لا مندوحة أن رهانات التعليم عن بعد بالمغرب في زمن الكورونا في ظل التطورات التقنية والتكنولوجية التي يشهدها العالم قاطبة لن تكون سهلة المنال بالقياس إلى دولة في طور النمو والتقدم كالمغرب، وخاصة في منظومة التربية والتعليم التي تحبو شيئا فشيئا نحو التقدم والرقي والازدهار، لكن أن نمخر عباب بحر مدرسة بلا أسوار ونغوص في أعماقه ونحن لا نجيد السباحة قد يؤدي بنا إلى الموت السريع، ذلك أن الدول المزدهرة اقتصاديا هي من نادت بالفكرة، مع العلم أن لها بنيات تحتية في مستوى هائل، فضلا عن تاريخها العلمي والتقني المبهر كألمانيا واليابان والصين وكندا وغيرها.
ومما لا ريب فيه أن ذيوع فكرة -مدرسة بلا أسوار- تعود إلى دول شمال أوروبا في غضون الحرب العالمية الثانية، ولعل السبب كما في المغرب والعالم اليوم في الآونة الأخيرة هو تفشي فيروس كورونا، مما أدى بنا إلى تدشين مشروع جديد فرضته الأوبئة والأمراض العاصفة بالبشرية دون سابق إندار وبشكل مفاجئ ألا وهو -التعليم عن بعد- من خلال مدرسة بلا أسوار.
ينبئنا السياق التاريخي أنه في شمال أوروبا قبيل الحرب الكونية الثانية سبب انتشار مرض السل ولدت الفكرة وطورتها ألمانيا وكندا وغيرها. وفي هذا الصدد يقول إبراهيم الشيخ: "وإن كانت فكرة -مدرسة بلا أسوار- قد انطلقت في دول شمال أوروبا قبيل الحرب العالمية الثانية بسبب انتشار مرض السل حينها، فإن هناك دولا طورتها بشكل مثالي مثل ألمانيا، كما أن هناك دولا بدأت بتجربة الفكرة مثل الصين وكوريا"[1].
بالتأكيد هذه الفكرة لا تطالب بهدم أسوار المدرسة، لأن الحاجة لها في كل الأزمنة والأمكنة ضرورية ضرورة الماء والهواء، لكنها تطالب بإمكانية الحرية والابتكار والتجديد داخل فصولنا الدراسية بشكل عام ومنظومتنا التربوية بشكل خاص، وفي طرقنا التقليدية وبرامجنا التي يعود محتوى بعضها إلى عصور قديمة، بحيث لا تواكب تطورات العصر التكنولوجية والطنين التقني والعلمي والابداعات البشرية في شتى أنواع النشاط البشري الذي بدأ يتجاوز الآفاق ليصل إلى أعالي
الفضاء البعيد.
سواء كانت المدرسة بأسوار أو بدون أسوار فإن وحي رسالة التعليم حلم وطموح وقضية ومسؤولية، نحن نطمح إلى مدرسة أنوارية حالمة مثالية، لكن واقعنا لا واقعي كله كسور وآلام وحجم المرارات والخيبات فيه أكثر من الفرح والإنجازات العظيمة، تبقى المدرسة رهانا مجتمعيا لا يكون صلاحه إلا في صلاح المجتمع والأسر، لأن التربية ليست مسؤولية المدرسة لوحدها، بل مسؤولية كل الأسر والمجتمع بمختلف مجالاته من إعلام ونظم سياسية واقتصادية، لأن الإنسان في نهاية المطاف ابن بيئته، ويؤكد ذلك إبراهيم الشيخ: "بالتأكيد لا نطالب بهدم أسوار المدرسة، يحق لنا أن نطالب بتطوير حقيقي في التعليم، يستوعب طبيعة التغيرات الديمغرافية الكبيرة الحاصلة في البلد[2]".
من البديهي أن التعليم في الصين وكوريا وكندا وألمانيا يواكب طموحات الشعب ويساير المجتمع في التطورات التكنولوجية والعلمية التي تتماشى وحركة التاريخ الداروينية من تطور وارتقاء إلى الأفضل، وتسير بسرعة كوبيرنيكية...، ويفسر لنا بردوكاست جوهر العملية التعليمية التعلمية: "العملية التعليمية روح وطموح ونجاح، وليست ((تهديدا)) أو ((عقابا))، التطور يجب ألا يتوقف أبدا"[3]
لن ندخل زمن التعليم عن بعد حتى يسود الطموح والحلم فصولنا الدراسية، فالمدرس إنسان وطموح وقضية، والمتعلم حلم وفلسفة وهندسة اجتماعية بلغة السوسيولوجية الكبيرة فاطمة المرنيسي، ينبغي فهمها واستيعاب أعماقها ضمن محيطها السوسيو- ثقافي الذي ترعرعت فيه، أما مقرراتنا المحنطة الجافة فينبغي إقبارها بنار الجحيم وإنارة شموع وأضواء العلوم الهادفة والفاعلة في التاريخ، لكونها تمارس تنويما مغناطيسيا على عقول وآمال وأحلام أجيال المستقبل.
قد نتجاوز في زمن التعليم عن بعد ديكتاتورية واستبدادية الأسوار ونمطية فصولنا الدراسية الخربة، كما سنتحرر من أسر قيودها التي درسنا سجناء فيها طوال عقود من الزمن، وإيمانا بوحي رسالة بردوكاست ليس الدرس عقابا وجحيما وعنفا ترهيبيا، وليس تهديدا وقمعا سيكولوجيا وسوسيولوجيا ولا قهرا وهدرا وإقصاء وتهميشا فئويا، والأستاذية ليست تسلطا واستبدادا، بل هي تواضع ورقي وتواصل بأبعاد إنسانية بلغة يورغن هابرماس، ومن ثمة: "الأسوار ليست في الجدران فقط، فقد تكون هناك أسوار داخل الصف بحاجة إلى إزالتها بين المعلم والطالب[4]".
تجاوزا لهذه الأسوار والحواجز الصدئة المترسبة عبر زمن طويل من الإصلاحات التربوية التي عرفها نظام التعليم بالمغرب، فالمعلم العظيم أخلاق وتواضع قبل المعرفة والعلم، والجدران التي لا يسودها ود وإنسانية ومحبة عميقة بين الطالب والمدرس، ليست جدرانا نبني من خلالها حضارة الإنسان والمستقبل والعلم والازدهار الفكري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي وهلم جرا.
من الأرجح لمنظومتنا حتى تعرف طريق التطور وتحقق -تعليما جيدا- بلغة الخبير التربوي الأمريكي "إيريك جنس" قبل تحقيق رهان التعليم عن بعد أن تختفي الأسوار السيكولوجية والأحقاد الدفينة والتعالي والأنانيات السياسية والاجتماعية، التي ستجعل المدارس المغربية العمومية والخصوصية معا في تراجع خطير على مستوى القيم والمعرفة، وتسير سير الدابة في العالم الثالث، في الوقت الذي تصعد عجلة المنظومات التربوية الغربية صعودا صاروخيا لا رجعة فيه.
لعلنا في زمن التعليم عن بعد نولي اهتمامنا بنجاح هذا الأخير، لكن علينا أن نصب جم عنايتنا على مذهب الحب والود والإنسانية في مؤسساتنا ومدارسنا اليوم سيرا على خطى فلسفة سقراط العظيم لما آمن بمذهب الحب وسن مقولته الشهيرة، "كيف أعلمه وهو لا يحبني".
إذا فالأسوار ليست جدرانا بقدر ما قد تكون أحقادا ولا تواصلا وعنفا وإقصاء بغيضا، إننا سواء حققنا رهان مدرسة بأسوار أو بلا سوار، لنكن صريحين ونعد إلى ذواتنا ونسائل الإنسان والصدق ومنهاج المحبة الأخوية فينا، ولنغرس قيما أخلاقية مسؤولة وإنسانية عظيمة تعيش أكثر من عمرنا المحدود بالأقدار السماوية.
الدرس أخلاق وإنسانية في مدرسة بأسوار وبدون أسوار والفكرة قديمة قدم الإنسان فأرسطو وأفلاطون علما الشباب في أثينا بين أحضان الطبيعة بشغف كبير، واليوم هذا زمن الشاشات الزرقاء والأنترنت، فهل يستطيع التعليم عن بعد تمرير القيم والأخلاق؟! وهل يصح التعليم -عبر الهواتف الذكية والحواسيب والأنترنت- معزولا عن التربية؟؟! في منظومة الأجدر أن تعطي الأسبقية للتربية قبل التعليم.
[1]- إبراهيم الشيخ، مدارس بلا أسوار ولا هروب ولا غياب، أخبار الخليج، العدد 15369 الثلاثاء 21 أبريل 2020م، الموافق 28 شعبان 1441ه. الجريدة اليومية الأولى في البحرين.
[2]- نفس المرجع.
[3]- نفس المرجع.
[4]- نفس المرجع.