سلطان المغرب يرث العرش وأزماته. هكذا يظهر المخزن السليماني 1792-1822 وهو يجر وراءه إرث العقود التي سبقته: مشاهد متكررة من الصراع بين المخزن وقبائل جبال الأطلس؛ وفصول من تضارب المصالح بين القوى المحافظة مع النخب الحضرية التي بدأت تفرض واقعا جديدا على المخزن؛ ومتواليات خانقة من سلسلة القحوط والأوبئة كانت تزيد من تعميق صورة المغرب المتآكل من الداخل...حينما نُجَمِّع شظايا هذه الصورة يبدو المخزن كما لو بدأ يتخلى عن سيادته، ويهيئ نفسه لوضع يتجاوز إمكاناته.
من حق البعض، أن يقرأ تفاصيل هذه اللحظة المفصلية من تاريخ المغرب 1792-1822 ضمن مسار تاريخي كان مفتوحا على احتمالين: الانفتاح على الآخر، والانغلاق على الذات...وكان تفوق العنصر الأول على الثاني تحصيلا لمسألة اختلال التوازن بين ضفتي المتوسط. هكذا، فرضت تحولات العهد السليماني واقعا جديدا لا يمكن تفاديه تحت وقع أي سياسة ظرفية حكيمة. ظل السلطان مولاي سليمان يبحث عن خيارات بديلة، مرة لكسب ود القوى المحافظة "الزوايا، الشرفاء، أعيان المدن، وجهاء القبائل" التي ترى في الاستعداء من الآخر صونا لامتيازاتها، ومرة يقترب من النخب التجارية الحضرية من أجل توجيه الدولة نحو المركزة السياسية وتعزيز قدراتها المالية. كان الخيار الثاني، يسمح له بتحقيق الاستقلالية عن باقي المكونات التي تنازعه السلطة، وتجعله يتخلص من أعدائه التقليديين. فهل كان السلطان المولى سليمان ضحية سوء فهم لعمق التحول التاريخي وقتئذ؟ وهل كانت سياسة الاحتراز رد فعل لم يجار روح التحول في الضفة الشمالية لحوض المتوسط الغربي؟
إذا أردنا أن نحكم على التجربة السليمانية في المغرب علينا أن ننتبه إلى تفاصيلها الأخيرة. تفاصيل درامية يأتي صداها من بعيد. في سنتيه الأخيرتين 1820- 1822 بدا المولى سليمان وكأنه يرقب الوضع من خلف، يُطل على عرش منهار، ينظر إلى بيت داخلي تضاربت فيه المصالح، وقوى خارجية بدأت تشدد قبضتها على سيادة المغرب...يطرح المؤرخ المغربي محمد المنصور المختص في الحقبة السليمانية تساؤلا مشروعا: هل يتعلق الأمر بتنحي أم بخلع؟ هل يتعلق الأمر بتمرد حضري أم بأزمة حكم حقيقية؟ واضح من يعود إلى حوليات المرحلة سيصادف موقف إنكار تخلي السلطان عن العرش إثر فتنة فاس الشهيرة 1820 "تمرد انتهى بفشل" كما جاء في عبارة الناصري. الثابت، أنه يعكس بؤرة أزمة نسق اجتماعي لم يهتدي إلى بناء التوافق السياسي الذي ترعاه الشريعة الإسلامية.
لم تكن الطبيعة رحيمة بعهد المولى سليمان. جفاف 1817 كان حادا جدا في المغرب، ذَكَّر الناس بجفاف 1799. وزاد وباء 1818 من سوء الطالع. وقبل بداية القرن، كان سليمان استغل طاعون 1798- 1800 من أجل إعادة فرض الأمن على البلاد وجباية الضرائب على حد عبارة أكنسوس "وانقطع الوباء...وتمهدت المملكة لمولانا سليمان، فلم يعد له منازع ولا معارض...". ظن المولى سليمان أن التحول الوبائي لسنة 1818 سيعيد ما عجزت عنه السلطة المركزية لسنوات. وسيغير من تعقيدات النسق الاجتماعي بعودة المخزن إلى سياسة الانعام على المحتاجين وإغاثة المعدومين.
وقتها لم يفهم الناس في خضم الجذب المعاشي الذي خلفه جفاف 1817 وطاعون 1818 قرار السلطان مولاي سليمان السماح للفرنسيين بنقل القمح نحو الخارج وهو الذي اشتهر بعدائه للأجانب. قرار غير مفهوم لدى العامة، لكنه مجار لروح تحولات العصر من حيث تكثيف الضغط على السلطان. كان لهذا القرار أن دفع أهل الرباط إلى مهاجمة الميناء وتخريب منشآت التخزين. نقل القنصل الفرنسي في الرباط إدوارد سوردو في شأن ذلك مشاهد قاسية في توصيف حالة الخراب. وإذا كان الحال في الرباط كذلك، فإن فاس العاصمة السليمانية كانت أكثر تضررا، بارت تجارتها، وغشي أسواقها الكساد، وارتفعت فيها الأسعار...تدخل علماء فاس لتذكير السلطان مولاي سليمان بعدم تصدير المنتجات الزراعية إلى الخارج.
والحق، فقد كان لتزاوج الجفاف والوباء أن أربك حسابات المخزن السليماني: رحيل التجار الأجانب وانقطاع العلاقات؛ فقدان أطر الجيش؛ نزيف ديموغرافي حاد زاد من نماء مشاعر السخط الاجتماعي والشعور بالتعاسة الجماعية وعودة السجل الذهني المرتبط بالعقاب الإلهي...وكان مولاي سليمان عمليا قد سلَّم المولى سليمان آخر قطعة من أسطوله البحري سنة 1817 مُنهيا قوس الجهاد في تدبير العلاقة بين المغرب والقوى الأوربية، صارفا نظره عن شؤون البحر، مستعيضا عنه بالتوجه نحو تطويع القبائل و"تهدئة" البوادي لتحصيل الضرائب. لم يقتنع المولى سليمان بعد أن هذه العملية هي بدورها بدأت تتجاوز إمكانات المخزن، وأن أي عملية لإحياء التجربة الإسماعيلية ستزيد من تفكيك المخزن. قبله، كان السلطان محمد بن عبد الله على درجة عالية من الوعي بالتحول حينما أوقف عملية تطويع القبائل العاصية، وتوجه نحو التعايش مع السيبة بشكل حافظ على مصالح المخزن ولم يهدد وجوده.
في شأن ذلك، قرر المولى سليمان أن يشن هجوما مزدوجا على قبائل أيت أومالو في مرتفعات الأطلس المتوسط، يقوده من الشمال مولاي إبراهيم الابن البكر للسلطان، ومن الجنوب يتولاه السلطان نفسه. جمع بقايا جيش عبيد البخاري والأوداية وقبيلتي زمور وكروان في تادلة لبدء الهجوم على أيت أومالو. لم يدرك أن معارك الجبل، لا تنفع الذخيرة ولا العتاد، لا التهيؤ ولا العُدَّة، حيث الوديان الضيقة والمنحدرات العميقة والخبرة في التنقل بين الفجاج. كانت الهزيمة قاسية جدا على دوائر المخزن، وساهمت في اهتزاز صورة السلطان مولاي سليمان أمام رعاياه. اتهم بلغازي زعيم قبائل زمور وقائد "أمازيغ السهل" بالخيانة والاتفاق مع زعيم أيت أومالو أبو بكر أمهاوش. ما يهم من هذا الاصطدام وَقْع النتائج التي تركها، فقد المولى سليمان وريثه في العرش مولاي إبراهيم، وانهار حرسه الشخصي، وسقط في الأسر عند قبائل أيت أومالو. يقول القنصل الفرنسي: "...تمزقت خيمة السلطان، وتقاسمها المتمردون للاستفادة من بركة السلطان...".
ظل المغاربة يجهلون مصير مولاي سليمان، توارى عن الأنظار، شاعت الشائعات بموته، وبهزيمته ظل متواريا عن الناس لثمانية أشهر، واختلقت حوله الحكايات. حتى تنقلاته بين المدن كانت تتم بسرية، وأحيانا بطريقة متنكرة. هرب مولاي سليمان من تحمل مسؤولياته، وزاد تمرد جيش الاوداية من تأزيم العاصمة بنهبه الحي اليهودي في فاس. ترددت خلال هذه الفترة رسالة سلطانية بتاريخ 22 غشت 1822 إلى علماء فاس تُقر بضعف الجيش وضعف السلطة عن تحصيل الضرائب، تتضمن عبارات النصح من أجل التحالف مع القبائل الأمازيغية لتأمين سلامة الفاسيين "...احفظوا هذه الوصية، واحذروا فإن الدين النصيحة، اللهم أشهد فإن أردتم أمان أنفسكم يا أهل فاس فادخلوا حلف البربر فإن لهم قوانين ومروءة تمنعهم من الظلم ويقنعون بالكفاف..". فهل تحمل هذه الرسالة تعبيرا عن التنازل؟ ولماذا اختفت بعد ذلك؟ وما سبب تمزيقها؟ ولماذا حاول البعض صياغة نسخة جديدة منها؟
وضع الفراغ الذي تركه السلطان مولاي سليمان دفع بالقوى المحافظة المتشكلة من الزوايا والشرفاء والأعيان إلى الانخراط في جبهة معارضة لإنهاء حكم المولى سليمان. مقابل ذلك، ظهرت جبهة مؤيدة للسلطان تضم الجيش وقبائل السهول الأطلسية والبورجوازية التجارية. كان الحلم باستعادة مغرب مولاي اليزيد 1790-1792. حاول غريغوري لازاريف أن يمنح لهذا التمرد صفة الثورة، ثورة بورجوازية صاعدة تقاطعت مصالحها مع مصالح سلطان محافظ؛ أو ثورة ضد ""ملك رجعي أراد أن يجعل بلده خارج عصره. بالنهاية، فتحت هذه اللحظة البلاد أمام صراع داخلي بين فريقين، وأكدت على أن اندماج المغرب في حلقة الاقتصاد الرأسمالي خيار يتجاوز شخصية السلطان والقوى المحافظة التي تدعمه.