نزلت وسائل التواصل الاجتماعي مثل هِبة سماوية على الباحثين في شؤون التسويق ومستطلعي الرأي ومتقصي قابلية المستهلك للمعالجة والتشكيل. هنا، يصرّح الناس بما يأكلون ويشربون، وأي ثياب يرتدون، وكيف يحبون أن يُخاطبوا؛ وهذه سانحة غير مسبوقة لدراسة أمزجتهم وأذواقهم ونزعاتهم في مجمعات كبرى من المعلومات، لم تكن متاحةً بالكم والعمق والسعة هذه في الماضي.
ويطور المستفيدون أدوات ومحركات بحث، للخوض في جبال المعلومات المتكدسة يومياً على مداخل الشبكة العنكبوتية، مثل أكوام النفايات التي جُمعت من أبواب المنازل تنتظر من يفرزها. لكنها ليست أكياس نفاياتٍ، يمكن النبش فيها لمعرفة أسرار أهل البيت، بل هي أشبه باستبيانات يعمل "أصحاب الحسابات" على الشبكات على ملئها يومياً بشكل طوعي، ومن دون أن يطلب منهم أحد. والأهم أن ملء الاستمارة يجري في ظروف استرخاء، وخلال حوار تلقائي مع العائلة والأصدقاء، إلى درجة أنها تكشف أكثر مما يحلم به أي محقق في أي غرفة تحقيق.
يقال عن مواقع التواصل الاجتماعي إنها تتيح التواصل خارج الإعلام والرقابة، وتكشف عن مواهب وغير ذلك، وقلما يجري التوقف، أيضاً، عند معنى كونها منجماً من المعلومات المفيدة في دراسة شؤون المجتمعات لغرض الرقابة عليها، والتحكّم بها والتأثير فيها. وهو منجم مصنوع ذاتياً، وكلما أفرغته امتلأ من جديد.
يكتب ملايين البشر يومياً تقارير مرفقة بالصور عمّا فعلوا وأكلوا وشربوا، وعن رأيهم في ما شاهدوا على شاشة التلفاز، ويخوضون نقاشات في السياسة، يعبّرون فيها عن مواقفهم بأسلوبٍ لم يألفوه في حواراتهم الشفوية، فهم مضطرون لصياغة أفكارهم ومشاعرهم بشكل أوضح عند كتابتها. كما أنهم يتواصلون أكثر مما فعلوا في السابق، ويخوضون نقاشاتٍ لم يدأبوا على خوضها في العقود الأخيرة، بعد أن انزوى كلٌّ في منزله يتابع التلفاز أو الإنترنت، بانقطاع عن الآخرين. لقد أعادتهم مواقع التواصل الاجتماعي إلى الحديث مع الأقربين والأبعدين، والأصدقاء المنسيين.
لكنهم لا ينتبهون، ربما، إلى حقيقة أنهم أصبحوا، بالتدريج، أكثر استعراضية، أي أكثر رغبة بالجهر في شؤونهم الخاصة، والتعبير عن مكنون النفوس لإثارة اهتمام الآخرين بصورة أو مشهد أو طرفة أو موقف غريب، كما أن وجود جمهور صغير من القراء يزيد من النزعة إلى التنافس، للحصول على اعتراف من الآخر (لايك). ولهذا، يُصدم كثيرون مما يقرأون على شبكات التواصل الاجتماعي لأشخاص عرفوهم في الماضي، ولم يعرفوا عنهم هذه الميول الاستعراضية، أو الأفكار المتطرفة، أو الصياغات التي تستدر العطف والانتباه. فعالم التكنولوجيا الرقمية لا يُقصي دوافع الإنسان الأصلية الدفينة، بل يقوم عليها ويضخمها. ومن أهمها الدافع للحصول على اعتراف الآخرين وتقديرهم.
في الخصومة والخلاف، بما فيه السياسي، يعبّر المشاركون في وسائل التواصل الاجتماعي عربياً عن آرائهم بحدّة، وينجرف بعضهم في التعبير عن الكراهية والعنصرية والآراء المسبقة، بصراحة لا تشهدها في الصحف والمواقع المحررة. وقد يرصّعون نصوصهم بشتائم وبذاءاتٍ، كانت في الماضي تقال، لكنها لم تكن تكتب، أسهلها الاشتغال الاستحواذي بأعضاء الجسد الحميمة، والتهديد بفعل أشياء غريبة لأم الخصم أو أخته.
لقد وصلتُ إلى قناعة أن الصراحة والحرية في التعبير الناجمة عن شعور منزلي بالخصوصية والتنافسية والرغبة في جذب الانتباه في مركب متناقض عجيب، قد تؤسس لمجال جديد، أسمّيه هنا البحث في "لا- وعي الشعوب والمجتمعات". ونذكّر أن التحليل النفسي سعى إلى تطوير آليات الوصول إلى لا- وعي النفس البشرية، بحيث تجعله يطفو على سطح الوعي، بعد تخدير الأخير أو تحييده. وهي آليات تستخدم مع الفرد، لاستخراج ذكريات وتجارب مقموعة ومكبوتة منذ الطفولة، تؤثر في شخصية الإنسان العصابية وخوافه وغيرها من الظواهر، واستدعائها إلى الوعي لمواجهتها. وجرت محاولات لتطبيق ذلك على المجتمعات ككل، عبر دراسة الظواهر الاجتماعية التي تتضمن هستيريا جماعية. والحقيقة أن المعلومات التي تراكمها وسائل التواصل الاجتماعي باتت تشكل حقلاً من اللا-وعي، يطفو على السطح بدون أي تنويم مغناطيسي، سوى ذلك الذي تمارسه شاشة الحاسوب أو الهاتف المحمول والرغبة في الحصول على الاهتمام والاعتراف.
يمكن فهم أمور كثيرة عن طبقة مخفية في "النفس الجمعية" لمجتمع من المجتمعات بواسطة دراسة اللغة والغضب والحب والكره، وما يُعلَن عنه طوعاً من ميول دفينة في شبكات التواصل الاجتماعي.
ما سوف يفسد التحليل في البلدان العربية هو نشوء جيوش إلكترونية عند وزارات الداخلية وأجهزة الأمن في هذه البلدان، لا تراقب فقط بل تشارك أيضاً. فاستشعار وجودها يحدّد حرية التعبير، وإن كان بعضهم لا يتمالك نفسه، فيعبر بصراحة، على الرغم من كل شيء. وهي، أيضاً، تشارك في كتابة النصوص على وسائل التواصل عبر مجنديها العاكفين يومياً على نشر الشائعات، وشنّ حملات التشهير بالخصوم والمسّ بشخوصهم.
يحتاج تحييد ما تنشره هذه الجيوش الإلكترونية إلى محرك بحث وتصنيف من نوع خاص بالبلدان العربية. ولا نعتقد أنه يخطر ببال الشركات الكبرى، أو أنها تمتلك الحساسية اللازمة له. وفيما عدا ذلك، تقدّم المجتمعات نفسها على حاسوب من ذهب، لمن يريد دراستها ومراقبتها والتحكم بها.