هذا المقال هو في الأصل ترجمة للفصلين الرابع والخامس اللذين يشكلان جوهر/صلب أطروحة السويسري "فليب هرتيغ Philippe Hertig "، الباحث في ديداكتيك الجغرافيا، وهي الأطروحة التي قدمها بجامعة لوزان سنة 2009، وأعاد نشرها معدلة ضمن الفضاء الرقمي سنة 2012 تحت عنوان " ديداكتيك الجغرافيا والتكوين الأساس للمدرسين المتخصصين" معتبرا أنها تمثل "ملفا ضمن أطروحة".
ونظرا للقيمة النظرية الأصيلة لهذا الجزء من ملف هذه الرسالة (الصفحات 21 – 65) فقد حاولت الحفاظ ما أمكن على هوية ومنطوق المقال أثناء ترجمته، في أفق الإجابة عن العدد من الإشكالات :
- إلمام المقال المترجم بالعديد من الجوانب الإشكالية المؤثثة لتطور ديداكتيك الجغرافية، ولكثافة التوثيق المرجعي وحداثته، ولاعتبارات منهجية قمت بحذف كل الإحالات التوثيقية داخل النص الأصلي، وللقارئ الحق في العودة إلى النص الأصلي من أجل توثيق كل الإحالات المرجعية والنصوص الديداكتيكية الأصلية ؛
- رصد أوجه المقارنة الخاصة بتطور ديداكتيك الجغرافيا بين المدرستين الألمانية والفرنسية، اعتبارا للازدواجية اللغوية التي تميز سويسرا، وبحكم غياب الأبحاث عندنا حول ديداكتيك الجغرافيا لدى المدرسة الألمانية ؛
- الانفتاح على شبكة المفاهيم المهيكلة للخطاب الجغرافي والتي يتم الاشتغال بها ضمن الفضاء المدرسي السويسري (الثانوي الإعدادي أساسا)، في أفق تكوين صورة ديداكتيكية واضحة حول كيفية معالجة القضايا المجالية المدروسة، ومقارنتها بالمفاهيم المهيكلة للخطاب الجغرافي المدرسي لدينا (المورفولوجيا – التوطين – الحركة)...
رابعا – ديداكتيك تعطي معنى للجغرافيا :
يشكل تدريس الجغرافيا بالمدرسة اليوم، وتحت عناوين متعددة، تحديا حقيقيا بالنسبة للمدرسين. وكما رأينا، لا يجب أن تقتصر الجغرافيا على هذا الشكل من الجرد الوصفي "لبقايا المعارف الشاذة"، حقيقة إذا أردنا أن يستجيب هذا التعليم للغايات الممنوحة له من طرف المؤسسة المدرسية، فعلى تدريس الجغرافيا أن يعتني بالتساؤل حول نوعية النظرة التي تمكن هذه المادة من طرحها حول العلاقة بالعالم الذي يشكله التلاميذ، وبصفة عامة الأفراد والمجتمعات. هذا التساؤل ذو الطبيعة الابستملوجية لا يمكنه أن ينفلت إذا أردنا الاشتغال بالتجانس مع الغايات الفكرية والمواطناتية المحددة لتدريس الجغرافيا، وأخيرا فإن تدريس الجغرافيا يعني أيضا القيام بتفكير ديداكتيكي ومنهجي عميق، والذي يأخذ بعين الاعتبار التصورات الحالية للمعرفة وللتعلم، ولهذه الشروط يمكن هذا التعليم أن يقترح على التلاميذ جغرافية لها معنى بالنسبة لهم، أكثر من التركيز على المعارف الجامدة.
سنتعرض هنا للمحددات وللمحتويات الممكنة للجغرافية المدرسية في قطيعة مع ممارسات العديد من المدرسين، ومع التمثلات التي يحملها التلاميذ والآباء، وأجهزة المجتمع المدني الأخرى. هذه القطيعة ليست موضة، والأفكار التي تؤسس لها ليست حديثة، فمنذ قرن من الزمان كتب فيدال دولابلاش : "في أوروبا كما في أمريكا، فإن أولئك الذين يدافعون عن حجة تدريس الجغرافيا بالتعليم المدرسي، يستمدون فكرتهم من قيمتها التربوية. وهذا ما يشكل النقطة الأساس هنا... لنحافظ على تشجيع صيرورات الذاكرة، إذا كانت متعارضة لعقلية الملاحظة والتفكير. يتعلق الأمر بإيجاد معنى متجدد للجغرافيا يوازي عادات المشاهدة والتفكير... الجغرافيا، كما نرغب في تدريسها في كل مكان – بدون أن نتمكن من القول بأن الهدف قد تحقق تماما – تظهر لنا كأحد الأدوات الممتازة للتربية الحديثة. الاشتغال على وجهات النظر والأفكار في التربية، يمكن من معرفة واسعة للعلاقات ما بين الطبيعة والإنسان، وهي المثال الذي يمكن أن يحققه تدريس جيد للجغرافيا بمقياس ما".
ورغم قدمها، فإن فكرة فيدال دولابلاش تتميز بكونها "لاذعة" في طريقتها لنقد الجغرافيا المدرسية والتي تختزل في أنشطة التخزين الخارجة عن سياقاتها... وبدون الرجوع بعيدا في الزمان، من اللافت للانتباه ملاحظة الفارق ما بين الجغرافيا المحددة من طرف المناهج الرسمية والجغرافيا المدرسة بالمدارس، منذ عقود ظهر انشغال جلي وحي مع تطور ديداكتيك الجغرافيا. بعض النصوص المكتوبة عند نهاية سنوات الستينيات وبداية السبعينيات، طرحت تشخيصا لضرورة تحول الجغرافية المدرسية. عند نهاية سنوات الثمانينيات وبداية سنوات التسعينيات، رسمت/شخصت الأعمال المنشورة في فرنسا، تحت إشراف المعهد الوطني للبحث البيداغوجي أو الجمعية الفرنسية لديداكيك الجغرافية، أو أعمال ميرين شوماخير وغيرها، بالتدريج الملامح لجغرافية مدرسية متجددة. وفي نفس الفترة، وخلال سنوات التسعينيات (1990) وإلى حدود سنة 2000، نشر العديد من الجغرافيين كتبا أو مقالات والتي تجاوزت التفكير النظري في أفق اقتراح الآليات الملموسة من أجل تفعيل المقاربات الديداكتيكية التي تمكن من التجديد الحقيقي لتدريس الجغرافيا (مثلا شوماخير، فارشير..).
هذه المقاربات الديداكتيكية تختلف من باحث لآخر، ولكني سأقوم هنا باستعراضها، لأنها كلها غذت، وتحت عناوين مختلفة، تغني تأملاتي وتصوراتي الخاصة لديداكتيك الجغرافيا. وقد ظهر هذا في معظم إصداراتي وبطريقة ملموسة في الكتابين المدرسيين والدلائل المنهجية المرافقة لهما. "الخيط الأصلي" لعرض هذا التصور الخاص بديداكتيك الجغرافيا المدرسية هو مهيكل ضمن المقال المكتوب وبشراكة مع بيير فارشير سنة 2004. هذا المقال هو محاولة للتأصيل النظري للمقاربة الديداكتيكية والتي تظهر لي بأنها أكثر ملائمة للجغرافيا المدرسية لكي يكون لها معنى بالنسبة للتلاميذ. وسأركز هنا على العناصر الأساسية لهذه المقاربة والعمل على توسيعا وتوضيحها وربطها بأمثلة مختزلة مأخوذة من الكتابين المدرسيين الصادرين سنتي 1996 و 1998.
كل مقاربة ديداكتيكية تتميز بالعديد من الخطوط الخاصة بها وبالمرجعيات التي تستند عليها. ويقدم الشكل التالي (الشكل المرفق) هذه العناصر بطريقة تركيبية بالنسبة لتصور ديداكتيك الجغرافيا الذي دافعت عنها أنا (فليب هرتيغ) وبيير فارشير منذ أكثر من 10 سنوات. تتضمن هذه المقاربة أربعة أقطاب مرجعية ( القيم المعبر عنها عبر غايات المشروع التربوي العام، التصور الخاص بالمعرفة، التصور الخاص بالتعلم وإبستملوجية المادة)، تتشكل أسس هذه المقاربة والتي يمكن اختزال خصائصها الأساسية كالتالي :
- اللجوء إلى العنصر المثير الذي يمكن من أشكلة الموضوع المعرفي وحصر المشكل بالنسبة للتلاميذ ؛
- هيكلة المقطع التعليمي – التعلمي إلى عناصر/وحدات من المشاكل التي تنحدر إشكاليتها من التساؤل النابع عن العنصر المثير ؛
- وضع شبكة المعارف الجغرافية ضمن أدوات المفاهيم المتكاملة/المندمجة ؛
- وأخيرا مرحلة التركيب التي تأخذ مأسسة المعارف والمفاهيم مكانها.
الشكل التالي : الأقطاب المرجعية والخصائص الأساسية للديداكتيك الذي يمنح معنى للجغرافيا المدرسية. (ص : 39)
أ- الغايات من تدريس الجغرافيا بالمدرسة :
ادرج تدريس الجغرافيا بالمدرسة لمدة طويلة ضمن منظور وطني، وخاصة بفرنسا، فقد كانت الجغرافيا بجانب التاريخ، مطالبة "ببناء الهوية الوطنية والرابط المواطناتي المبني على التاريخ والمجال المشترك". وإذا كان هذا البعد المواطناتي ما يزال حاضرا ضمن المناهج حيث يأخذ أشكالا مختلفة، فإنه لا يشكل سوى إحدى غايات الجغرافيا المدرسية ولها لوحدها شرعنة الخاصيات المميزة للمناهج الدراسية اليوم. ويستجيب حضور تخصصات العلوم الاجتماعية في المدرسة لثلاث غايات متراتبة : الغايات الوطنية والمواطناتية، الغايات الفكرية والنقدية، الغايات الممارساتية (التطبيقية).
عموما لا يمكن أن يقتصر تدريس الجغرافيا فقط على تعلم وإعادة إنتاج المفاهيم، ولا على تعليم يركز على تثبيت "لوحة خاصة بالعالم"، بهدف تنمية حس الانتماء لمجموعة وطنية معينة. وبهدف المساهمة في غايات المشروع التربوي العام، يجب على الجغرافيا أن تمكن التلاميذ من بناء المعارف والأدوات الجغرافية التي يحتاجونها كمواطنين وكفاعلين مسؤولين، وهذا يعني بالتدريج تعلم التلاميذ أشكلة "ووضع العالم ضمن التساؤلات". هذا الأفق المبرمج هو ضمنيا مقترح على التلاميذ – تلاميذ المستوى النهائي من التعليم الإجباري – عبر النص المحدد عند تصدير الكتاب المدرسي بعنوان : "أوجه العالم، العالم.. des Mondes, un Monde"، ماهية الجغرافيا اليوم وماذا يعني "ممارسة الجغرافيا"، وهذا مقتطف من هذا النص:
"يشكل الأفراد فوق الكوكب الذي يعيشون فيه، المدن ويخططون الطرق والسكك الحديدية، يبحرون من ميناء لآخر ومن بحر إلى محيط، يطورون التقنيات الفلاحية، ويستغلون الثروات الباطنية، ويتعاملون مع الطائرة كأداة للتنقل السريع من طرف قاري إلى آخر أو ضمن العالم، ويخترعون تقنيات الاتصال الحديثة التي تمكنهم من تبادل المعلومات بطريقة فورية، وعبر هذه الأنشطة، يدمرون بطريقة فظيعة البيئة الطبيعية... في كل هذه الأنشطة، يربط الأفراد علاقات مع المجال، أو يربطون فيما بينهم علاقات عبر المجال، ينظمون المجال، ويقسمون المجالات الترابية. تسهل بعض الظروف شروط الحياة الإنسانية ضمن موارد المجالات التي يعيشون بها. على العكس من ذلك يتأثر الأفراد بالتأثيرات السلبية لبعض العوامل، كالكوارث الطبيعية. تدرس الجغرافيا اليوم هذه العلاقات والعوامل بطريقة تمكن من فهمها. ممارسة الجغرافيا، هي تعلم طرح الأسئلة حول هذه العلاقات والعوامل، وهي أيضا منح الوسائل المتراكبة، قصد الإجابة على هذه التساؤلات. تساهم المعرفة الجغرافية في فهم العالم الذي نعيش فيه وتمكن كل واحد منا صقل رأيه الشخصي حول التساؤلات المرتبطة بعلاقات الإنسان – بالمجال".
وبعيدا عن التوجيهات المقدمة عبر النصوص التي تحدد غايات المدرسة، شرعنة حضور مادة دراسية ضمن المناهج يتم عبر منظومة مرجعية متعددة، والتي تبرر المحتويات المدرسة. مثلا أوديجيي (2001)، يركز على أربعة "أقطاب مرجعية" من أجل مأسسة شرعنة المواد الدراسية : الشرعنة العلمية، الشرعنة المجتمعية، الشرعنة القيمية، الشرعنة البيداغوجية. - فالشرعنة العلمية للجغرافيا المدرسية يجب التعبير عنها بالنظر إلى المعرفة المبنية ضمن المواد العلمية المتجانسة، وهو ما يطرح سؤال العلاقة بين المعرفة العالمة والمعرفة المدرسة ؛
- وترتكز الشرعنة المجتمعية لمادة دراسية على نفعيتها بالنسبة "لعموم المجتمع، ولمختلف الفئات المجتمعية، ولكل تلميذ"، بالنسبة للجغرافيا هذا الشكل من الشرعنة يظهر من خلال مساهمة الجغرافيا في تكوين المواطن المستقبلي والذي يصبح قادرا على التدبير بطريقة مسؤولة : "كما هو الشأن بالنسبة للزمان، يشكل المجال فئة أساسية، للرهانات المختلفة. يطبع الإنسان المجال أكثر فأكثر ببصماته، وبمشاريعه التي تعدل البيئة والتي ترتبط دائما على المدى القصير بمعيار المردودية. لا يمكن للإنسان من الاكتفاء بملاحظة وتحليل المجال بنظرة محايدة باعتباره فاعلا مسؤولا. المجال ليس دعامة معطاة مسبقا، فهو منتوج مجتمعي. بهذا المعنى، فهو رهان عام، وخاصة في بلدنا، بحكم ضيق ترابه وغياب النطاقات الواسعة. على صعيد آخر، يشكل الكوكب الأرضي نفسه عالما منتهيا، اكتشفت جل جوانبه، ومستغل في بعض الأحيان بطريقة عشوائية. عالم منته، وهذا ما يزيد من أهمية الحدث المجالي.
لكن كم هو عدد الأفراد المدركين للمجال، وللرهانات المرتبطة به، وللأبعاد المجالية لكل قراراتهم، ولكل أشكال تدبيرهم... تدريس الجغرافيا، من خلال دراسة المشاكل الملموسة، يجب أن يمكن من الوعي بهذا البعد، ويجب أن يسمح بالتدرب على منهجها الخاص... في نهاية المطاف، يجب أن يقود التلاميذ من أجل التأثير بطريقة مسؤولة ضمن محيطهم الخاص وضمن مختلف المجالات".
- تنبني الشرعنة القيمية لتدريس الجغرافيا المدرسية ضمنيا على القيم التي يجب نشرها والتي من خلالها يجب تحسيس التلاميذ، عبر مواجهتهم للمعايير والسلوكات والقيم التي تنظم الحياة المجتمعية، سواء تعلق الأمر بالمجتمع الذي يعيشون فيه أو بمجتمع آخر يشتغل بمنظومة قيم أخرى ؛
- ويحيل قطب الشرعنة البيداغوجية، على التساؤلات المرتبطة بتصورات التعلم والتعليم. وبالتفاعل بين قطبي الشرعنة العلمية والمجتمعية، يساهم هذا القطب الرابع في تعريف محتويات المناهج الدراسية سنة بعد أخرى وداخل كل سنة. يفهم من كلمة "محتوى" معناها الواسع، حيث تتهيكل عناصر المعرفة الحقيقية والمناهج الخاصة بالمادة. تشكل الغايات وأقطاب الشرعنة والمحتويات والمناهج : المكونات الأساسية المميزة للمادة التخصصية عندما يتم تجميعها. المسار الذي تتبعه مركز على المعارف، والذي يشكل أحد العناصر المركزية لكل تخصص ويساهم في تدقيق خصوصيتها.
ب - من إدراك المعرفة إلى المعارف الجغرافية المشتغل عليها في المدرسة :
كيف يتم إدراك المعرفة اليوم؟ تساؤل مثير والذي يستدعي إجابات الفلاسفة والابستملوجيين، وبما أن معالجته تتجاوز الإطار الحالي لهذا العمل. سوف أقتصر سريعا على ذكر النماذج المرجعية الناجحة عموما والتي تشكل حاليا أسس التفكير العلمي.
إذا أخذنا كمنموذج مرجعي المفكر "إدركار موران"، حيث يقول : "لا يمكننا إدراك المعرفة كإعادة إنتاج للأحداث وللمعلومات التي تشكل نوعا من التقليد. وهذا ما يحيلنا إلى أن المشروع التربوي العام وقيمه، ليس محصورا في ترسيخ المعرفة الجامدة ولكن في تكوين الأفراد لمواجهة مستقبل معقد والذي سيختلف عن الحاضر". ورغم نشر المعلومات المختلفة وبطريقة مسترسلة عبر العالم أجمع، فمن الواضح القول بأن أي شخص غير قادر على ضبط تيار فكري معين حتى ولو ضمن المجال الذي يتقنه. كما أن تراكم المعلومات لا يمكن الأفراد من بناء معرفة معينة. كما أن عملية البناء ليست ممكنة إلا إذا توفر الفرد على الأدوات المعرفية الضرورية. ويضيف "موران" قائلا أيضا : "لا يمكن اعتبار المعرفة كمعرفة إلا إذا كانت كتنظيم، في علاقة وسياق بالمعلومات. تشكل المعلومات مشارات (جزيئات) من المعارف المشتتة. وكما هو الشأن في العلوم كما في وسائل الإعلام، ننغمس في المعلومة. فالخبير في تخصصه الضيق لا يمكنه أن يعرف جل المعلومات المتعلقة بمجاله. بل الأكثر من هذا هو التزايد الضخم من المعارف والذي ينفلت من المراقبة البشرية".
هذا التصور الخاص بالمعرفة يعني التقاطع مع المدرسة الوضعية، والتي ظلت تقليديا ولمدة طويلة تخصب البرامج الدراسية، وخاصة برامج الجغرافيا التي أعطت أهمية واسعة للتصنيفات النسقية وللمصطلحات، وللمظاهر الملموسة والمرئية. في النموذج البنائي، التفكير النسقي أو التفكير المركب حسب "موران" يشكل النموذج المرجعي حاليا. فتدريس الجغرافيا – كما هو الشأن بالنسبة لبقية العلوم سواء العلوم التجريبية أو العلوم الاجتماعية – يجب أن ينبني على مقاربة نسقية، تمكن التلاميذ بطريقة تدريجية من فهم العلاقات والتفاعلات ما بين العناصر المشكلة للوضعيات المدروسة، وهي المقاربة التي تمثل أحسن آلية من أجل تأهيل التلاميذ لفهم تعقد "الواقع".
ضمن هذا السياق، لا تختزل المعارف الجغرافية المتداولة من طرف المدرسة في المعارف المصرح بها، ولكن من الضروري اعتبارها كنسق أو كمنظومة.
الشكل التالي مستوحى من فارشير 1988 : المعارف الجغرافية : منظومة لا تختزل في المعارف الواقعية أو السياقية/المعارف المصرح بها. (ص : 44)
ضمن هذا التصور فالمعارف الجغرافية تترابط فيما ينها بطريقة دينامية، العناصر التي ترتبط بالمعارف الحقيقية (المفاهيم، فهم الصيرورات)، ثم ضبط الأدوات الخاصة بالمادة (الخرائط، الصور، المعطيات الاحصائية..)، وأخيرا تحديد القدرات العرضانية (مثلا المقارنة، الترتيب، التحليل، التركيب...). فالمفاهيم والأدوات والقدرات العرضانية تتمفصل وتترابط عبر المفاهيم المتكاملة (المندمجة)، والتي تشكل أدوات إجرائية للتفكير الخاص بالجغرافيا وتعلب دورا أساسيا في تنظيم المعارف الجغرافية.
على المستوى الديداكتيكي، من المهم جعل التلاميذ منتبهين لمسألة تحويل وإعادة بناء المعارف الجغرافية خلال مقطع تعليمي – تعلمي وعدم اختزالها في المفاهيم والتعابير الخاصة بالموضوع، ولكن عليها أن تشمل المهارات التخصصية والعرضانية والتي تم التماسها عبر المقاربات المقترحة، كما أن التساؤل الأساس يقود دائما إلى المقاربة والتفكير الجغرافيين. وهذا هو الدور الممنوح لبعض الأنشطة ضمن الكتب المدرسية : مثلا، كما في مجزوءة الكتاب المدرسي "تعدد أوجه العالم، العالم"، والتي تعالج الماء كمورد للحياة، فالأنشطة ما قبل الأخيرة المخصصة للصراعات على الماء تدعو التلاميذ للعودة والتركيز على المعارف الجغرافية التي اشتغلوا عليها...
وكخلاصة، يمكننا استنتاج بأن المناهج المبنية على المقاربة عبر الكفايات تدعو إلى إدراك/تصور معين للمعرفة. الكفاية تعرف كقدرة الفرد على توظيف المعارف والموارد من أجل إنجاز مهمة ما أو معالجة مشكل في وضعية تحمل معنى بالنسبة له. الموارد المستثمرة هي العناصر المشكلة للمنظومة او للنسق وتشمل : المفاهيم، الأدوات، القدرات العرضانية، والتساؤلات المرتبطة بأدوات التفكير الخاصة بمادة معينة أو بمواد تخصصية متعددة.
ج - التصور المتناسق للتعلم مع المشروع التربوي العام وطريقة إدراك المعرفة :
تعميقا لما تم ذكره، يجب أن ترتكز الديداكتيك التي تهدف إلى إعطاء معنى للجغرافيا المدرسية على تصور متجانس للتعلم مع غايات المشروع التربوي، وبطريقة تمكن من اعتبار المعرفة كمنظومة أو كنسق مركب تنظيما محكما.
عموما يشكل الأنموذج البنائي اليوم المرجعية لتصور التعلم ضمن معظم الأنظمة التربوية الغربية. تبرز الغايات المعلن عنها ضمن المناهج القيمة النفعية المجتمعية للمواد المدرسية ومساهمتها في تكوين المواطنين المستقبليين. ومن هنا يأخذ النموذج السوسيو بنائي كل معناه : "ضمن هذا التصور، تشكل الجغرافيا بناءً مجتمعيا والموضوعة من أجل تكوين التلاميذ. وهي جزء من مجموع المعارف التي يمتلكها المجتمع. الهدف العام هو تمكين كل فرد من الولوج لأقصى المعارف التي بناها المجتمع من أجل أن يتطور، ويتم تنظيم هذا الولوج إلى المعرفة أخذا بعين الاعتبار عملية النمو كما أعلنها بياجي. لكن هنا، التعلم يسبق النمو وليس العكس. وبصيغة أخرى، هذا التصور يدعي بأن النمو قد تحول وتغيرت علاقاته بالعالم بمساعدة هذه المعارف التي يتوفر عليها المجتمع".
ضمن هذا البعد، تأخذ وضعيات التعلم المقترحة بالنسبة للتلاميذ أهمية خاصة. تؤدي المقاربة السوسيو بنائية إلى اعتبار التعلم كصيرورة يفرض في نفس الوقت بعدا معرفيا، وبعدا وجدانيا، وبعدا تفاعليا. يفرض التعلم معالجة المعلومة – عبر عمليات عقلية معقدة – وبالاستثمار الهادف في الموضوع المعرفي، ويتم هذا بالتفاعل مع جماعة الأقران والوسطاء (في الحقل المدرسي الوسطاء عموما هم المدرسون). المعرفة التي تقيمها الذات/الفرد للحقيقة" هي بناء يدار بمساعدة أنظمة رمزية للتفكير". وتؤكد نظريات السيكولوجيا الاجتماعية والسيكولوجيا المعرفية : "على دور التفاعلات المجتمعية وخاصة ما بين الأقران، في النمو المعرفي، عبر وساطة اللغة وتنظيم منظومة المفاهيم العلمية انطلاقا من منظومة التمثلات الخاصة بالمتعلم".
هذا التصور للتعلم يعتبر أن الفرد نشيطا : "يهتم أنصار السيكولوجيا المعرفية بالفرد/الذات [...] في وضعية حل مهمة خاصة من أجل الاكتساب والفهم. يتمركز المشروع الفردي على حل المشاكل التي تستعمل المعارف التصريحية (على شاكلة الخطاب، المعرفة) والمعارف الإجرائية (على شاكلة الفعل، المهارات)، ضمن تعابير مقطعية ومرتبة خاصة بكل مادة تخصصية. يتعلم الفرد الجغرافيا لأنه يريد حلا لمشكل جغرافي الذي يبحث عن فهمه".
على المستوى الديداكتيكي، من المهام الأساسية للمدرس هو إدراك الوضعيات التعلمية التي تمكن التلاميذ من الاشتغال على المشاكل التي تحمل معنى بالنسبة لهم والتي يمكن معالجتها بالتفاعل مع الأقران، و بالاستفادة من وساطة المدرس عند الضرورة. يمكننا الحديث عن وضعيات "للبحث" : يستفيد التلاميذ من نوع من الاستقلالية من أجل استثمار مختلف المقاربات لمعالجة المشكل، وهذا ما يفرض أيضا أن لهم هامشا من الوقت لإنجاز هذه المهمة. عندما يكون التلاميذ منهمكين في إنجاز أنشطتهم، يلعب المدرس في المقام الأول دور الفرد – المورد، كما أنه يحمل أيضا عناصر للتقويم التكويني (التغذية الراجعة) الفردية أو الجماعية.
ضمن منحى هذا التفكير تم تصور الغالبية العظمى من الوضعيات والأنشطة المقترحة من طرف الكتب المدرسية. مثلا المقطع التعلمي الثاني من الفصل الذي يعالج المواصلات والموجود بالكتاب المدرسي "أوروبا، تعدد أوجه أوروبا"، والمخصصة للطرق والتي تشمل العشرات من التمارين المتبانية التعقيد. يعرض المقطع الأول مفهوم التيارات، ويعالج المقطع الثاني الشبكات. بعض التمارين تضع التلاميذ في وضعيات تعلمية خاصة، كما هو الشأن بالنسبة للأنشطة التي تقترح بحثا حول التنقلات داخل المؤسسة المدرسية والتي تمكن من تمثيل المعطيات المجمعة على شكل خريطة بهدف مقاربة مفهوم التيار والذي سيتم تطويره لاحقا (وأساسا عبر سلسلة من الأنشطة التفكيرية المركزة على حول مثال كلاسيكي لنموذج بسيط يمكن من حساب التيارات ما بين المدن)، كما يتم اقتراح وضعيات تعلمية أخرى للتلاميذ الذين تمكنوا من تخطيط شبكة طرقية لبلد معين.
يجب استحضار تعقد المعارف المستثمرة ضمن الوضعيات التعلمية، وكيفما كانت المقاربات، فالمدرس مدعو لإدماج المرحلة التي من خلالها يتمكن للتلاميذ من تدقيق المفاهيم المستعملة، العمليات المنتظرة، المهارات المعتمدة، وبصيغة أخرى تنظيم معارفهم. والعنصر المهيكل ضمن هذه العملية التنظيمية هو إعادة تنظيم المعارف، حيث يعتبر المفهوم كأداة إجرائية للتفكير.
د – المفاهيم المتكاملة/المندمجة، أدوات للتفكير الجغرافي (Les concepts intégrateurs) :
إدراك التعلم ضمن البعد المعروض سابقا يفرض أن التلميذ يمتلك الأدوات التي تمكنه من تنظيم معارفه، حيث يعتبر "إدكار موران" أن : "الرأس الجيدة، هي الرأس القادرة على تنظيم المعارف وتفادي تراكمها العقيم". من وجهة النظر هاته، التعلم يعني "القدرة على المفهمة، يظهر المفهوم كعنصر مهيكل يساعد التلميذ على تدبير تعدد المعلومات التي يستعملها، والتحكم في تفكيره، وفهم الوضعية، أو المشكل الجغرافي، وأخيرا التموقع كفاعل.
فقد انشغل ديداكتيكيو الجغرافيا لمدة عقد من الزمان في تعريف أدوات التفكير هاته. وقد تعاقبت لائحة المفاهيم المتراتبية والمرتبطة بالتساؤلات "الخاصة بالجغرافيا" (أين؟ ماذا؟ متى؟ كيف؟ لماذ؟) ضمن آثار أعمال "برونير وبارت وفيكوتسكي"، وتستهدف هذه التأملات تعريف المفاهيم الجغرافية القادرة على لعب دور الأدوات الإجرائية للتفكير. وإذا أخذنا بعين الاعتبار استحضار هذه المقاربة في نفس الوقت للجانبين الديداكتيكي والابستمولوجي من خلال الأعمال التي أنجزت في سويسرا منذ نهاية سنوات الثمانينيات (1980) وبداية سنوات التسعينيات (1990)، وخاصة الأبحاث الموازية المنجزة في جنيف والأبحاث التي أنجزتها شخصيا.
في جنيف، قادت مجموعة البحث بقيادة فارشير وتحت إشراف مركز البحث السيكوبيداغوجي لسلك التوجيه في إطار إعادة البناء الشامل للمناهج الدراسية، وتندرج هذه المقاربة الطويلة النفس ضمن البعد السوسيو بنائي وتعريف المفاهيم السبعة المتكاملة/ المندمجة تم الأخذ بها وهي إحدى النتائج المهمة، وخاصة بعد وضعها للمساهمة في هيكلة مناهج للجغرافيا وتظهر هذه المفاهيم السبعة في الشكل التالي :
المفاهيم السبعة المتكاملة/ المندمجة والأسئلة المركزية للتفكير الجغرافي المرتطة بها (هرتيغ وفارشير، 2004)
التساؤلات المرتبطة بها |
المفاهيم المتكاملة / المندمجة |
أين؟ لماذا؟ ما هي تأثيراته هنا وهناك؟ |
التوطين |
من هم الفاعلون المعنيون؟ ما هي اهتماماتهم؟ ما هي الحركات المجالية؟ وبعبارة أخرى مجال منتوج من طرف من؟ لفائدة من؟ لماذا؟ متى؟ كيف؟ |
الفاعلون، القصدية ، الحركات المجالية ( المجال منتوج) |
ما هو المقياس الذي أشتغل به ؟ ما هي المقاييس الأخرى التي يجب علي أن أفكر بها في إطار هذه الإشكالية؟ |
المقياس (الترتيب المتصاعد) |
ما هي تمثلاتي الخاصة حول الموضوع؟ وتمثلات الآخرين؟ كيف نتفاهم؟ |
التمثلات |
ما هي التفاعلات المحددة في إطار هذه الإشكالية؟ بين أية عوامل؟ هل هناك تأثير متبادل؟ تفاعل متبادل؟ |
التفاعل |
لماذا تتركز بعض الأنشطة في بعض الأمكنة؟ ما هي وظيفتها المحركة؟ انظر أيضا التساؤلات المرتبطة بالتوطين والمجال المنتج. |
الاستقطاب (التراتبية) |
كيف ينتشر ظاهرة ما؟ أين؟ لماذا من هنا؟ إلى أين ؟ بأية شبكة؟ لماذا؟ الانتشار سهل أم مركب. |
الانتشار |
ومن جانبي (هرتيغ)، ساهمت منذ 1987 في أنشطة مجموعة العمل الديداكتيكي للجغرافيا والتي أصدرت سنة 1992 كتيبا يقدم العدة المختلفة لتكوين مدرسي للتعليم الثانوي للجغرافيا بسويسرا. تتضمن مقدمة هذا الكتاب الصغير مقطعا بعنوان "اختيار المعارف" والذي يبرز فكرة المفاهيم التي تمكن من تنظيم التعلم : "من أجل الحد من تشتت المعارف أو صد النزاعات المرتبطة بتوجيه البرامج (مقاربات موضوعاتية أومرتبطة بالمجالات، أو بالمشاهد)، من الضروري البدء بالبحث عن توافق حول المفاهيم التي ستستعمل انطلاقا من المدرسة وإلى حدود الجامعة... من الضروري فهم مجموع هذه المفاهيم التي تنظم كل التعلم الجغرافي".
كما يقدم نفس النص، لائحة طويلة من المفاهيم، من ضمنها ستة مفاهيم تم الاحتفاظ بها من طرف مجموعة العمل بجنيف (المجال منتوج، التوطين، المقياس، الاستقطاب، التفاعل، التمثلات)، هذه المحاولة الأولى لم تتمكن من إنهاء عملها نتيجة الخلط بين المفاهيم والمصطلحات الأقل انسجاما.
لاحقا، وفي سياق المراجعة الشاملة للمنهاج، تمكن هذا فريق البحث هذا من بناء "نموذج للمنهاج" بالنسبة للمدارس العليا الثانوية. النسخة الفرنسية من هذه الوثيقة تشير إلى لائحة من 11 مفهوما أساسيا، من ضمنها 6 مفاهيم من أصل 7 مستخرجة من طرف فريق جنيف (باستثناء الانتشار)، والتي ينضاف إليها مفاهيم التراتبية، المسافة، التغيرات المستمرة، التيارات...
الورش الكبير للكتابين المدرسين "أوربا، تعدد أوجه أوروبا – والعالم ، تعد أوجه العالم"، سيقود إلى تشكيل ما يمكن أن نسميه "قطب بحيرة جنيف - pôle lémanique " لديداكتيك الجغرافيا. وقد انتدب "فارشير" كممثل لمقاطعة جنيف ضمن اللجنة الخاصة بقراءة الكتاب المدرسي "أوروبا، تعدد أوجه أوروبا"، وهو ما أدى إلى تأسيس تعاون متين بدءا من موسم 1994 – 1995. في سنة 1996 عندما انطلق العمل لتحرير الكتاب المدرسي "العالم، تعدد أوجه العالم"، تم تبني المفاهيم السبعة (7) المتكاملة، كعناصر مهيكلة للمقاربات الديداكتيكية المقترحة ضمن هذا الكتاب. وقد تم تحديد هدفها ودورها بطريقة مفصلة من طرف فارشير في الدليل المنهجي الموازي للكتاب المدرسي. منذ هذه المرحلة تم استعمال هذا الجهاز المفاهيمي كأحد الركائز لعملية التكوين الأساس لمدرسي الجغرافيا، وخاصة في جنيف ولوزان. وقد تمت إعادة استخدام هذه المفاهيم السبعة (7) المتكاملة عند نهاية سنوات التسعينيات (1990) كعناصر مهيكلة لتصميم المنهاج الجديد للتعليم الإجباري في مقاطعة فود، والتي تمت أجرأت النسخة الأولى منها مع الدخول المدرسي غشت سنة 2001.
ليس من المبالغة أن نقول بأن تدقيق وثبات هذا الجهاز المفاهيمي يمثل خطوة تجديدية بالنسبة لديداكتيك الجغرافيا. كل مفهوم من هذه المفاهيم المتكاملة يمكن اعتباره "كفكرة تمكن من تنظيم المدارك والمعارف". وبالترابط الضمني مع التساؤلات المركزية للتفكير الجغرافي تسمح هذه المفاهيم المتكاملة بالبعد الاجرائي/العملي للبحث : فهي تمكن من مساءلة وفهم الحقيقة وبالتالي بناء التفكير الجغرافي.
يمكن هذا الجهاز المفاهيمي المحدد من فهم تعقد المشكل الجغرافي. وهذا ضروري وأساسي بالنسبة للسياق المدرسي الذي يعتمد دائما محاولات "تبسيط ما هو معقد". نعلم بأن مختلف التفاعلات التي تربط العلاقات ما بين المجتمعات البشرية والمجال أو عبر المجال، تجعل من الجغرافيا علما تركيبيا. إذا كان هذا الجهاز المفاهيمي يتم بناؤه وتركيبه بالتدريج لفائدة مكتسبات التلاميذ، فإن اختزال أو تبسيط الحقيقة، يؤدي دائما إلى تشويهها. وتنحصر مهمة المدرس في تعريف الإشكالات والتي يتطلب حلها عمليات توجد عند المنطقة المحادية للنمو عند التلاميذ، إذا رجعنا إلى مفاهيم "فيكوتسكي"، كل مرحلة يمكن اعتبارها "كبداية طريق يجب قطعه نحو التحكم في التركيب... المعرفة المكتسبة في مرحلة جديدة من التركيب لمفهوم معين لا يمكن اعتبارها سوى مرحلة مؤقتة، من المنتظر أن يتم إتمامها أو تأجيلها لمرحلة لاحقة". إن هذه المفاهيم المتكاملة هي أدوات للتفكير الجغرافي وهي في نفس الوقت تلعب دور العنصر المهيكل في التعلم : "تستخدم الجغرافيا، كعلم اجتماعي، العديد من المفاهيم والمصطلحات، بدون شك فإن المفاهيم لا تقدم بشكل منعزل ولكن في إطار تفاعل : فالمفهوم يأخذ معناه ضمن عمق شبكة مفاهيمية تتغير تراتبيتها مع الوضعية، التوضيح الذي نود إعطاءه له، المشكل الذي نود طرحه... إنها نفس المفاهيم والمصطلحات التي تم اكتسابها منذ مرحلة الطفولة إلى الجامعة. تظل بنية المعرفة متشابهة من مستوى تعليمي لآخر، وما يمكن تعريفه انطلاقا من هذه اللائحة، هي الأهداف المفاهيمية التي يجب تحقيقها عند كل مستوى تعليمي".
تظهر وجهات النظر المتباينة ما بين مختلف الباحثين الذين تمت الإشارة إليهم حول ضرورة تحديد مجموع المفاهيم التي تهيكل مجموع التعلم الجغرافي. الهدف الخاص من "المنظومة المفاهيمية السويسرية" تكمن من وجهة نظري في كون دور ووضعية المفاهيم المتكاملة – وبعدد محدود – هي مختلفة بوضوح عن المفاهيم الجغرافية الأخرى. من جهة أخرى هذه المنظومة قادرة على هيكلة وتنظيم مجموع المنهاج، على غرار ما تم فعله في المنهاج الخاص بسلك التوجيه بجنيف والتمدرس الإجباري بفود، حيث نجد مبدأ النموذج "اللولبي" لترسيخ المعارف المبنية على أعمال برونير.
وتختزل خطاطة التالية (العلاقة بين المفاهيم المتكاملة) العلاقات البديهية بين هذه المفاهيم السبعة (7) المتكاملة. وتمكن طبيعتها والتساؤلات المرتبطة بها من تمييز 3 مجموعات صغرى ضمن هذه الشبكة المفاهيمية (هرتيغ وفارشير، 2004) :
- مفهوم منظم للمجموع، وهو مفهوم التفاعل وهو أداة للتفكير النسقي.
- 4 مفاهيم في علاقات متداخلة، وهي مفاهيم الفاعلين، القصدية والحركات المجالية، التمثلات، التوطين والمقياس.
- مفهومين هما نتيجة للمفاهيم الأخرى وهما مفهومي الاستقطاب، التراتبية والانتشار.
ضمن السياق الجغرافي الذي يركز على الغايات المواطناتية، من البديهي أن مفاهيم الفاعلين، القصدية، والحركات المجالية، والتمثلات تشكل مركز هذه المنظومة.
عنوان الخطاطة : العلاقة بين المفاهيم المتكاملة (هرتيغ وفارشير، 2004)
تمثل المفاهيم المتكاملة "للمنظومة المفاهيمية" منظومة مرتبطة بالتساؤلات المركزية للتفكير الجغرافي. فاكتساب التلاميذ بشكل تدريجي لهذا الجهاز المفاهيمي، سيمكنهم من تعلم طرح التساؤلات والتوفر على "نقط الترسيخ"، من أجل البحث وبناء الإجابات عن هذه التساؤلات. وهذا ما يظهر لنا أساسيا لكي يتمكن التلاميذ من إدماج المعرفة، وعدم الاقتصار على حالة المفاهيم المنغلقة في غياب التنظيم وغياب المعنى. التركيز على بعد "تعلم طرح الأسئلة" يحيلنا على مفهوم ابستمولوجي للجغرافيا وهو جغرافية الفاعلين والصيرورات.
ه – العلاقة مع الجغرافيا الأكاديمية : العناصر الابستمولوجية للجغرافيا المدرسية.
يقتضي اقتراح الجغرافية المدرسية المتميزة بالمعنى والتجانس مع الغايات المعلنة ضمن عموم المشروع التربوي العام، ارتكازها بطريقة ضمنية على المرجعيات المنحدرة من الجغرافية الأكاديمية. لا يتعلق الأمر بالتفكير في مقاربة مختزلة للمحتويات التخصصية المرجعية ضمن محتويات الجغرافية المدرسية، بل اللجوء إلى عملية النقل الديداكتيكي الصاعدة وتحديدا من المعارف الأكاديمية إلى المعارف الضرورية والملائمة من أجل تبني الموضوع المعرفي.
يتم التصريح بضرورة التفكير الابستمولوجي في معظم الكتب الديداكتيكية للجغرافيا. وبدون القيام بجرد مكثف والذي لن يكون له أهداف كبيرة، أحيل على سبيل المثال إلى بعض المرجعيات في الجغرافية العالمة. فقد أشرت إلى بعض الباحثين ضمن مقالاتي الأولى وهم كلاري وروتالي (Clary et Retaillé) أو لاكوست من خلال عبارته الشهيرة : "جعل الجغرافيا منهجا للتفكير المجالي faire penser l’éspace". تشير مرجعية لاكوست إلى التصور الجغرافي الذي من خلاله يحتل الفاعلون والصيرورات المجالية مكانة مركزية، وهو ما ظهر في العديد من الحالات ضمن فكرة "الرهانات المرتبطة بالمجال". فقد ضمت مقالاتي لسنة 1992 عددا قليلا من المرجعيات، نعترف دائما ببعض المبادئ التي تحيل إلى الجغرافية الإنسانية لدارديل (Dardel) أو الإيكولوجية البشرية التي دافع عنها رافستان (Raffestin) من خلال المقال الذي كتبه للموسوعة الجغرافية بعد النسخة الأولى من المهرجان الدولي للجغرافيا بسان ديي دي فوكس، كما نجد أيضا نصا لبانشيمال وزوجته (Pinchemel) واللذان يعرفان فكرة التربية الجغرافية، وبها يختمان كتابهما الشهير "وجه الأرض". ويمكن أن ننظر إلى تصوراتهما للجغرافية كمرجعيات ابستمولوجية : "الجغرافية هي معرفة... متكاملة أفقيا وعموديا، من الطبيعي والاجتماعي، من العشوائية والإرادية، من الراهنية والتاريخية وعلى الواجهة الوحيدة التي تتوفر عليها البشرية". وأخيرا وضمن هذا السجل وبشكل مختلف عن كتابات بانشمال، نجد كتابات روجي بروني (وأساسا الجزء الأول من الجغرافيا العامة بمساهمة أوليفيي دولفوس)، أو كتابات روبير فيراس تشكل قطبا ابستمولوجيا آخرا للجغرافيا المدرسية التي أمارسها وأدافع عنها، وأيضا بالنسبة لتصور بيرك حول المشهد. وفي كل الحالات يحتل الفاعلون الصيرورات مكانة مركزية ضمن الجغرافية العالمة والتي يجب على الجغرافيا المدرسية أن تنسج العلاقات معها.
حاليا، المرجعيات الابستمولوجية للجغرافيا المدرسية والمركزة على مشاكل العالم – والتي تعتبر كمشاكل للمجتمع – يمكن تلمسها في نصوص لباحثين أمثال ميشيل ليسو ، كي ديميو، وباسكال بيلون، أو دينس روتالي (نفتصر ضمن هذه اللائحة على الكتاب باللغة الفرنسية). يتعلق الأمر بالرجوع ضمنيا إلى جغرافية راسخة في العلوم الاجتماعية والتي تضع " النقط على الصيرورات لبناء العمليات المجالية من طرف مختلف الفاعلين أخذا بعين الاعتبار تمثلاتهم ومقاصدهم". مساهمات هؤلاء الباحثين تدمج الجغرافيا ضمن بعد يتطابق تماما مع الجغرافيا المدرسية، مثلا يوضح "ليسو" بأن المجالية هي بعد أساسي للوجود البشري. ويظهر لي من اللازم تقديم مقتطف عن الإنسان المجالي الوارد ضمن تصدير وخاتمة هذا الكتاب، حيث يقول : "يعتبر وجودنا في كل لحظة من بدايته إلى نهايته، وجودا مجاليا. فهو يتكون من يوم لآخر من الأجزاء المجالية التي ننظمها من أجل التلاؤم مع أهدافنا. فهو يتطلب أن ننظم مختلف هذه المجالات واحدة في علاقة بالأخرى من أجل الحياة، بهدف موافقتها مع ممارساتنا. ومع ذلك هذه المجالات المتعددة، التي تظهر لنا بديهية، تتأكد بشكل غير معقول، إنها تشكل نقطة سوداء من خطاباتنا ومن معارفنا. [من المفروض]، من أجل فهم الظواهر الملاحظة، والربط بين الانشغالات السياسية (لا وجود لأي مجال ولا لمجالية بدون تنظيم جماعي)، والبراكماتية (لا وجود لمجال ولا لمجالية بدون قيم ومعايير ونظرة الفرد تجاه هذه القيم والمعايير). وهكذا بالتحديد، تتحول الجغرافيا إلى علم للعيش البشري، الذي يهدف إلى فهم كيف يمكننا استيطان مجال أرضي، ضمن كل المقاييس، مكان من العالم بدون أن نحوله إلى مجال غير مضياف بالنسبة لنا ولغيرنا".
مساهمة أخرى مهمة يقمها دوديميو وبيلون (Di Méo et Buléon)، اللذين يقترحان أربع (4) مقاربات تمكن من "تخطيط محاور جغرافية اجتماعية معقدة"، وعددا من النماذج النظرية والأدوات المفاهيمية (وأساسا السجلات التاريخية والمجالية، إضافة إلى التشكيلات والترابطات السوسيو – مجالية). المقاربات الأربع المحددة من طرف هذين الباحثين تنتظم على التوالي :
- تحليل تركيب العلاقات الاجتماعية والعلاقات المجالية ؛
- المقاربة المتعلقة بتخصيص المواقع الاجتماعية المختلفة التي ترسم داخل المجال الجغرافي ؛
- دراسة المحاور اليومية والممارسات ضمن المجال الجغرافي والتي تمنحه البعد البشري والاجتماعي ؛
- الأخذ بعين الاعتبار التمثلات الاجتماعية للمجال باعتبارها تمثل "المفاتيح لمجالنا المعيش".
وأخيرا فإن نص دينيس روتايي (Denis Retaillé) والمعنون "التفكير في العالم" (Penser le monde)، يشكل مرجعية أساسية أكثر من عنوان. ضمن هذه المحاولة، يوضح الباحث بأن الخطابات الجغرافية، وبنسب متباينة، مبنية على ثلاث أشكال من للتفكير في العالم : "هذه الاشكال الثلاث ليست متناقضة ، لكنها متعاقبة ومتكاملة ضمن نفس الوضعية المعرفية. العالم هو أولا شيء أو كائن يمكننا أن نصف أجزاءه (السكن)، ثم هو أيضا بعد أو دعامة يمكننا قياسه وترتيبه، كما أنه يشكل ظاهرة يمكننا أن نكتشف معناها وغايتها".
وبعبارات أخرى، فالشكل الأول المتعلق بملاحظة أو التفكير في العالم يرتكز أساسا على اعتباره كموضوع للوصف، ويهدف الشكل الثاني إلى تحديد قواعد التوطين والتنظيم المجالي، وتوضيح الإنتظامات الثابتة، بينما يفرض الشكل الثالث دمج الذات بالموضوع من أجل إعطاء أهمية مركزية للفاعلين، ومقاصدهم وللأبعاد الثقافية والرمزية والسياسية للمجال والأحداث المجالية.
لا تخفى أهمية اقتراح روتالي عن أي مختص في ديداكتيك الجغرافيا كما هو الشأن بالنسبة "لتيمينيز" (J-F Thémines). الذي يوضح بأن الأشكال الثلاثة للتفكير في العالم حسب روتالي يمكن النظر إليها "كمحاور ضرورية ليس فقط من أجل تمييز الخطاب، ولكن لبناء المعرفة، عندما يتعلق الأمر بالتفكير في العالم مع الأرض كمرجعية". وبالتأكيد، فحسب تيمينيز إنه، "لا يمكن اعتبار أي شكل من الأشكال الثلاث للتفكير في العالم، كوصف [...] لتيار أو لمرحلة تاريخية ضمن الجغرافيا العلمية". ويخطط تيمنيز جدولا يقاطع فيه الاشكال الثلاث للتفكير في العالم مع الفئات المجالية المرجعية، العلاقات المجالية المتميزة والتي يسميها بالأبحاث الأولية. هذا الجدول هو أداة جد مهمة بالنسبة للمدرسين، من خلال تمكينهم من وضع محاور واضحة لتحديد نمط بناء المعرفة الجغرافية التي يتطلعون إلى اقتراحها على تلامذتهم.
يهدف الجدول التالي (الأشكال الثلاثة للتفكير في العالم، الأشكال الثلاثة لإدراك الجغرافية حسب روتالي (2000)، تيمنيز (2006)، داكونها (2006)، فارشير (2008) ، إدماج الأفكار الأساسية لروتالي – الأشكال الثلاثة للتفكير في العالم هي في نفس الوقت متعاقبة ومتكاملة – وتيمينيز، بجانب التصور الديداكتيكي لفارشير، والذي يركز على إدماج الذات بالموضوع، والأبعاد الثلاثة للمفهوم الأساسي للتراب.
الجدول : الأشكال الثلاثة للتفكير في العالم، الأشكال الثلاثة لإدراك الجغرافية حسب روتالي (2000)، تيمنيز (2006)، داكونها (2006)، فارشير (2008)
الشكل الثالث |
الشكل الثاني |
الشكل الأول |
التأويلية (Herméneutique) البحث عن المعنى إدماج السياسي إدماج الذات بالموضوع فهم تحركات الفاعلين أدوات إجرائية للتفكير (مفاهيم متكاملة) التمثلات التفكير في المجالية النمذجة الهوية والغيرية (هنا وهناك) التراب: الوسط، المجال، المكان... |
الحركية (Nomothétique) المقاربة البنيوية (البحث عن القوانين الهادفة إلى تنظيم المجال) الترتيب التحليل المجالي الخرائط الموضوعاتية الأدوات الإحصائية النمذجة المقارنة (هنا وهناك ) |
الكتابة الرمزية (Idiographique) مقاربات وصفية المصطلحات، التخزين وصف المشاهد المجال المعطى (فكرة الحقيقة) المجال المملوك ( الدولة ) المعارضة (هنا وهناك) |
جغرافية الصيرورات | جغرافية الإنتاجات/المنتوجات |
إذا كانت الجغرافيا المدرسية منسجمة تمام الانسجام مع الغايات الممنوحة لها من طرف المؤسسة، فيجب أن تندرج ضمن الشكل الثالث من التفكير في العالم. هذا لا يقصي بعض المقاربات المطبقة في الفصول الدراسية والمرتبطة بالوصف أو بالترتيب، أو حتى بالمقارنة... لكن يجب على أية مقاربة أن تكون في خدمة الإشكالية العامة التي تساءل معنى علاقات المجتمعات البشرية مع وعبر المجال.
يمكننا استنتاج كخلاصة بأن هذه الأشكال الثلاثة للتفكير في العالم والمحددة من طرف روتالي تحيل إلى مفهوم لم يستعمل كثيرا، وهو مفهوم الجغرافية المدنية (géographicité). يعرف تيمنيز الجغرافيا المدنية : "كتساؤل حول أصل وطبيعة المعرفة الجغرافية بما تحمله من شمولية، أي كل ما يرتبط بظروف الكائن البشري الذي يواجه عالما من خلاله يتعلم العيش في المجتمع". هكذا نعثر على غايات الجغرافيا المدرسية، التي يجب أن تمكن التلاميذ من بناء المعارف والأدوات الجغرافية التي يحتاجونها كمواطنين وفاعلين مسؤولين. الجغرافيا هي إذن، "نموذج للفعل، أي للممارسات والمعارف"، فهي تمكن من تملك موضوع معرفي جغرافي، على غرار الجغرافية المدرسية التي تساهم في تمكين التلاميذ من بناء علاقاتهم بالعالم.
و – نموذج بنائي من أجل مقطع تعليمي – تعلمي :
بعد استعراضنا للعناصر المرجعية التي ترتكز عليها المقاربة الديداكتيكية التي تمكن من إعطاء معنى للجغرافيا المدرسية، يبقى من الضروري تقديم خصائصها الأساسية. تتميز هذا المقاربة الديداكتيكية باللجوء إلى عنصر مثير يمكن من أشكلة الموضوع المعرفي، ثم حصر المشكل داخل الفصل، ويتم تنظيم المقطع التعليمي التعلمي ضمن عناصر/وحدات من المشاكل حيث تنحدر الإشكالية من التساؤلات المرتبطة بالعنصر المثير، والحرص على وضعها ضمن شبكة من المعارف الجغرافية المؤطرة بأدوات المفاهيم المتكاملة، وأخيرا يفضي المقطع إلى مرحلة التركيب من خلال مأسسة المعارف والمفاهيم.
1 – من العنصر المثير إلى الإشكالية :
ضمن التصور العام لهذه المقاربة الديداكتيكية، يمثل العنصر المثير أهمية مركزية، وعلى المدرس أن يختاره بعناية فائقة، بشكل يمكن من شغل الوظائف الثلاث المرتبطة به :
- الوظيفة الأولى : تحفيز التلاميذ على اقتحام موضوع جديد، وهنا يلعب الدور الكلاسيكي "للطعم".
- الوظيفة الثانية : تركز على تسهيل بروز التمثلات الأساسية لتلاميذ حول الموضوع المشتغل عليه (تكمن أهمية التمثلات الأساسية للتلاميذ ضمن التصور السوسيو بنائي للتعلم في كونها تشكل عائقا/أو دور مسهل في اكتساب المعارف الجديدة)، ومن الضروري على المدرس تحديدها من أجل أخذها بعين الاعتبار أثناء بناء المقطع التعليمي – التعلمي.
- الوظيفة الثالثة : مرتبطة بشكل وثيق بالوظيفتين السابقتين، وهي إثارة التساؤلات لدى التلاميذ وتمكينهم من طرح العديد من التساؤلات حول خاصيات الموضوع الذي كشف عنه العنصر المثير. "فبروز التساؤلات لدى التلاميذ هو شرط مسبق للبناء الجماعي للإشكالية الجغرافية، التي لها معنى بالنسبة لهم، ما دام أنهم في ارتباط بتساؤلاتهم التي يبحثون لها عن منفذ/مخرج".
اللجوء إلى العنصر المثير يسمح إذن بتحديد الإشكاليات الجغرافية، والتي تشكل العناصر "المحركة" لكل البناء الديداكتيكي. هاجس بناء الإشكاليات مع التلاميذ يتماشى بالتجانس مع غايات التكوين المواطناتي للجغرافية المدرسية. وككل تخصص علمي، تشكل الجغرافيا : "وجهة نظر حول العالم والأفراد والتي تتميز بتساؤل خاص". ومن الضروري تدريب التلاميذ على إعادة بناء هذا النوع من التساؤل بهدف اكتسابه "وتطوير التفكير المستقل". وبعبارة أخرى "من اللازم تدريب التلاميذ على طرح التساؤلات أكثر من الإجابة على تساؤلات المدرس".
طبيعة العنصر المثير يمكن أن تكون جد متباينة حسب المواضيع المعالجة، وحسب نوعية التساؤلات التي يطمح الأستاذ إلى إبرازها، وتظل الإمكانات جد متعددة في مجال العنصر المثير : الصورة المتحركة أو الثابتة، الخرائط، قصاصات الجرائد، رسومات الجرائد، الكاريكاتور، النصوص من الأنترنت...
اختيار العنصر المثير يفرض على المدرس عملا تقديميا ملائما. ويجب أن يكون العنصر المثير قادرا على ملئ الوظائف التي تم تعدادها سابقا، وأن تمكن تساؤلات التلاميذ من تحديد الإشكالات الملائمة للموضوع المدروس. وهذا ما يفرض اختياره باعتبار العديد من العوامل، وأهمها على الإطلاق ملاءمته للموضوع المدروس، وقدرته على إثارة انتباه المتعلمين وإيقاظ التساؤلات لديهم.
يمثل البناء الجماعي للإشكالية مرحلة أساسية، حيث قدرة التلاميذ على طرح الإشكالية لا ينبع من ذواتهم : بل إن تعلم الإشكالية يعد ضرورة. بناء الإشكالية يفرض هيكلة التساؤلات بطريقة واضحة، مع الابتعاد عن الحشو والإطناب، وتجنب الأسئلة الإيحائية، والاقتصار على التساؤلات التي لها علاقة بالموضوع أو المشكل المدروس. ويتم هذا في مرحلة أولى عبر الانتقاء وإعادة تنظيم التساؤلات المعقدة التي يطرحها التلاميذ من خلال التفاعل مع العنصر المثير. في المرحلة الثانية، يمكننا بناء الإشكالية بالمعنى الحقيقي، والتي تأخذ شكل منظومة متناسقة من التساؤلات من خلالها يؤدي التساؤل الأساس إلى سلسلة من التساؤلات الموازية، وتظل هذه التساؤلات مستقلة وتتعاقب وتتكامل من أجل تشكيل بنية منهج التفكير المنطقي، والداعي إلى الاستنباط أو الاستنتاج أو الاستقراء.
تعلم الإشكالية يفرض على المدرس من جهة احترام مساهمات التلاميذ، ومن جهة أخرى الانتباه لصيرورة بناء الإشكالية. وهكذا فالمدرس مدعو إلى مواكبة منطوق تفكير التلاميذ خلال هذه المرحلة من العمل، وذلك بمساعدتهم على بناء التساؤل الأساس واشتقاق التساؤلات الموازية منه. وتشكل هذه التساؤلات محاور الوحدات التعلمية التي تشكل المقطع التعليمي – التعلمي. ومن الممكن أن يقوم الأستاذ بتقديم مباشر للإشكالية، من خلال اشتقاقها من إشكالية علمية، أو توليدها من قطع مختلفة، أو أخذها من كتاب مدرسي. لكن بناء الإشكالية مع التلاميذ يمثل الطريقة المثلى بهدف إعطاء معنى للمقاربة التعليمية – التعلمية، بما أن كل الأنشطة المنحدرة منها تساهم في البحث عن الإجابات عن التساؤلات المطروحة.
بهذا المعنى، فإن اكتساب الإشكالية يعد أهم من اكتساب قدرة عرضانية : تعلم تحديد الإشكالية الجغرافية، هو أيضا تعلم تحريك المعارف وأدوات التفكير الخاصة بالجغرافية. وبما أن المفاهيم المتكاملة للجغرافية هي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتساؤلات المركزية للتفكير الجغرافي، فيجب إعطاؤها كامل الأهمية، "فاكتساب طرح التساؤلات أو طرح الإشكالية، يحيل على مفهوم ابستمولوجي للجغرافيا، وهي جغرافية الفاعلين والصيرورات. وكيفما كانت هذه الجغرافية، فهي تعكس نظرة حول العالم، من خلال التجانس مع غايات تدريس الجغرافيا بالمدرسة.
2 – هيكلة وتنظيم المقطع التعلمي إلى وحدات من المشاكل أو وحدات تعلمية :
بعد اختيار العنصر المثير، يعمل المدرس على تقديم الإشكالات التي ينبغي تحديدها، وهو ما يمكنه من حصر بنية المقطع التعليمي – التعلمي. تمثل الإشكالية المركزية الخيط الناظم للمقطع، والتساؤلات الجزئية التي تنحدر منها (والتي يمكن نعتها بالإشكالات الصغرى)، تلعب نفس الدور على مستوى مختلف الوحدات التعلمية. وتنتظم كل واحدة منها تحت تساؤل مصغر ينحدر من التساؤل الرئيس. ويوضح الشكل التالي الخطوات الأساس الخاصة بالمقاربة الديداكتيكية للجغرافيا من خلال تدبير بنية مقطع تعلمي.
عنوان الشكل : بنية مقطع تعليمي – تعلمي، وفق الخطوات الأساس الخاصة بالمقاربة الديداكتيكية للجغرافيا
يكمن الهدف الأول من طريقة تنظيم المقطع التعليمي – التعلمي، في أن البنية المحددة تساهم في إعطاء المعنى للمهام المقترحة على التلاميذ وللتعلمات التي من المفروض بناؤها ضمن سياق كل عنصر/وحدة من المشاكل ومن خلال محتوى المقطع في شموليته.
يمكننا القول بأن هذه المقاربة تمكن من تعلم طرح الإشكالية، وأيضا التعلم عبر حل المشاكل : حيث يصبح المشكل الذي يجب حله منظما [داخل كل عنصر/وحدة من المشاكل]. وتصبح المعارف المكتسبة أدوات أساسية لحل هذا المشكل. وهكذا فكل مهمة تأخذ معناها ضمن السياق المعطى ضمن عنصر/وحدة المشاكل : مثلا استخراج المعلومات من الخريطة الموضوعاتية، قراءة الصورة، أو اكتساب مصطلحات جديدة متعلقة بالحقل المدروس، هي من بين العناصر التي تساهم في التعلم وبناء المعارف الجغرافية التي يحتاجها التلاميذ، في أفق حل المشاكل المطروحة.
القدرة على التنظيم الدقيق للمقطع التعليمي – التعلمي هي كفاية مطلوبة في كل مدرس. المبادئ التي تمكن من تنظيم المقطع وذلك بالارتكاز على الإشكالات المحددة انطلاقا من تساؤلات التلاميذ والمستوحاة من العنصر المثير، يتم إعادتها لاحقا ضمن عدة التكوين الأساس لمدرسي الجغرافيا. كما يمكننا أيضا تحديدها ضمن بنية معظم المجزوءات والمقاطع المقترحة في الكتاب المدرسي "العالم، الأوجه المتعددة للعام" (مثلا المجزوءة الأولى المعنونة بالمناطق الفارغة والمكتظة من السكان).
إذا كان المدرس ينطلق من المقاربة المقترحة ضمن الكتاب المدرسي، يمكنه أن ينظم المقطع كتكملة وذلك باستدماج الإشكالات المحددة مع التلاميذ : الوحدة التعلمية الأولى (أين هم الأفراد، ولماذا؟) ستخصص للعمل الأساس حول المناطق الكبرى للتعمير والعوامل المفسرة للأصول والتطورات. الوحدة التعلمية الثانية (تشابه المناطق المكتظة بالسكان) تقود التلاميذ إلى الاشتغال على مقاييس مختلفة من أجل إدراك أن ما يظهر مكتظا على مستوى مركز تعمير ما، يمكن أن يشكل بمقاييس أخرى، مجالات ذات اكراهات متعددة بالنسبة للكثافات السكانية. وستخصص الوحدة التعلمية الثالثة للمناطق الفارغة من السكان وللعوامل المفسرة للتواجد والتوطين. وأخيرا الوحدة الرابعة تقترح تغييرات جديدة على مستوى المقياس من أجل فهم مختلف أمثلة السكان التي تعيش في أوساط منفرة.
وبتركيز التفكير في تنظيم المقطع، يمكن للمدرس أن يبرهن على أن معالجة مختلف وحدات المشكل يجب أن تتم بشكل متعاقب، أو أن تتوزع ما بين العديد من مجموعات العمل التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار تفكيرها بالنظر إلى مجموعة القسم. وكيفما كانت اختيارات المدرس، من المهم تحديد الوحدات التعلمية (المشاكل)، بهدف فهم الإشكالية الجغرافية في شموليتها والتي تعطي معنى للتعلم، وعدم الاقتصار على تفكيكها إلى عناصر صغرى مستقلة بعضها عن البعض الآخر وخارج سياقاتها.
تنظيم المقطع التعليمي التعلمي ضمن وحدات من المشاكل ينبني على مبدأ حصر المشكل داخل الفصل الدراسي : إذا تمكن التلاميذ من حل المشاكل، من البديهي أن هذه المشاكل تم تمثلها/تصورها، والتفكير فيها ومناقشتها من طرف التلاميذ. وباقتحام المشكل يأخذ التعلم شكله، ويتم تقاسم التساؤلات والرهانات. في البداية، من الضروري تدريب المتعلمين على اكتساب طرح الإشكالية، وحل المشكل ولو كان معقدا، وهو النشاط الذي يؤهل التلاميذ لوضعية المنفذين. بالنسبة للتلميذ، تعلم الأشكلة في الجغرافية، هي تعلم طرح المشاكل والبحث عن حلول لها تحت زاوية رصد العلاقات ما بين الأفراد ومجتمعاتهم مع المجال. وهكذا يتمكن التلميذ من ضبط جغرافية الفاعلين والصيرورات. وتختتم هذه المقاربة التي تم قطعها من خلال المقطع التعليمي التعلمي ومختلف عناصر/وحدات مشاكله، بتدقيق تعلمات التلاميذ أو ما يعرف بمرحلة التركيب.
3 – التركيب، المأسسة والمفهمة :
توضيح عناصر/وحدات المشاكل ضمن المقطع التعليمي – التعلمي يستجيب لمنطق المعنى ولرغبة جعل التلاميذ فاعلين في تعلماتهم الخاصة. ومن الضروري أن يكون المدرس يقظا لكي لا يخلط عملية حصر المشاكل في القسم و"الفاعلية" الذي هو تعبير مستوحى من معنى تعاقب الأنشطة التي تصبح هدفا في حد ذاتها. نشاط التلاميذ يحمل معنى ويسهل التعلمات، بشرط أن لا يتحول التعلم إلى هدف ثانوي، لأن المهم في أعين المدرس هو إتاحة الفرصة لمشاركة التلاميذ : وهنا يوجد مصدر أساسي وحقيقي لهدر المعرفة المدرسية، وهو ما تؤكده العديد من الأبحاث التي أنجزت في فرنسا، أو سويسرا.
كل مقطع تعليمي – تعلمي في الجغرافيا يجب أن يتضمن العديد من اللحظات لمأسسة المعارف. مفهوم المأسسة هنا له معنى شرعنة المعارف المستعملة أو المبنية عبر المقاربات المقترحة على التلاميذ، هذه الشرعنة تفرض على المدرس، أن يوضح للتلاميذ بأن هذه المعارف لها علاقة بثقافة المادة المدرسة، وبالتالي يجب اعتبارها كمعارف منتظرة وملائمة ومضبوطة. تمكن مرحلة المأسسة من ترسيخ المعارف المستعملة، وتساهم في منح المعنى لعموم المقاربة المعتمدة. ومن الأجدر إدماجها في لحظات معينة ضمن كل وحدة من المشاكل، ومن الضروري إعدادها عند نهاية المقطع التعليمي – التعلمي.
لا تختزل المأسسة في تعداد بسيط للمفاهيم المستعملة أو المكتسبة، ولكن يجب أن تقوم على المعارف الإجرائية والقدرات العرضانية وأساسا على أدوات التفكير المطلوبة. والمفاهيم المندمجة/ المتكاملة مدعوة للعب دور المنظم للمعرفة الجغرافية، ووضعها في إطار شبكة مجموع المعارف المتحركة عبر مختلف مراحل المقطع التعليمي – التعلمي. على صعيد كل مقطع، تطابق هذه المقاربة مرحلة التركيب العام، وعلى صعيد وحدات المشكل يمكننا الحديث عن التركيب الجزئي.
وهكذا، يتم ضبط لحظات المأسسة وذلك بوضع النقطة الخاصة حول أدوات التفكير المطلوبة، فهي تمنح مجالا للتلاميذ من أجل بلوغ المفهمة. تمكن الأنشطة التجريدية الانتقال من الحالة الخاصة إلى الحالة العامة، جاعلة المفهمة شكلا أرقى من التعلم الذي يتيح للمقاربة تنظيم المعارف. إن المفهوم ليس منعزلا، بل هو مندمج في إطار شبكة مفاهيمية التي تربط بين المفاهيم التي تنتمي لنفس الحقل الابستمولوجي. مرة أخرى نعود لخصائص المنظومة المشكلة من المفاهيم السبعة (7) المتكاملة/المندمجة للجغرافيا وعلاقاتها. كما يبرزها الشكل التالي
عنوان الشكل : دور ومكانة لحظات مأسسة المعارف ومراحل التركيب (ص : 63)
4 خلاصة مرتبطة بالآفاق المستقبلية :
إجمالا، فالمقاربة الديداكتيكية التي تم استعراض أسسها وخصائصها ضمن هذا الفصل يمكن أن تندرج في أربعة (4) مبادئ أساسية، والتي ترتبط بالعديد من رهانات تعليم وتعلم الجغرافيا في تجانس مع غايات المدرسة :
- الحرص باستمرار على استثمار هذه المقاربة لما لها من معنى بالنسبة للتلاميذ ؛
- توضيح العناصر الأساسية لتعلم الإشكالية وحل المشاكل ؛
- الإعداد الضروري والملائم للحظات وأنشطة مأسسة المعارف والمفاهيم ؛
- الارتكاز على المفاهيم المتكاملة/المندمجة للجغرافيا.
إذا احترمت هذه المبادئ، يظهر لي بأن الشروط قد اجتمعت من أجل إعادة استثمار المعارف الجغرافية المبنية من طرف التلاميذ في دراسة حقل موضوعاتي جديد سواء بشكل فردي أو جماعي.
من جهة أخرى، فإن المقاربة الديداكتيكية المطبقة طوال مراحل الدراسة، وحسب مبدأ البنية اللولبية للتعلمات المقترحة من طرف برونير. تظهر بالأساس أن وضع شبكة من المعارف في شكل مفاهيم متكاملة/مندمجة وتطوير قدرات التساؤلات العقلانية لدى التلاميذ يجب أن يتم منذ السنوات الأولى من التمدرس، بهدف أن يعيي التلاميذ المسار الذي من خلاله يشكلون علاقاتهم مع العالم. لا يمكن استثمار كل المفاهيم المتكاملة/ المندمجة مع التلاميذ الصغار، حيث يتم التركيز فقط على المفاهيم المرتبطة بالممارسات المرجعية لهؤلاء الأطفال ولمعيشهم. المفاهيم العامة المستعملة مع تلاميذ الابتدائي تتعلق بالتمثيل، المقياس، التوطين، الفاعلون (المجال منتوج) : تأخذ التساؤلات هنا معنى في إطار المقاربات الجغرافية المستكشفة للمحيط اليومي للتلاميذ.
تطبيق هذا النوع من المقاربات يفرض بأن المدرس قد استفاد من تكوين جيد على مستوى المعارف العلمية والديداكتيكية. لكن الملاحظ هو أن التكوين الحالي للمدرسين الموجهين للأقسام الدنيا/الأولية لا يمنحهم إلا أدوات غير متكاملة في مجال ديداكتيك الجغرافيا، رغم أنهم يرتكزون على مستوى من المعارف الأكاديمية الكافية، بحجة ضعف الغلاف الزمني المخصص في هذا التكوين للجغرافيا. وهو عكس سياق التكوين بالنسبة للمدرسين المتخصصين والموجهين للاشتغال في مؤسسات التعليم الثانوي.