قصيدة الطُّوفَان .. - شعر: مصطفى ملح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
رَأَيْتُ دَماً ،
فَهَلْ مَاتَتْ عَصَافيري ؟
* * * *
رَأَيْتُ مَدينَةً : حيْثُ الحِصَانُ تَجُرُّهُ العَرَبَةْ
وَحَيْثُ الحُبُّ مَذْبُوحٌ على حَجَرٍ قَديمْ ..
رَأَيْتُ الرَّأْسُ يُشْعِلُهُ بَيَاضُ الثَّلْجِ ،
قُلْتُ : مَضَى قِطَارُ العُمْرِ ،
وَانْدَفَنَتْ طُيُورُ طُفُولَتي تَحْتَ الغُبَارِ ..
سَأَلْتُ أَميرَةً : في أَيِّ عَصْرٍ نَحْنُ ؟
قَالَتْ : مَاتَ مَقْتُولاً أَبي عِنْدَ اغْتِيالِ الشَّمْسِ ،
عِنْدَ تَشَرُّدِ الرُّوحِ الغَريبَةِ فَوْقَ صَحْراءِ الجَحيمِ ..
سَأَلْتُها : أَبَكَيْتِ سَاعَةَ مَاتَ ؟
قَالَتْ : ماتَ كَالعُصْفُورِ في كَفِّي ،
كأَلْفِ حَديقَةٍ  ذَبُلَتْ ،
كَدُمْيَةِ طِفْلَةٍ يَغْتَالُها النِّسْيَانُ .
مَاتَ أَبي فَلَمْ يَتْرُكْ بِعَيْني أَدْمُعاً
لأَنُوحَ .. فَوْقَ حَشَائِشِ الوَادي قَليلاً .
واصَلَتْ : دَفَنُوهُ تَحْتَ المَاءِ ،
حَيْثُ يَذُوبُ كَالوَشْمِ القَديمِ عَلى الجَليدْ ..
رَأَيْتُ دَماً ،
فَهَلْ مَاتَتْ عَصَافيري ؟
* * * *
رَاَيْتُ المَوْتَ يَحْفِرُ
فِضَّةَ الأَبَدِيَّةِ المُلْقَاةِ فَوْقَ الرَّمْلِ ، 
كَالجُثَّةْ ..
وَتَحْتَ الثَّلْجِ أَكْفَانٌ ،
وَفي قَلْبِ الطَّبيعَةِ بَسْمَةٌ سَوْدَاءُ
يَجْرَحُها الطَّيْرُ بِظِلِّهِ ..
وَرَأَيْتُ مَائِدَةً فَوْقَها وَرْدَةٌ مَخْنُوقَةٌ ،
هِيَ وَرْدَتي وَحْدي
أَنا المَوْعُودُ دَوْماً
بِالدُّمُوعِ أَبَاتُ أَحْلُبُها دَماً ..
هِيَ وَرْدَةٌ خَشَبِيَّةٌ مَزْرُوعَةٌ بَيْنَ القُبُورِ ؛
تَزْرَعُها امْرَأَةٌ عَجُوزٌ كُلَّ عيدٍ
حَيْثُ تَقْذِفُ فَوْقَها مِلْحاً
وَتَرْقُدُ تَحْتَها .. كَمَدينَةٍ مَحْرُوقَةٍ .
هِيَ وَرْدَتي : لَيْلٌ ،
شُقُوقٌ في المَشَاعِرِ ، عيدُ مِيلادِ الرَّصَاصَةِ ،
مَقْتَلُ الأَشْجَارِ ، تَابُوتٌ ،
بَنَادِقُ في كِتَابِ الرَّسْمِ ،
كَهْفٌ في خَرائِطِ جُثَّتي ..
هِيَ وَرْدَتي :
هِيَ وَرْدَةُ الشَّاعِرِ المَرْمِيِّ في النَّارْ .
رَأَيْتُ دَماً ،
فَهَلْ مَاتَتْ عَصَافيري ؟
* * * *
سَأَلْتُ فَتىً يُخَطِّطُ لانْقِلابٍ ضِدَّ لاشَيْء ٍ !
مَتَى رَحَلُوا ؟
أَجَابَ : قُبَيْلَ مُنْتَصَفِ الخَسَارَةِ ؛
مَزَّقُوا كُتُبَ البَلاغَةِ وَالرِّثَاءِ
وَأَشْعَلُوا النِّيرانَ في صُوَرِ الزَّفَافِ ،

كَأَنَّهُمْ مَسَحُوا دَمَ المَاضي وَرائِحَةَ التُّراثِ ،
كَأَنَّهُمْ ، قَبْلَ الرَّحيلِ ، تَعَاهَدُوا
أَنْ يَدْفِنُوا زَيْتُونَةَ التَّاريخِ في النِّسْيَانِ ..
هُمْ قَوْمٌ قُسَاةٌ ، رُبَّما
وُلِدُوا هُنالِكَ : حَيْثُ أَعْشَاشُ الجَحيمِ
وَحَيْثُ تَنْمُو صَرْخَةٌ في فُوهَةِ البُرْكَانْ .
سَأَلْتُ مُجَدَّداً :
هَلْ يَرْجِعُونَ إِذا أَنا أَشْعَلْتُ قِنْديلاً لَهُمْ
وَقَصيدَةً لِنِسَائِهِمْ ؟ هَلْ يَرْجِعُونَ ؟
أَجابَ في يَأْسٍ يُعَاتِبُني :
لَقَدْ مَاتُوا !
* * * *
وَفي الغَدِ أَقْبَلَ الطُّوفَانُ ،
فَاضَ الكَأْسُ فَاضَ العُمْرُ ..
في الغَدِ قُطِّعَ الحَبْلُ الذّي رُبِطَتْ بِهِ الدُّنْيا ،
فَزُلْزِلَ حِينَها جَسَدي ،
رَأَيْتُ دَماً
فَهَلْ مَاتَتْ عَصَافيري ؟

 شعر:  مصطفى ملح

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟