الشرق العربي بريشة الفنان الغربي - د. ناصر أحمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ledentظاهرة "الاستشراق" عموماً، والفني منه خصوصاً من أكثر الظواهر الثقافية والتاريخية والسياسية، مدعاة للتأمل والدراسة، وإثارة للجدل. ظاهرة "قديمة/ جديدة" لها من عمر الزمان قرون، ولمّـا تنتهي "جدليتها" بعد. فلقد أعاد"الاستشراق الفني" طرح نفسه بقوة، كما أُعيد صياغة الأسئلة المتعلقة به، وتسليط الأضواء عليه من خلال تواتر الأحداث والمؤتمرات والكتابات.

طرحٌ وأسئلة وأضواء شكلت صورة مشهد مركب ملامحه:"سرقة ونهب، وتهريب وبيع" روائعنا الفنية، وكنوزنا الأثرية إبان مراحل الأحتلال قديمه وحديثه. ومن ثم أضافة هذه الروائع، وتلك الكنوز (عاد منها ما عاد وبقي هنالك كثير) إلي العديد القابع ـ سراً وجهراًـ في  بيوت، وحوانيت، وقصور، ومتاحف الغرب، و"مؤامرات إستعمارية علي ثراثنا الفني (عنوان كتاب للدكتور سعد الخادم، الدار القومية للطباعة والنشر، 1966م)"، و"إسرائيل تسرق الفن المصري(عنوان كتاب لمحمد الغيطي، مكتبة مدبولي الصغير ، 1997م)"، و"تنامي عمليات تهجير تراثنا الفني"، ونسخ وتقليد الفنون "ذات الصبغة الاستشراقية"، وانتشار واسع للمعارض والمزادات الفنية في عدة مدن وعواصم عالمية، وإعادة "تسويق" الكثير منها بيننا، لتقتني بأسعار خيالية، ولنري"أنفسنا بعيون الآخر"، ولنحتفظ "بوثائق بصرية وبيئية وتراثية فريدة لبلداننا العربية"، ولسان الحال يقول:"ما المخرج؟، إنما هي بضاعتنا، وروعتها وسحرها.. (تـُباع) إلينا".


فهل كان الشرق.. و"روعته وسحره"، اختراعاً وابتداعاً غربياً؟، وهل ثمة ضرورة أملتها طبيعة التطورات والمصالح الجارية والمؤثرة أنذاك؟، وهل كان على الاستشراق أن يخلـُقه ـ أي الشرق ـ وفقاً لمعايير/ رؤي/أنماط بعينها؟ حسب ما يذهب المفكر الراحل "إدوارد سعيد" في كتابه القيم "الاستشراق"(إدوارد سعيد: الاستشراق، ترجمة كمال ابو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1981م، ص 39). وهل ينطبق ذلك علي "الاستشراق الفني"؟. وهل الذي حدا بـ"البنية المؤسسة" لخطاب الاستشراق، علي تعدده، و"الاستشراق الفني" علي تفرده، أن يصير (الآخر الشرقي) مطية لاكتشاف الذات (الغربي)، وبنائها ونموها"؟. تري هل عكس هذا النوع من "الاستشراق" ملامح الاحتكاك الثقافي التواصلي "التنويري"، أم الإستعلائي الإستنزافي "التزويري" الخادم لأغراض ومطامع الغرب في التوسع والإستغلال والهيمنة؟. أكان من تلك الأغراض والمطامع أن يُقدِم بعضهم (الشرق) في "صورة نمطية"، مازال أثرها باقياً حتي الآن، رمزا لـ"الجمود، والتخلف، والبداوة، والشهوانية، وعدم العقلانية، والقهر، والاستبداد الخ"، في حين يمثل (الآخر/ الغرب/ أوربا/ أمريكا) "الدينامكية، والتنوير، والتحضر، والعقلانية، والديموقراطية"؟.
وهل ما حمل الباحثين الأوربيين إلي ركوب البحر، وتحمل أخطاره الإقبال على متابعة ورصد "الشرق" من موقع "الغالب/ القاهر/ الغازي"، ثم "أتت الرياح بما لا تشتهي السفن" فأنقلب عدد منهم إلي "مغلوب/ مقهور/ مهزوم" أمام ثقافة الشرق، و"فتنته وسحره"؟. فما هو تأثير هؤلاء الذين لم يكونوا "مرتاحين" للثقافة الغربية، فوجدوا في الشرق ما لم يستحسنونه عندهم، حيث العلاقات المؤسسية/ والإجتماعية متوترة، ومشكلات التطور الصناعي بادية، فجذبهم "الحنين الرومانتيكي إلى عالم برئ"، و"غالبوا التأزم" الذي أوهن الكلاسيكيه المتاخرة، وقيّـد من موضوعاتها، وإبداعاتها؟. فهل نجح هؤلاء في "كشف/ إستكشاف" روح الشرق وتراثه، وشاعريته، وسحره الفني، ومبعث إلهامه، فأثري "استشراقهم" الحركة الفنية علي وجه العموم؟. تري هل شارك الشرق في "تنوير" طريق التشكيل، وصناعة اللوحة، والصورة البصرية؟. وهل استطاع أن يقدم أجوبة على "الأسئلة الإبداعية" التي مثلت محور "إشكالية" علاقة الفنان بثقافته الفنية، ومجتمعه؟. وألا يُقدر لتلك "المدارس الفنية الأستشراقية" أن  تتلمذ فيها وعلى أيدي معليميها أغلب رواد الفن التشكيلي العربي؟. ثم هل استنفد "الاستشراق الفني" أغراضه، وأعلن عن "موته"؟.

 

الاستشراق.. مفهوم واسع
الاستشراق (لغة) من الشرق عموماً (أقصاه ووسطه وأدناه)، وشرق البحر المتوسط خصوصاً، ومن شروق الشمس (فلكياُ)، والسين للطلب، أي: طلب الشرق وعلومه وثقافته وتراثه الخ. والاستشراق Orientalism مفهوم له عدة تعريفات منها: "دراسة/ تدريس/ الكتابة عن/ التعريف بلغات/ لهجات/ علوم/ شعوب الشرق، وطبائعهم، ومعتقداتهم، وتراثهم، وثقافتهم، وحضارتهم، وخصائصهم العمرانية والفنية، والرحلة إليهم. لكن علي طول مسيرته/ وأحداثه، وصوره (الديني/ الأيديولوجي/ الإمبريالي، والتاريخي، والثقافي، والفني، والأنثربولوجى، والاجتماعي، والإعلامي، والسياحي الخ.) ـ كان الاستشراق ولا يزال ـ جزءاً لا يتجزأ من قضية "التدافع" الثقافي/ الحضاري بين الغرب والشرق، فهو يمثل "الخلفية الفكرية لهذا التدافع"( د.محمود حمدي زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، كتاب الأمة رقم: 5،صفر 1404هـ ، قطر، ص:14). وقد شكل اهتماماً مزدوجاً، وولد آثاراً فكرية وثقافية، وردود أفعال علي كلا الجانبين. فمقارنة بين عالمين"الشرق، والغرب"، يعرض خلالها المستشرق Orientalist عالمه الغربي، وينغمس فى (طلب) الشرق، والتعريف بآدابه وفنونه وتاريخه وثقافته(راجع العديد من المواقع ذات الصلة بالموضوعات الفنية علي الشبكة العنكبوتية تناولت هذا الشأن، وقد نُقلت من بعضها الصور التوضيحية الملحقة بهذا المقال).
ولعل في "الوجه الأكاديمي" للاستشراق، المتسم بالأسس العلمية مستوي أعلي من الحيادية  والتجرد، إذا ما قورن بآخر: فكري (لعل الأعمال الفنية الاستشراقية تندرج في إطاره)، قائم علي "تمييز وجودي ومعرفي"، يطلق بعض "الأحكام والنظريات والتنميط" علي الشرق. أو وجه ثالث: يهدف إلى السيطرة/ السيادة/ الهيمنة/ التقسيم/ الاستنزاف لموارد وثروات الشرق، ناتج عن قوي سياسية إمبريالية في الغرب. فالمستويين الثاني والثالث ـ حسب "إدوارد سعيد"ـ يعبران عن التوجه الامبريالي.

مراحل ومعالم علي طريق الاستشراق الفني
من الصعب تحديد تاريخ معين لتعرف الغرب علي الشرق، ورغبته المستمرة في "اكتشافه"، وسبر أغوار هذا "الغريب، والعجيب، والمثير"!!. ولعل البداية كانت مع ظهور الإسلام، والاحتكاك به في عدة مناطق التماس،  ومواقع التدافع (سلماً وحرباً). وهناك من يؤرخ لبدايته "الرسمية" بقرار مجمع" فيينا" الكنسي عام 1312م، مصدقاً علي أفكار "روجر بيكون"(1214ـ1294م)، الداعية لتعلم لغات المسلمين، بإنشاء عدد من كراسي الأستاذية في بعض اللغات كالعربية والعبرية في جامعات أوربية (باريس، وأكسفورد، وسلامنكا، وبولونيا، وجامعة المدينة البابوية) (أنظر إدوارد سعيد: الاستشراق، م. س.، ص:80). بينما يري فريق آخر أنه يعود إلي النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي، ثم بلغ أوجه فى أواخر القرن الثامن عشر (فقد ظهر مفهوم مستشرق في أنجلترا عام 1779م، وفي فرنسا 1799م) وبداية القرن التاسع عشر (أدرج مفهوم الإستشراق في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1838م)( راجع ما كتبه مكسيم رودنسون في: "تراث الإسلام" ـ تصنيف شاخت وبوزورث، ترجمة: د. زهير السمهوري، سلسلة عالم المعرفة، ج1، 1978م، الكويت، ص 78).

بعد سقوط القسطنطينية 1453م، بلغ التأثير الشرقي مداه في عصر النهضة الأيطالية حاملا ً"سمات شرقية" بفعل التيارات الشرقية التي كانت تتمركز في بيزنطة. لكن سرعان ما انتقلت تلك السمات إلي عموم اوربا، وتوالت المدارس الفنية التي اتخذت من باريس محورا لإبداعاتها(للإستزادة د. زينات البيطار: الاستشراق في الفن الرومانسي الفرنسي، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 157، يناير 1992م، الكويت). وكان تجار المدن الإيطالية "كالبندقية وفلورنسا" قد شاركوا في تمويل الحروب الصليبية، وازداد احتكاكهم بالشرق الإسلامي، وغنموا "فنياً" بسلب نفائس الشرق، ومقتنياته. وبدت "إرهاصات" الإستشراق الفني في صور بعض القديسين، فأظهر الفنان "جوتو دي بالدوني" القديس "بطرس" (بطلا إيجابيا)، والسلطان العثماني "محمد الفاتح" (بطلا سلبيا) من خلال العمامة والرداء والسحنة السمراء. وهناك لوحة (عام 1499م) تمثل اعتقال القديس "مرقص" صورت القائمين على اعتقاله على هيئة (مسلمين)، في حين أن هذا الحدث قد وقع في القرن الأول الميلادي، حيث لم يكن الإسلام قد ظهر بعد.
بيد أنه إنبهاراُ بـ"سحر الشرق" وتأثرأً بروعة كنوزه الفنية، كتب الفنان الألماني "كارل هاج" عام 1858م قائلاً:"ليعلم هؤلاء الذين يبحثون عن مادة مثيرة يرسمونها أن يتوجهوا إلي القاهرة، وليعلموا أن هناك "قاهرة" واحدة فقط، وعلي الفنانيين أن يروها. فإني واثق من الحصيلة الرائعة التي سيعودون بها. إن كنوز الإلهام تكمن هناك علي ضفاف نيلها، وبين قلاعها ومساجدها، وفي شورارعها، وأزقتها ذوات الطابع الشعبي العربي الأصيل الخ. هناك سيختلط خيال الفنان بهذا الواقع المثير حقا ليجعل تلك الصور النابضة بالحياة أسطورة فنية شرقية خالدة"( انظر جمال قطب: كنوزنا المثيرة.. بصمات شرقية علي جبين الغرب، مجلة الحرس الوطني، مايو1986م، ص 132-135).
لكن بالمقابل في كتابه "السراب الشرقي" وصف "لويس برتران" الشرق:"بالمزبلة، فهو لم يلحظ اثناء رحلته، سوى الأوساخ والتعفن". ويضيف:" إنكم: لا تعلمون حقيقة الشرق إنه القذارة، والسرقه، والإنحطاط، والإحتيال، والقساوة، والتعصب، والحماقه. نعم إني أكره الشرق، وأكره الشرقيين، اولئك المعتمرين بالطرابيش والمتهللين بالسبحات".

بين "هاج"، و"برتران".. صُور للشرق علي أنه:"جنة عدن، وبستان يفوح عطرا،َ فيما للأنهار طعم العسل". بينما كان هناك من"يـُقومه سلبياً، وبنظرة فوقيه/إستعلائية"، ومن ثم وجب"تلقينه الثقافة/ الحياة الحقيقية"، و"توجيهه إلي ما يجب أن يكون عليه"، و"يبرر" للغرب الأمبريالي، عندما وضع ثقله العسكري والثقافي والحضاري بغية إعادة صياغة/ صناعة "هذا الشرق المُنحطً".
مهما يكن من أمر.. ليس من شك في أن إبداعات الرحالة، ومشاهدات الحجيج، وتقارير الباحثين، والارساليات، والقناصل والخبراء، وضغوط المصالح السياسية (في النصف الثاني من القرن التاسع عشر) جوانب قد ساهمت في ازدياد كثافة الوعي العام/التعرف الغربي بالشرق. ومنذ العام 1870م لم يعد الفن الاستشراقي مقتصرا على الفرنسيين والبريطانيين فحسب، فعقب الحرب ضد بروسيا، استقبلت باريس عددا كبيرا من الفنانين الاوروبيين والاميركان، وتوالي إبراز سمات الفنون الشرقية في المعارض الفنية (كمعرض باريس عام1900م، الذي أرتاده حوالي 39 مليون شخص)، وديكورات عروض السيرك والمسرحيات فى المدن الأوربية.

لقد أضحت "الموضة التركية" سمة في حياة الطبقة الأرستقراطية من النبلاء والدبلوماسيين والفنانين والنسوة الذين ساروا فى شوارع باريس بالقفطان والعمامة وزي النساء الشرقيات، يقول الأديب التركي "أورهان باموق" الفائز بجائزة نوبل للآداب2006 م متحدثاً عن تلك الفترة، حيث كانت اسطنبول إحدى أهم مقاصد المستشرقين:"لا يعرف شعب اسطنبول كيف يرسم نفسه ومدينته، ولا يهتم بهذه الأمور كثيرا، وعند حدوث الفراغ لا بد لأحد ما أن يملأه، وقد سارع الغربي لملئه". لكن هل يمكن ملء هذا الفراغ "التعبيري" في عجالة سبعين يوما قضاها الروائي"تيوفيل غوتييه" في اسطنبول لينجز كتاباً عن: "السلطان، والحريم، والأسواق، والأحياء، والملاهي، والمقابر، والمطاعم الخ."؟. وهل تلك الفترات القصيرة التي قضاها فنانين فرنسيين ("كريبان" و"لونغلوا") كافية (لإبداعهم) موضوعات فنية، أم كانت "عملا" يخدم للمشروع الاستعماري. فمع بلوغ الموجة الاستعمارية ذروتها، وتعبيد الطريق أمام تقسيم الإمبراطورية العثمانية، وتوزيع ممتلكات "الرجل المريض"، شكلت "الكتابات والأحكام والأوصاف والمفاهيم " التي كونها الرحالة الأوربيين القاصدين الأصقاع العربية الإسلامية كثيرا من الرؤية الغربية عن الشرق العربي. وهي رؤية ـ لعلهاـ ما زالت حاضرة في ذهن الكثيرين (على الرغم من توفر الوسائل/الفرص للتعرف المباشر علي الشرق)، مما قد يعكس (تعالياً ثقافياً)، وجهلاً للكثير من الأمور عن الشرق والشرقيين.

كان لنشر كتاب"قلم الطبيعة لـ"هنري تالبوت"عام 1844م في لندن، مدوناً فيه خلاصة تجاربه، وطريقته في طبع الصور، وتطور الابحاث الخاصة بالضوء، واختراع آلة التصوير، وتطور تقنيات الطباعة، وتأسيس"الجمعية الفوتوغرافية الملكية"بلندن، ودخول الصور الفوتوغرافية في الصحافة اليومية (خلال 1880م في الصحافة الاوربية، وفي الصحافة العربية 1908م)، وظهور البطاقات البريدية (1893م)  لتحمل صورة/ تفصيلا ما في مدينة، مما جعلها مصدراً مهماً لدراسة التطور العمراني والحياة الاجتماعية في تلك المدن والبلدان.. "آثارأ تجديدية"، وثروة "معرفية بصرية" جديدة وواقعية، ومرحلة هامة علي طريق الاستشراق الفني.. فهماَ، ورؤية، وتعبيراً عن المشاهد على حقيقتها، بتفصيلات وتركيبات محددة، دون تجميل أو تزييف. يقول المؤرخ "تشارلز هنري فافرود":"إن الصورة الجديدة بالأبيض والأسود قد كسرت الحاجز الوهمي الذي بنته اللوحة الاستشراقية بين "الشرق" و"الغرب"، وحلت محل تلك الصورة المتخيلة عن الشرق. فلقد أظهرت هذه الصور الجديدة للأوربيين وجود تداخل بشري وحضاري في بلدان حوض المتوسط من إشبيلية إلى استنبول، ومن مضيق جبل طارق إلى قناة السويس. فمظاهر المدن والمباني، وملامح الناس أصبحت توضح ماهو مختلف/ مشترك بين شعوب وحضارات المتوسط وشرقه".
مع تغلب التيار الواقعي للتصوير الاستشراقي، حمل العديد من الفنانين "آلاتهم الفوتوغرافية" في سفرهم الى الشرق (كما فعل الإيطالي "فوستو زونارو"1854- 1939م، في الجزائر والقاهرة واستنطبول)، فوصلت تلك الصور إلى طوائف شعبية غربية عديدة، ما أدي لتغير بعض المفاهيم والأحكام عن الشرق.

جوانب مؤثرة علي مسيرة الاستشراق الفني
لاشك هناك "مؤثرات" علي مسيرة الاستشراق الفني كانت بين سطور، وفي خلفيات، وعلي هوامش الحملات الصليبية المتعددة والمستمرة لنحو قرنين من الزمان. فإذا كانت لتلك الحملات آثارها السلبية الفادحة على الشرق العربي المسلم، فتأثيرها الإيجابي كان كبيراً على الغرب، بما نقلته من معارف وعلوم وآداب وفنون وعمارة الشرق.  أثر كبير آخر، ومصدر إلهام وإنبهار وإندهاش كثير من الفنانين الغربيين شكله نشر ترجمات "ألف ليلة وليلة" أو "الليالي العربية"(Arabian Nights)، إلى اللاتينية والفرنسية (جمعها وترجمتها "أنطوان جالان" خلال 1704-1711م، ثم أهداها إلى الملك "لويس الرابع عشر")، ثم إلى الإنجليزية والألمانية والبولندية. لقد كانت هذه القصص والحكايات مادة غنية للوحاتهم وإبداعاتهم الأدبية (- للمزيد راجع: جوستاف إ. فون جرونيباوم: "حضارة الإسلام"، ترجمة عبد العزيز توفيق، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1997م، الفصل الثالث: النقل الخلاق.. يونان في ألف ليلة وليلة، ص373 وما بعدها)، ومُحفزا للكثيرين منهم علي طلب الشرق. لكن هذه الترجمات المتعاقبة لعلها ساهمت في خلق وتكريس "صورة نمطية عن الشرق الدموي، المضحك، الساذج، المتعصب دينياً، الشهواني المادي الحسي الخ " في المخيال الشعبي الأوربي.

كان الشغف الغربي أيضا كبيراً بـ"عمر الخيام" و"رباعياته"(ترجمها"فيتز جيرالد" إلى الإنجليزية، ومنها إلى العربية)، وتأسيس نادٍ يحمل اسم "الخيام"فى لندن، كما بدا تاثيره في ولع مبدعين كُثر به (كـالأسباني"لوركا"). هذا الأثر، وذلك الشغف، وتلك الرؤية للأدب/ الفن الشرقي "وأسراره وأستاره واساطيره" ولد صورة خيالية "ساحرة ومبهرة" عن الشرق، كما أنعش الحركة الأدبية/ الفنية فى أوربا بأكملها.

كان عمرها قصيراً، ودورها كبيرا، وجدلها ـ مازال ـ كثيراً: وهل كانت تنويراً، أم تزويراً؟ (د. ليلي عنان: الحملة الفرنسية.. تنوير أم تزوير؟، كتاب الهلال، العدد 567، مارس 1998م). فقد رافق جيش الحملة الفرنسية على مصر والشام (1798-1802م)، "جيش آخر تكميلي" من العلماء والفنانين (لجنة العلوم والفنون الملحقة بالحملة، ومهمتها الأساسية"تحضير وتنفيذ استعمار مصر لصالح فرنسا"). وبدا جلياً خلال تلك الفترة "غلبة السياسي علي الفني"، فكان الفن " مكرساً لخدمة الإمبراطور "بونابرت" و"أسطورته، وسياساته، وحملاته، وإمبرياليته، وتحويل هزائمه إلي إنتصارات"، وفي ذات الوقت كان يُظهر نفسه "راعياً" للفن والمواهب الفنية"(د. مصطفي عبد الغني: حقيقة الغرب: بين الحملة الفرنسية والحملة الإمريكية، ضمن مشروع مكتبة الأسرة، 2001م، مصر، ص 130-139، وايضا د. زينات البيطار م. س). فقد قام هذا الجيش التكلميلي بـ"وصف مصر" لفرنسا.. وصفا مرجعياً موسوعياً شاملاً غير مسبوق في (24) مجلداً، مع شروح بالصور والرسومات واللوحات. لكن قبل إصدار تلك الموسوعة بسنوات كان لكتاب "فيفان دينون":"رحلة إلى مصر العليا والسفلى أثناء حملة نابليون" أثر ضخم فى تشكيل الطابع الشرقي فى فن التصوير الفرنسي. فقد ضم هذا الكتاب صوراً، و"توثيقاً" للحياة والبيئة الطبيعية المصرية، والمعابد الفرعونية، والطقوس الدينية، وأنماط الكتابة الهيروغليفية، ومظاهر العمارة الإسلامية، والشخصيات الهامة من مختلف القوميات، كما سجل سير معارك "بونابرت" فى مصر.
شكل وصول "محمد علي" باشا الى حكم مصر 1805م، وإنفتاحه على فرنسا، وإبرام إتفاق 1814م، وحروبه مع الدولة العثمانية، والاكتشافات العلمية الأولى عن آثار/ حضارات وادي النيل وبلاد الرافدين، وظهور"المسألة الشرقية"، والحملة الفرنسية علي الجزائر(1830م)، والتدخل العسكري الأوربي في المنطقة(1840-1841م)  جوانب مؤثرة في فتح أبواب مصر/الشرق أمام عشرات الكتاب والفنانين الأوربيين (بلغ عدد الفنانين والرسامين الفرنسيين فقط الذين زارو الشرق في النصف الأول للقرن التاسع عشر حوالي 150 فناناً). مما ساهم فى تفعيل "الموضوع الشرقي" وفنونه فى المدرسة الفنية الفرنسية، وخاصة من قبل الرومانتيكيين. مما تجلي فى وجود مئات اللوحات الشرقية التشكيلية فى متحف اللوفر بباريس وصالوناتها. كما نجد بصمات "السحر الشرقي" باديا علي جدران الأكاديمية الملكية بلندن، وفي بعض ملامح الفن المعماري في روما وامستردام وفيينا وبعض عواصم اوربا.
ولا يغيب عن البال ما كان لحفل افتتاح قناة السويس (نوفمبر 1869م) الذي أقامه الخديوي"إسماعيل"، ومظاهر البذخ البادية من أثر ملحوظ فى "اندهاش" الغربيين وانبهارهم بمصر والشرق. فبهذا الاحتفال "الاسطوري" أراد الخديوي لفت الأنظار إلى مصر وحضارتها، فضلا عن محاولته إظهار استقلاله عن الآستانة، مما أوقع مصر تحت طائلة الديون الكبيرة. "أندهش" الغرب، و"ذاعت" الحكايات، ووقعت مصر تحت قبضة الاحتلال البريطاني1882م.

سمات/ موضوعات النزعة الاستشراقية الفنية
- كان معظم المواد التصويرية الأولى (بداية القرن الثامن عشر) "رسوماً من الخيال"، أعتمدت على نصوص العلماء/ الرحالة الذين زاروا الشرق. لكن فى جوانب أخري لم تكن "فانتازيا" وإنما كانت "حقائق" لما يوجد عليه الشرق بالفعل. علي أية حال لقد نافس"النص/ الاستشراق التصويري التعبيري" الكتابة الاستشراقية.
- ساهم الاستشراق في إبراز/ تصنيف/ وتوثيق "الهوية الجمالية" للفن الشرقي عموماً، وأهميتها وتجلياتها، ووحدة "الفكر الجمالي" في الفنون الإسلامية، وخصوصيته، وإبداعاته. "هوية وفكر" تؤطر لـ"ثالوث الإبداع": الجمالي والأخلاقي والنفعي. كما لم تقتصر إبداعات الفنان ذي النزعة الشرقية على ما هو "بصري جمالي"، وإنما حاولت الغوص في الدلالات الإجتماعية والثقافية والاقتصادية، التي تقف خلف الإبداع الفني التشكيلي. مما أدي إلي التعريف بـ"ثقافة عريقة" كانت في المفهوم الغربي في ذلك الحين "ثقافة بربرية". كما عكس بعض مظاهر"التلاقح الفني" وبروز جمالياته في صلب الحضارة الأوربية في عصر التنوير، والرومانتيكية، والانطباعية، ورواد الحداثة، مما ساهم في إثرائها وتطورها.

- شملت موضوعات النزعة الاستشراقية الفنية تسجيل غالب مظاهر الحياة فى الشرق.. من حياة السلاطين والأمراء والحكام، والحروب، ومعالم البيئة، والطبيعة، ورسوم الآثار، ونقوشها إلي مظاهر الحياة اليومية والأعياد والعادات والتقاليد (لوحة"أطفال أتراك قرب النافورة" الفنان الفرنسي "ديكان")، وأسواق العبيد، ومشاهد الطرب. فضلا  عن الأنبهار بعمارة المساجد والأسبلة والبيوت، والسجاد، والبسط، والأزياء الشعبية (شاع ارتداء النساء الغربيات للزى الشرقي من العباءات، كما تم تصوير التجار الأوربيين بالزى العربي، ورسم الفنان "فيرونير" شخصياته العرب بقماش البروكار المصنوع من الخيوط الحريرية الطبيعية تدخل فيه المادة الذهبية والفضية لتزيد من جماله وبهائه). وكان لإبراز مظاهر الحياة الواقعية (بعيدا عن تلك المتخلية)، مع محاولة إضفاء "الطابع الإنساني" على الواقع الخارجي، والبحث عن مكامن الجمال أثرا كبيرا في تميز تلك اللوحات بالدقة والثراء والوضوح والتجديد. كما شكلت تلك الموضوعات الإبداعية "سجلاً وثائقياً فنياً"، وإطلالات علي قراءة تاريخنا وواقعنا الشرقي أنذاك بشكل منظور.
- أهتم الاستشراق الفني كثيرا بفنون العمارة/ المدن العربية الإسلامية (القدس ودمشق والقاهرة وبيروت والمغرب العربي الخ) وكثف الفنانون محاولات نقل جمالياتها وخصائصها المتميزة، والفريدة أحياناً، فى لوحاتهم("كارباشيو" صور المسجد الأقصى، ومسجد عمر من مخيلته). ببروز الأنماط المعمارية الإسلامية من الأرابيسك والنقش والزخرفة الهندسية والألوان المزركشة فى الفنون التطبيقية.. بدت أحياء في باريس كأنها جزء من القسطنطينية. وكان "التواصل" في فن العمارة والنحت علي عهد "بونابرت" بادياَ في تزيين بعض الحدائق والجسور بالمسلات الجرانيتية، واستخدام فن الأرابيسك لتزيين جدران القصور (مثل قصر شقيق نابليون)، تزيين رؤوس الأعمدة بأشكال زهرة اللوتس والنخيل أو شكل الأهرامات، واقتناء الأواني الخشبية والنحاسية والسجاد الإسلامي، وزراعة الحدائق بالزهور والنباتات المنقولة من مصر.

- لكن من بين تلك الموضوعات المتعددة والمتنوعة التي طالتها يد الفنان المستشرق.. شكل الأنشغال والأشتغال بموضوع "المرأة الشرقية، وعالمها المجهول/ الغامض/ الجذاب، والبعد الجنسي/ الحريم/ الحرملك/ الجواري (وخاصة العاريات)/ حمام النساء" "بضاعة فنية" رائجة، و"فانتازيا شرقية"، بإمتياز. فالعلاقة الرومانسية بالمرأة تشكل عند الفنان رافداً جمالياً مثيراً للابداع. كما أنه كان من الصعب تصوير "المرأة الشرقية" والدخول إلى عالمها فى البيوت المغلقة لاكتشافه وكشفه. لذا عابثت فكرة (الحريم) خيال كثيرين من الفنانين الاوروبين كلما ذكر الشرق"إنه أكثر تحررا من القيود الأخلاقية، مقارنة بأوربا المحافظة في ذلك الوقت" علي حد قول الكاتب الهولندي"يان دو هوند". والذي يضيف: "بعض الفنانين كانوا يريدون الهروب من القيود الجنسية المتشددة، وكانوا يرفعون من شأن الشرق ويعتبرونه مكانا تتوفر فيه حرية جنسية لم تصبها بعد قيود المحرمات الإجتماعية، فكان الشرق بالنسبة لهم كجنة للحب المتحرر، مما جعل بعضهم أسري حلم من يرى نفسه سلطانا محاطا بعدد من الغيد الحسان. وكان لبعض هؤلاء الفنانين محاولات للتغلغل في عمق ظاهرة الحريم، وتعرية هذا العالم، للوصول الى الحقيقة، والبيوت المغلقة من الخارج، المفتوحة على ايوان تطل منه السماء من الداخل"(من مقال منشور علي الموقع الألكتروني لإذاعة هولندا العالمية باللغة العربية).
- يعد الفنان "جين أوغست دومينيك أنغرز"(1780–1867م) مدير الأكاديمية الفرنسية للرسم أحد الذين قدموا لوحة استشراق جنسية نموذجية هي "الحمام التركي". كما إن الفنان الفرنسي الشهير"أوجين ديلاكروا"(1798-1863م) ـ الذي أقام فى الشرق لفترة، وسافر إلى المغرب والجزائر ـ كان قد شاهد "الحرملك" بالجزائر، وفور عودته الى فرنسا، شرع في رسم لوحته الشهيرة "نساء الجزائر" معتمدا على ذاكرته. فنسخ هذا الموضوع بأسلوب ينضح شاعرية ورهافة ورخاء زخرفياً شرقياً يذكرنا بعالم ألف ليلة وليلة. فهل كانت تلك اللوحات تعبر عن "شرق حقيقي"؟. لقد نتج عن "صعوبة الوصول لعالم المرأةالشرقية وغموضه" محاولة الفنان الاستيهام بتصويرها "عارية"، فضلا عن أن حمام النساء "موضوع خيالي بالنسبة إلى الرجل"، كما إن أكثر الجواري اللواتي كن موضوع لوحات الفنانين (الذين لم تطأ أقدامهم الشرق) قد رسمن اعتماداً على " تصورات ذاتية"، ومستقاة من أفكار "قالبية" تقف ورائها صور "الجواري الغربيات الأسيرات"، أو اعتماداً على "موديلات" نسائية أوربية وفى مراسم غربية.

- مثل "قبح الرجل" موضوعاً رديفاً لموضوع المرأة/ الجنس. فغالباً ما كان (السيد/أو الرجل الشرقي) المحاط بالجواري قبيحاً، بلحية غير مشذبة، بينما الأنثى مرسومة وفق المقاييس الجمالية لتلك الفترة (اكتناز الأرداف والسيقان).
- شكلت الحروب بين الغرب والعرب، والعنف، وصورة الدم، وقطع الرؤوس صوراً مألوفة ومؤثرة على الرأي العام الغربي (كان النخبة انذاك) وكانت موضع اهتمام فني استشراقي/ إمبريالي. فلوحة "بونابرت يزور مرضي الطاعون فى يافا" للفنان "جيرو" عام 1804م، والتي تُعد من رائدة في هذا الفن، صورت نابليون كأنه"المسيح" في حركته (أنظر كيف يشفي المسيح الأبرص.. إنجيل مرقص، الإصحاح الأول 40-42)(د. مصطفي عبد الغني: حقيقة الغرب، م. س.، ص: 136). لقد رسمت هذه اللوحة تحت إمرة وتوجيهات نابليون بعد عودته إلي فرنسا، ولتاكيد "أسطورته" في الشرق. اندلعت الثورة اليونانية 1821م، وتدخل الأسطول المصري الى جانب العثماني، في مواجهة الأوربي في"نافارين"، فتناولت تلك الأحداث سريعا أعمال كبار الفنانين الاستشراقيين كـ"ديلا كروا" في لوحته"مذبحة هيوس"1924م، و"آري شيفر" في لوحة "آخر المدافعين عن ميسولنجي" وغيرها، حيث يلاحظ إشارات وإيحاءات واضحة حول ثنائية:الشرق/الغرب، والإسلام /المسيحية، والشر/الخير. كما يلاحظ في لوحات "ف. فوربان": "خرائب تدمر"، و"خرائب في الصعيد"، و"عرب فوق خرائب عسقلان" تكريس الصورة النمطية السلبية عن "الشرق المتخيل" كمعيق للتقدم، حيث إن وجدت فيه حضارة سالفة (قبل الإسلام) فهي في حالة "خراب" بانتظار من يأتي لـ"يرممها"، ويعيد للمنطقة "حيويتها".

- هل الشرق "المطروح فنياً" في تلك الموضوعات "السلبية" هو "شرق أفتراضي متوهم"؟. لكن ألم يكن هناك مئات الجواري ضمن الحريم؟، ألم يكن ثمة واقع بائس للمرأة وفق مقاييسهم؟. غرف الحريم موجودة، والأسيرات حقيقة تاريخية، لكن قضايا "الجنس والعبودية" لم تكن غائبة عن أوربا أيضاً. يبدو أن ما تم تناوله في تلك اللوحات يعكس "هموماً محلية"، تناغمت مع معطيات الفن في تلك الفترة (من خصائص المدرسة الرومانتيكية تركيب العناصر لخدمة الموضوع). فلوحة"الحرية تقود الشعب” لـ "ديلاكروا" هل يستطيع أحد الادعاء بأنها تعكس واقعاً؟، فلماذا الألحاح بأن ينعكس الواقع، وعدم إعتبار رؤية الآخرين في اللوحات الاسشراقية؟.

الاستشراق، والرومانتيكية
في الثورة التشكيلية الأولى في عصر النهضة تمحور التجديد شكلاً في استنباط قواعد المنظور، والظل والنور لإيجاد لوحة أكثر إقناعاً. أما علي صعيد المضمون فقد حاول الفنان أن يتناول الموضوعات الإنسانية، أو إضفاء البعد الإنساني على اللوحات الدينية. ولم يكن أمامه من متسع للبحث بعيداً عن محيطه الذي مازال بكراً على فن الرسم. وجاءت الكلاسيكية الجديدة لتتناول موضوعات تغوص في الجذور الفنية الإغريقية لتقديمها وفق معطيات حاضرها. وإذا كانت هذه المدرسة قد وسعت آفاق الموضوع، فإن البعد الأيديولوجي جعلها تحصر نفسها في إعلاء الموضوعات/ القيم/ الأبطال الغربيين. لم يكن ثمة دافع في تلك الفترة للاتجاه نحو الشرق، ولم يكن فن الرسم شعبياً، بل خاطب نخبة النخبة. ولعل هذا ما جعل الموضوعات محدودة، وتحمل اكتفاءً ذاتياً يسد الطلب على اللوحة.

إذا عُد الاستعمار "أزمة رأسمالية" يبغي الحل في البحث عن أراضي وأسواق ووسائل إنتاج ومواد وموارد جديدة، من أجل الأجيال الغربية المتأخرة المطالبة "بحقوقها الليبيرالية"، ومن أجل "مغالبة" زحمة تطوره التكنولوجي المتسارع والمخيف بعد الثورة الصناعية. كذلك عانت الحركة الفنية في أوربا عموماً، وفي فرنسا خصوصا من "أزمة حادة" مردها خيبة الأمل من تحقيق الأفكار الجمالية والفنية التي نادت بها الثورة الفرنسية (ضرورة تحرير الفن والفنانين من قيود إحتكار السلطة والإقطاع، وتطوير الذوق الفني وأهميته لدي مختلف طبقات الشعب، وديموقراطية الإبداع ورعايته وإزدهاره، وأخلاقية الفن، وجعله عمادا للدولة الخ). كما أن الموضوعات الفنية كان قد أصابها "فقر شديد" وتكرار ممل، و"أدلجة/ وإحتواء سياسي" فلم يبق أمام فنانيه سوى البحث عن حلول لتلك "الأزمة" المركبة.
جاءت الرومانسية باعتبارها "ثورة ثانية" في الفن التشكيلي، مقتربة من شرائح أوسع من الناس، معترضة علي "كلاسيكسة" النبلاء، وقواعد وأنماط الشكل والمضمون الأرستقراطي المستبعد لقضايا "العامة". كما جاءت أحتجاجاً علي "دنيا الآمال الضائعة، وعلي التفاهة والتجهم اللذين تلتزمهما دنيا الأعمال والأرباح، فاندفعت نحو الوحشي والغريب، ونحو الآفاق التي لا تحدها حدود، نحو"الذات الكونية/ الشخصية غير المحدودة"، حيث الرومانتيكيين الكبار قد أعجبوا "بنابليون"، لكن الرومانتيكية ارتبطت وأحتفت أيضا بحركات التحرر الوطني"(بتصرف، أرنست فيشر: ضرورة الفن، ترجمة أسعد حليم، مركز الشارقة للإبداع، د.ت.، ص 76).
لقد وجد هؤلاء في المشرق والمغرب العربيين، إنفتاحًا (بقي سائداً حتى العصر الحديث) علي موضوعات/ مواد غنية "غرائبية/ نادرة" لفنهم وإبداعهم (والغرابة والندرة من مقومات الجمال)، كما وجدوا في سحر الشرق المفعم بالحكايا والاساطير والغموض المثير، نبعا تموج به الحياة وتتجدد، وتستشرف من خلاله الروح، قيماً فنية/ انسانية/ ثقافية زاخرة متجددة. هكذا تحول المشرق الى وحي وملهم لعدد كبير من الفنانين الغربيين. فرصدوا جملة هذه المظاهر، بلغة فنية رصينة، متقنة، تذكرنا بالمعلمين الكبار من الفنانين التشكيليين الذين وصلوا في فنهم الى تقنية عالية في تصوير الواقع، وصلت الى حد الإبهار المدهش والمثير). حملت الرومانسية بذور هذا الانفتاح على العوالم الأخرى.

نماذج لفناني النزعة الاستشراقية
- بدت ملامح سمات الطابع الشرقي.. معماراً، وأرابيسك، وزخرفة هندسية، ونقش، ورقش، وسجاد، وبسط، وأنسجة فى لوحات الرسام الهولندي المبدع "رامبرندت فان ريجن"(1606-1669م).
- من طليعي هذا الفن.. الألماني "أنطوني إغناس ميلينغ"، من مواليد عام 1763م، درس النحت على يد أبيه، والرسم والعمارة على يد عمه، وسافر إلى اسطنبول في التاسعة عشرة من عمره، وبقي فيها ثمانية عشر عاماً. عمل بجدٍ (مستشاراً فنياً) مع السلطانة "خديجة". لكن أنهت حملة "نابليون" فترته الذهبية في اسطنبول، حيث ساد جو التوجس من الغربيين، فقطع راتبه، وعاش الفاقة، مما اضطره للعودة إلى بلده. من أهم إنجازات "ميلينغ" كتاب يضم (48) لوحة حفر لاسطنبول (عكس جمالياتها بمهارة فائقة في تأثيرات الظل والنور والتفاصيل المعمارية للأبنية، والقوارب الطافية على سطح الماء، ومناظرَ البوسفور والمناطق المحيطة به).

- الرسام "أنطوان جان جيرو" (1771-1835م)، مهد للاستشراق الفني، بالرغم من كونه لم ير مصراً. بتوجيهات ولأغراض دعائية، مثل "جيرو" كما العديد غيره، علب دورهم "الأيدلوجي علي الفني"، فكانوا يخدمون سياسة"بونابرت، ويُمجدون أسطورته". فلوحته "بونابرت قبل معركة الأهرامات" تُظهر:" بونابرت وقد مد ذراعه مشيرا إلي الأهرامات الثلاثة الموجودة في مؤخرة الرسم، وبجواره ضباطه، بينما في أسفلها جسد زنجي ميت، ومن تحته رجلين مهزومين، أحدهما مملوك، والآخر عاري الجسد، ينظران إلي بونابرت، وقد رفعا أيديهما في توسل". لوحات عدة أعلت من شأن"عظمته الآتية من الشرق" وليس الغرب، و"انتصاراته الكاسحة" بجواده القوي الأصيل، وبأس جنوده، وهزائم خصومه، توسلات ترتفع من اسفل، حتي عن كانت تلك التوسلات هي توسلات الجند الفرنسيين المصابين بالطاعون (للمزيد من هذه اللوحات وغيرها أنظر د. ليلي عنان:م.س.، ص224، وما بعدها).
- "تيودور جيريكو" (1791-1824م) يُعد من مؤسسي الرومانتيكية فى التصوير الفرنسي، وقد اهتم بتصوير الشخصيات الشرقية كما في لوحته"المملوك" بمتحف أورليان.
- من بين عائلة متواضعة ولد الرسام "دافيد روبرت" فى "ستوك بريدج" في إدنبرة باسكتلندا (1796-1864م)،. لكن "دافيد" كان طموحاً، فعلم نفسه بنفسه، وشغف بالسفر للشرق (1838م). وابدع ما يقرب من (250) عملاً فنياً تصور رحلاته لمصر والنوبة والأراضي المقدسة.
- الفنان الفرنسي الشهير "أوجين ديلاكروا"(1798-1863م)، يعُد "زعيم الرومانتيكيين"، فقد سجل الكثير من الأعمال الفنية، بادئأ حياته الفنية بالفن الإغريقي، ثم تحول إلى الشرق تاركاً العديد من اللوحات الشرقية تعرض لخبراته وإبداعاته. برع فى فن البورتريه وإنعكاساته الإنسانية. وعلى الرغم من افتتانه بالشرق:"العظمة الحية تجرى هنا فى الشوارع، وتحتويك بحقيقتها"، ومحاولات تغلغله في أكثر عناصره غموضا وسحرا، ليكشف عن "ماهيته الحقيقية" نراه فى بعض الأحيان يقدم الشرق بصورة سلبية، كما في لوحة "موت ساردانابال" الموجودة في متحف اللوفر. وفيها يصور:(استلقاء الملك الفارسي "ساردانابال" على فراشه، محاطاً بجواريه وخدمه وخيوله ومجوهراته، منتظراً إشعال النار من إحدى خادمات القصر، لتلتهم الجميع دون استثناء).

- برز بتأثيره الكبير على "ديلاكروا، وجيريكو، وفرنيه" حتى اعتبره البعض "أبو الاستشراق الفني". كان "أوغست جيل روبير" قد زار الشرق (اليونان وتركيا وبلاد الشام ومصر) في 1817م وأثار اهتماما كبيراً بعد عودته بأحديثه وبلوحاته عن الشرق. مع "روبير" بدأ التوجه نحو "الغرائبية"، وخاصة في إبراز ذلك الجانب المخفي المتعلق بالمرأة.
ـ"أوجين فرامونتين" (1820ـ 1876م)، فرنسي أنتمي إلى عائلة عريقة معروفة بالمحاماة والقضاء، لكنه اختار الرسم. اقتنع "أوجين" بمذهب" ديلاكروا"، فراح يقتفي مسلكه، واختار هو كذلك الشرق المحتل من فرنسا كموضوع لنسج رسوماته "الغرائبية"، وأضفى على لوحاته بعدا تاريخيا بتركيزه على ما هو نابض في هذا الجنوب من ثقافة وطبيعة وسلوكات وعبادات مغايرة للشمال. لم يقتصر "أوجين" على اختيار "الساحل" كموضوع  للوحاته الفنية، بل اكتشف "عذرية" الصحراء الجزائرية التي كانت بمنأى عن أعين الرسامين الكبار. وأمسي للصحراء بعدٌ "وجودي وكينوني"، كما صنعت هي منه رساماً متميزاً في عالم الفنانين المليء بالتنافس والبحث عن الشهرة. بالإمكان وضع هذا الفنان في خانة "الاستشراق الشعبي الماقبل تقني".

- كانت أولى أسفاره إلى الشرق الأدنى فى عام (1850م) ضمن حملة استكشافية للآثار وكان يبلغ من العمر حينها (22)
عاماً. ثم قام برحلته الذاتية عام (1855م) حيث قضى عاماً فى مصر القديمة قبل سفره إلى سيناء، ومن بعدها حاول الرسام "ليون بيلى" اكتشاف وادي النيل، عشق فن تصوير المناظر الطبيعية. وعند ذهابه إلى الأرض المقدسة ترجم مشاعره فى لوحته"حجاج في طريقهم إلي مكة".
- في 1839م كان "بروسبر ميريميه"، و"لجنة الآثار التاريخية" في باريس أول من تنبه الى أهمية "لصورة الفوتوغرافية" خدمة علم الآثار. وأشار العالم "آراغو" الى أن العمل لنسخ آلاف النقوش الهيروغليفية في معابد طيبة وممفيس والكرنك كان يحتاج إل سنوات من العمل، بينما أصبحبوسع مصور واحد أن ينجز ذلك بمفرده. وفي ذلك العام تم تصوير الأماكن المقدسة في فلسطين (القدس والناصرة)، التي ظهرت في باريس منذ 1841م، لتثير الاهتمام،وتفتح الطريق امام ما أصبح يسمى "الرحلة الكبرى" للمصورين التي باتت تنطلق من انكلترا وفرنسا وايطاليا باتجاه اليونان وتركيا وفلسطين ومصر وشمال أفريقيا.

- قام "جورج سكين كيث" بتصوير البتراء في 1844م، وانطلق "أرنست بنك" إلى زيارة بلاد الشام في 1852م ولحقه "جيمس غراهام" و"اغسطس سالزمان" في 1854م، ثم جاء "ريفرند أ. اساكس" في 1856م، و"جون أنتوني" في 1857م، و"ولهلم هامرشمدت" في 1859. تجدر الإشارة إلي المصور الروسي المقيم في لوزان "غابرييل دي رومين" والذي رافق الغراندوق الروسي "قسطنطين" ابن القيصر "نيقولا الأول"، في رحلته الى القدس خلال 1857-1859م. فقد التقط "دي رومين" الكثير من الصور التي سرعان ما صدرت في باريس في "لا غازيت دو نورد" لتثير الاهتمام اكثر بالمشرق كما بدا في الصور الجديدة.

- "ف. بونفيس"، جاء لبنان في العشرين من عمره ضمن قوة عسكرية فرنسية في 1860م لوقف الحرب الأهلية. مع زوجته وابنه استقر "بونفيس" في بيروت منذ 1867م (كانت الاكتشافات والتطورات في مصر تجتذب إليها عشرات المصورين الأوربيين وصولاً الى افتتاح قناة السويس التي خلدتها الصورة الفوتوغرافية). أنشأ ستوديو في محلة "باب إدريس" ليصبح خلال أربعين سنة من أهم ستوديوهات التصوير الفوتوغرافي في المنطقة. بعد سنوات (1871م) كان بونفيس يكتب لـ "الجمعية الفوتوغرافية الفرنسية" بأن لديه (591) صورة أصلية عن مصر وفلسطين وسوريا واليونان مع آلاف النسخ. ومع انه اضطر للعودة الى فرنسا في 1878م بسبب مرضه الا أن زوجته وابنه بقيا في بيروت ليطورا العمل في الاستوديو الرائد (أرشيف، وقبلة الزوار، وحاضنة الصور الفوتوغرافية المشرقية حتى 1918م). كما ضم إليه مصورين محليين (لويس صابونجي وحكيم)، وحين توفيت السيدة بونوفيس آلت ملكيته الى مصور أرمني.
الاستشراق: هل استنفد أغراضه، وأعلن عن "موته"؟

تاريخياً.. هناك ارتباطا وثيقاً بين مصالح الغرب، والحركة الاستشراقية، واستمراره في دعم هذه الحركة كاشف عن مدي تشبثه بمصالحه في الشرق، والتي لا توجد مؤشرات في الأفق توحي بأنه علي استعداد للتخلي عنها، بل تؤكد الشواهد استمرارها وتضخمها. وما دام الأمر كذلك فإن الحاجة إلي الاستشراق ستظل قائمة ، بل ستزداد إلحاحاً(د. محمود حمدي زقزوق، م.س. ص 55). يقول "موريس بارنو" في "قلق الشرق": (إن المشكلة التي يطرحها الشرق اليوم لا تهم فقط العلماء ومؤرخي الفنون والحضارات والديانات إنها مشكله اشد خطراً لأنها تعني مصير أوروبا مباشرةً وبالتالي التوازن العالمي. لقد تحولت رمال الصحراء الأسطورية، والقصص الخيالية، والألوان الساحرة إلى بقعه تزدحم فيها شركات البترول. أما الموانئ والمضائق، والأماكن المقدسة والطبيعة الخلابة فهل تصمد مجدداً في إثارة ريشة رسامين، وإبداع موسيقيين بالقدر الذي تجتذب رجال المال، وحاملات الطائرات، والأساطيل. إن "سحر" الشرق، وألوانه الزاهية الذي ساد فيه القرن التاسع عشر تحول إلى "مشكلة").

في عام 1876م أعلن "كاستانياري"، أحد النقاد الفنيين عن "موت الإستشراق" فأعتبر أن الفنانين الاستشراقيين:"قد يستطيعون مداعبة خيالنا، ولكنهم لن يستطيعوا ملامسة مشاعرنا". (الاستشراق لم يعُد موجودا، فـ"موضته" الثقافية قد انتهت)، هكذا يري "برنارد لويس" فقد كان للاستشراق وجهين: تلك المدرسة الفنية، والفنانين (معظمهم أروبيين غربيين) الذين رحلوا إلى الشرق، وأقاموا به، ثم رسموا ما رأوه/ ما تخيلونه بغرائبية مدهشة. ووجه ثان واكب عصر النهضة الأوربي وتطلب اختصاصاً علمياً، وتوسعاً في مجال دراسة اللغات والثقافات الأخرى.  بينما يقول "مارميه":"لقد كـُتب الكثير عن الشرق إلى درجه أن من سيعود إلي هذا الموضوع سيتهم بالرعونة. هل بقي مشهد من العادات الشرقية لم يوصف بعد؟، أو عمود لم يقس؟، أو لوحه اثرية لم تشرح؟. أما شبعنا من تأمل روائع البسفور، واَثار سوريا، ونخيل النيل؟. ألم ندخل أقبية الاهرام المظلمة وتدب فينا قشعريرة الموت؟. هل من الممكن أن تفيدونا بشيء، ألسنا نعرف الشرق عن ظهر قلب؟!). يبدو أن الأسئلة تحاصرنا، بداية ونهاية، ولعل هذا شأن مثل هذه الموضوعات المثيرة للتأمل، والأهتمام.. والجدل في آن معاً!.

E.mail:عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟