسة التراثية، تفاضلا وتواصلا وتفاعلا.وقد ميز في هذا الخرم التداولي ضروبا متعددة تختلف باختلاف عدد القواعد المخرومة في كل أصل تداولي، فقد يرتبط بالمظهر التفضيلي ويؤدي إلى فقدان مجال التداول عامل الإرادة ، مما يعطل قدرته على الإنهاض، أما حين يرتبط الخرم بالمظهر التأصيلي فيؤدي إلى فقدان مجال التداول لعامل الفعل، مما يعطل قدرته على الإنتاج ، وقد يرتبط الخرم حينا آخر بالمظهر التكميلي فينتج عنه فَقْدُ المجال التداولي لعامل الاعتبار، وتتعطل معه قدرته على التوجيه(١٦).

وبعد بيان دعوى التداول الأصلي ينتقل طه عبد الرحمن إلى تعضيد دعوى التداول الأصلي بدعوى التقريب التداولي، لتشكل الطرف الثاني من معادلة القراءة التكاملية للتراث، وتنص «دعوى التقريب التداولي» على أن« لا سبيل إلى معرفة الممارسة التراثية بغير الوقوف على التقريب التداولي الذي يتميز عن غيره من طرق معالجة المنقول باستناده إلى شرائط مخصوصة يفضي عدم استيفائها إلى الإضرار بوظائف المجال التداولي، فضلا على استناده إلى آليات صورية محددة»(١٧).

والتقريب، في نظر طه عبد الرحمن، هو كل نقل تصحيحي قام على قواعد تداولية أصلية عقدية أو لغوية أو معرفية حصل اليقين فيها، بتوسل آليات صورية تشترك في استعمالها جميع أنواع التقريب، تشغيلا عقديا كان أو اختصارا لغويا أو تهوينا معرفيا، ويتم هذا التصحيح بالتصرف في المنقول بالإضافة والحذف والتخصيص والإبدال والقلب والتفريق والمقابلة،(١٨) حتى يصير موافقا للمجال التداولي المنقول إليه.

وقد تواردت على الممارسة التراثية منقولات تنوعت في مواضيعها ومناهجها، كما أن هذه المنقولات تزامنت وتفاعلت فيما بينها، وخضعت لأشكال تقريب استمرت على مدى الأطوار التي تقلب فيها هذا التراث.

وقد أفضت معايير تحديد المنقول الأصلح للنظر بطه عبد الرحمن إلى اختيار علمين منقولين عن اليونان، هما: (١٩)

-علم المنطق، بوصفه أفضل نموذج للعلوم النظرية المنقولة لانفراد موضوعه في النظر المجرد لا يضاهيه فيها علم نظري عبره ، فيكون أحق منه بالتقريب، لذا وجب إخراجه عن وصفه التجريدي إلى وصف عملي يجعل عباراته راسخة في الاستعمال العادي، وأدلته مستخرجة من النصوص الشرعية ونتائجه موصولة بأسباب التطبيق النافع للغير نفعه للذات.

- علم الأخلاق، بوصفه أفضل نموذج للعلوم العملية المنقولة لانفراد موضوعه بمرتبة في العمل لا يضاهيه فيها علم عملي غيره، فيكون أحق منه بالتقريب. لذا وجب إخراجه عن وصفه التجريدي إلى وصف عملي يجعل مفاهيمه موصولة بالمدلولات اللغوية المستعملة، و أحكامه مستمدة من الأحكام الأخلاقية المبثوثة في الشرع.

وبهذه المستويات الثلاثة يكون طه عبد الرحمن قد تعامل «مع التراث كحقيقة تاريخية لا يمكن الانفصال عنها ولا تقسيمها»(٢٠)، فكانت الحاجة عنده «تدعو إلى إنشاء تراث جديد لا لوك أحكام عن تراث قديم»(٢١). وبذلك يكون الباحث قد طرق آفاقا جديدة في قراءة التراث قراءة تحمل على الاهتمام بكلية التراث وجميع دوائره، كما تجدد الاعتبار لجوانب من الممارسة التراثية، تعرضت للتغيب ردحا من الزمن، فضلا على أنها تفتح باب قراءة التراث بعين التراث ومن أجل التراث.

 - خلاصات واستنتاجات:

 لقد وجدنا في تتبع أهم تمفصلات مشروع طه عبد الرحمن في قراءة التراث قضايا جديرة بالبحث والدراسة، وذلك من خلال ما أسست له الدراسات الحديثة في موضوع القراءة والتأويل، وكذا الدراسات المنكبة على التراث الإسلامي بمختلف تياراتها. لذا حاولنا أن نبدي بصدد هذا المشروع خاصة والدراسات التراثية عامة الملاحظات والاستنتاجات التالية:

١. أن قراءة التراث نشاط مولِّدٌ للمعاني وكَاشِفٌ للصور التي يتضمنها الإرث الحضاري الإسلامي، ومن ثم فإنها تعيد إنتاج المقروء، ويُصبح بعد القراءة موجودا آخر، ليس هو المقروء تماما، وليس هو القارئ بما هو عليه، وإنما هو مركب منهما معا بكيفية خاصة، فالقارئ يضفي على المقروء رؤيته، و ذاته، وخصوصيته، ويتولد من العلاقة بينهما مركب جديد، ولذلك تتفاوت قراءات هذا التراث باختلاف القراء، وكأن المقروء ثابت قبل القراءة، وتتغير صورته ومعانيه ودلالاته بفعل عملية القراءة التي ترتبط بخصوصية القارئ ورؤيته.مما يفرض على جميع المشتغلين بهذا الحقل الاستعداد لقبول التعددية في تفسير النصوص وقراءة التراث والاستعانة في ذلك بمناهج  العصر الحديث كعلوم اللغة والتداوليات والانتربولوجيا والنقد المعرفي، «بهدف تقديم إجابات حية لمعضلات معيشة، تضع حدا للمتابعة المكرورة للقراءات المتوارثة التي جعلت ?545;التراث?547; يقرأ بعيون موتى، لا بعيون الناس الذين برعوا في حل مشكلات عصرهم».(٢٢)
٢. إذا كان مشروع طه عبد الرحمن في قراءة التراث ينطلق من نظرة وصفت بالشمولية والتكاملية، وبأدوات مأصولة وليس بأدوات منقولة، تطالب النص التراثي بالتدليل على وسائله ومضامينه الظاهرة والخفية، وإذا كان كذلك رد فعل ضد القراءات التفاضلية والتجزيئية للتراث التي تبحث فيه عن نتائج مسبقة، وبأدوات مستوردة.أفلا يسقط طه عبد الرحمن في هذه النظرة التجزيئية التفاضلية التي يناهضها حين يكتفي بدراسة جزء هام من التراث الإنساني بأدوات تراثية خاصة، قيل عنها أنها مأصولة، وقد انتقل الجزء الكبير منها إلى الفكر الإسلامي من الفكر الأعجمي في مراحل سابقة؟ أليست هذه النزعة الذاتية-التراثية مفرطة تلغي تفاعل الثقافات الإنسانية، وتمنع تشييد ثقافة إنسانية تغني التفاعل بين الخصوصيات وتقفز على مختلف أشكال الحدود؟
٣. أننا في حاجة آنية إلى قراءة تراثية «تحرر الإنسان من سلطة النموذج وتفتح له سبل الإبداع»(٢٣)، وتفتح باب الاجتهاد، الذي صار شبه مقفل، بعد عصر الركود والانحطاط، عصر التلخيصات وشرح التلخيصات والحواشي وشرح الحواشي في مجالات المعرفة كافة، ذلك أن العقل الإسلامي النشط، الذي كان قادرًا على قبول التحديات والاستجابة لها، صار عقلاً يعيش على مخزونه - التراث - الذي أخذ يتناقص حتى اضمحلَّ في وعي المتأخرين، وتحول إلى أقوال تُردَّد وتلوكها الألسن، مثل عبارة: «الاستواء معروف والكيف مجهول والحديث عنه بدعة»،  «وفتاوى ابن الصلاح في القرن الثامن الهجري التي تؤكد أن تعاطي المنطق، تعلُّمًا أو تعليمًا، صار جريمة، ولا مجال إطلاقًا لذكر الفلسفة»(٢٤).
٤. أن قراءة التراث تتوقف على طبيعة الوعي الذي نرسمه لعلاقة التراث بالواقع، والتي يشترط فيها أن تعيِّن اتجاهين حركيين، من الواقع إلى التراث، ومن التراث إلى الواقع. وهذا ما يجعل التراث والواقع متلاحمين غير مفترقين، فقد «نلاحظ أن القرآن الكريم عندما نزل بشكل تدريجي كان يلاحق حركة الواقع، فمن هنا فأنت لا تستطيع أن تفصل الفهم القرآني عن حركة الواقع، لأن الواقع يمثل الجانب التجسيدي للمفهوم القرآني في حركة الإنسان»(٢٥)، فالعقبة الابستمولوجية بين التراث والواقع هي غياب الوعي القادر على استنطاق التراث لتوليد نموذج إجرائي يستوعب الواقع ويفعل فيه باتجاه المستقبل. وهذا ما يبرز قيمة الدراسات السيميائية والتداولية و الانتربولوجية والنقد المعرفي للتراث، لا بوصفها دراسات قبلية بل تتحدد بما يفرضه الواقع من دلالات جديدة، «فنحن لا نستطيع أن نعين الحلول من النص ]التراثي[، إلا إذا سبقنا ذلك بتعيين إشكاليات الواقع ومفرداته الجديدة».(٢٦)
٥. أن الثابت في نظريات القراءة سواء ما تعلق منها بالنصوص البشرية أو الدينية، أن النصوص مهما اختلفت تخضع لمنهج التأويل القائم على تفكيك المعنى، وفتح آفاق واسعة أمام تعدد المعنى، والانفعال بحركة كشف المعاني بألوان التفكير وأفق وعي القارئ.ومن الثابت في علم النص أن ثمة علاقة بين القارئ والنص، حيث لا وجود للمعنى إلا في الوعي البشري، «الذي هو نسيج من الأهواء والتقاليد والانفعالات والمؤثرات واللون الثقافي والحضاري، ويستوي في ذالك قارئا النص الديني والنص البشري، فكلاهما يحضران في عملية تناسل المعاني، وهما معا يصفيان من ألوان فكرهما لونا خاصا ومذاقا مفارقا»(.٢٧) فالنص، وباعتراف الجميع ليس مجرد جوهر صوتي فونولوجي وسيميائي معنوي، يشرع الإنسان في تفكيكه وكأنه آلة ميكانيكية جامدة.

الهوامش

(١) كريم الوائلي، الخطاب النقدي عند المعتزلة: قراءة في معضلة المقياس النقدي، دار مصر العربية، القاهرة ،1997 ، ص.٥.
(٢) نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص:دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الثالثة1996،  ص.234.
(٣) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي،الطبعة الثانية،1993،ص. ٢٣.
(٤)   نفسه، ص.81.
(٥) نفسه،ص.23.
(٦) نفسه،ص.23.
(٧) نفسه، ص. ٨١.
(٨) نفسه، ص. ٨١.
(٩) عبد القادر بودومة،«النص وآليات القراءة »، مجلة فكر ونقد، العدد٥٤، السنة٢٠٠٠، ص.107.
(10) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص.89-90.
(١١) نفسه،ص.243.
(١٢) نفسه،ص.246-245.
(١٣) نفسه،ص.٢٥٢.
(١٤) نفسه، ص. 254-٢٥٥
(١٥) نفسه، ص.256.
(١٦) نفسه، ص..258
(١٧) نفسه، ص273. .
(١٨) نفسه، ص..294- 293
(١٩) نفسه، ص.234.
(٢٠) طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط٢,٢٠٠٠، ص. ١٩.
 (١٢) طه عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط١,1998، ص.405.
 (٢٢) غارودي روجيه، الإسلام، ترجمة وجيه أسعد، دار عطية، الطبعة الأولى، 1995،ص.127
 (٢٣) شبيل الحبيب، «النص والقراءة»  ضمن:النص والقراءة في الثقافة العربية الإسلامية، أعمال ندوة٤-٥-٦أفريل ٧٩٩١، منشورات مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان، تونس 1999، ص. ١٣٣.
 (٢٤) مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مكتبة النهضة المصرية، ط ٣، 1966، ص ٨٥-٦٨.
 (٢٥) فضل الله السيد محمد حسين، « أثر الزمان والمكان في الاجتهاد»، ضمن : مناهج التجديد، مجموعة حوارات أجراها وأعدها للنشر عبد الجبار الرفاعي، سلسلة آفاق التجديد، دار الفكر المعاصر، بيروت-دمشق، ط١، ٢٠٠٠، ص. ٤٩
 (٦٢) صلاح الجابري، «النص والواقع إشكالية علاقة أم منهج»، مجلة المنطلق الجديد، ، العدد التاسع، 2006، مؤسسة الفلاح للنشر والتوزيع، بيروت، ص. ٨٦.
(٢٧)      Arkoun (M): (1984), Pour une critique de la raison
                      islamique, Maison Neuve et Rose, p : 231.
 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟