أيتام الجنة – شعر : زياد عبد القادر

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
مهداة إلى سعدي يوسف                  
جواربُ الظل. رائحةُ النافذة
الوسطى . حمّى الفراشة. عزلةُ
الجسر. هواجسُ شيخ في السبعين
يبكي بحرقة أمام النهر . قبضةُ عشب
يابس في بهو كنيسة مهجورة. قرنُ الأيّـل
المكسور../ .أشياءٌ يرميها البحر
على قدمي...ويمضي/.
لا أحد غيري  أمام البحر .أمرّر كفي
في الماء، أشمّ حقل كروم خلف هضاب
وضباب ، وأرى ما ليس يراه الحالِمُ: أرى سعدي

يوسفَ في منفاه بأقصى لندن.
أفكر: هل كان الشيخ لْـيبكي أمام النهر
هوسعدي؟
لا أعرف ...
أرى الشيخ يمد المنفى بساطا. يفرشه ،
يسويه بكفين متجعدتين من البرد
ومن الويسكي، وينام على حزن أخيل.
لايحلم ، فالحلم يروّض فرخا
يحلم بالطيران، وسعدي قد شبّ
عن الحزن.
           ..................
 هو الآن بعيد – في المنفى -...
يستيقظ مبهور العينين من الضوء:
"كأني أسري !" يقول ويمضي بجناحين
فقيرين إلى حيث الضوء، وينسى أن يطوي
بساط المنفى. يتركه مرميا تحت سفرجلة
من عهد التكوين. "سأعود إليه،
حتما سأعود إليه، ولو طرت إلى أعلى
علّـيّين. أنا أعرف ذلك، عفوا – إن العرافة
تعرف ذلك" – يقول ويسري
مأخوذا ببياض في لون القطن...
يحلّـق للأعلى. تنفتح النافذة الوسطى،
فيرقى. لاشيء غير الضوء. لكن الدرب
 بعيد/ إن الدرب بعيدٌ /.
يصّاعد ما بين سماءين. يهتزُّ
من وهج الاسراء – مثل ملاك في طور التمرين –
يختضُّ كدوري تقتله الحمى...يختضُّ
ويختضُّ ويختضُّ...
فيرتبك الأيّل في أعلى الجبل، ويضربُ قرنهُ
في الصخر...يضربُ
يضربُ يضربُ...
يصّاعد سعدي. يضيق النفس،
ينزُّ الصدر الهش من الاعياء...ينزُّ
ينزُّ ينزُّ...
يغيمُ الدربُ
فأمرر كفي في الماء.
....................
....................
ما بين سماءٍ وسماءٍ، لا يعرف أين هو.
يلتبس الأمرُ. "رائحةُ السرخس
في أصص الآجرّ الأحمر. سلالُ السعف،
سقفُ القصبِ، نديفُ الزغبِ الأبيض
في لون القطن...كأني في بيتي
على ضفة دجلة...
كأني في البصرة!
يا الله... ما أسعدني! لكني لن أفرحَ
حتى أتأكد أن الإسراءَ حقيقيٌّ، وبأني
في الجنة حقا.
لن أفرح حتى ينجلي الأمرُ"!
      يغيمُ الدربُ
.........................
.........................
أمرر كفي في الماء.
أرى الأيل في أعلى الجبل. يجذب
بعض هواء، ينفثه في صدر الشيخ:
"فلتسرِ يا سعدي!" يقول ويكمل نطح
الصخرِ.
........................
يحلق سعدي. هو الآن وحيدٌ
وغريبٌ. يحاول بعض هواء كي يتنفس.
فأفكر: تـُرى فيم الشيخ يفكر:
"إن سمائي في لون الفحم، وصدري
علبة زنك صدأت من فرط التدخين
ورطوبة لندن. أحقا سأكون في الجنة ؟
أنا بن الشحاذين
أنا المنفيُ بن المنفيِ
أنا ابن الفقراء...فلماذا لا أدخل
 للجنة...
ولكن
أحق هذا الاسراء ؟"
      يغيمُ الدربُ
........................
........................
أمرر كفي في الماء.
هو عند الباب. ينفتح الباب...
يدخل. لا أحدٌ في الجنة. كأن الجنة
 فارغةٌ. يمشي هونا كي لا يزعج أحدا
ولا يفسد قيلولةَ نساخِ الأقدار.
"صمتٌ يصلح للعمل.سأكتب ما شئتُ
من أشعار و مراثي. ولكني سأحنُّ
لضجيج الحانة حتما!"
يمشي. "قد أجد السكيرين
والمجان – بشارا والمتنبي، ديك الجن
ومظفر – هم أبناء البلد،
أبناء الكوفة والبصرة. سنبحث عن
حانٍ في أقصى الجنة. حانٍ كحفش
الأمة الراعية، وسنبكي كالأيتام.
نحن أيتام الجنة.
آه يا بلدي!
       يغيمُ الدربُ
.........................
.........................
أمرر كفي في الماء...
هم الأغرابُ. ينتظرون صراطا
مكتظا منذ قرون.
"نحن الشعراء الملعونين – يقول المتنبي –
نحن المغضوب عليهم في الدنيا، وفي الآخرة
ها نحن ننتظر الأوباشَ الجلادين،
وننتظر آياتَ الله...في الآخرة حتى،
نحن في ذيل القائمة".
يضحك سعدي: "على هذا لن يأتي دوري
قبل ملايين السنوات. إذن فلنتمشى"!
يمشون على غير هدى – تزجيةً للوقت –
يقولون كلاما في مدح الصفصاف المنسي
على قبر الفاختة،
ويبكون عراقا شردهم.
      يغيمُ الدربُ
.......................
.......................
أمرر كفي في الماء...
"هل هذي هي الجنةُ حقا- يساءل سعدي-
إذن لماذا لا أجد ريحَ البصرة،
قرقعةََ الناعورِ الخشبِ في ليل الكوفة ؟
لماذا لا أجد مقهى الصيادين، حيث الشايُ
الأخضر، أباريقُ الطين الأحمر، كراسي السعف،
ومساند من خشب الزيتون ؟
لماذا لا أجد خبزَ الطابون، وتمرَ الصيش
النجفي ؟
لا جنة في الجنة. أنا المنفي بن المنفي
أنا بن السكيرين!"
..................
تـنغلق النافذة الوسطى.
يخر الأيل مكسورَ القرن
يستيقظ سعدي مبهورَ العين من الحلم.
يهجس في نفسه: "موحشةٌ هذي
 الغرفة.إن الريح هنا تكرهني
وتكره كل الأغراب الشحاذين، ولكني
سأكملُ نطحَ الصخرِ، رغما عنها
وعن هذا المطر المسّاقطِ منذ قرون!
......................
......................
......................
هو الآن بعيدٌ - في منفاه بأقصى لندن-
وأنا وحدي قرب البحرِ.



 زيوسودرا
(زياد عبد القادر)
                                                                  

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟