" إن الأنوارتتوقف على التربية، كما أن التربية تتوقف بدورها على الأنوار" (كانط، محاضرات في التربية 1776)
تجدر الاشارة في البداية إلى كون النص موضوع الاشتغال" تأملات في التربية" لكانط، ليس بعمل اعده صاحبه على وجه متسق و متكامل، كما هو الشان بالنسبة لمجمل اعماله المنشورة في حياته، بل إن هذه التأملات هي جماع محاضرات ألقاها كانط في جامعة كونسبرغ الألمانية مابين 1776-1787 في فترات متقطعة، و قد سلمها لتلميذه رينك RINK في نهاية مشواره المهني، موصيا إياه بنشر ما يناسب الجمهور منها آنداك. لينشرها رينك سنة 1803 ،أي قبيل وفاة كانط بسنة تقريبا. وهو ما قد يدل على أن كانط لم يقف على نشر هذه النصوص شخصيا، إذ يبدوا واضحا للقارئ مدى عدم انسجام فقراتها و كذلك التكرار الذي يرد فيها للكثير من الأفكار و الفقرات.
وقد يبدوا جليا أن كانط عندما بدأ محاضراته "حول التربية" سنة 1776، كان اطلع بإمعان على عمل روسو " إميل أو في التربية" الذي نجد كانط في هذه المحاضرات يستحضره في كثير من الأحيان، أضف إلى ذلك أن اهتمام كانط بالتربية لم يكن اهتمام رجل فكر منظر وفقط ، بل هو اهتمام ممارس للتربية ،إذ زاول مهنة المعلم و المربي الخاص في البيوت لمدة 9 سنوات (1746-1755)، في هذه الفترة بالذات استطاع أن يبلور رؤية نقدية لما كانت تشهده ألمانيا في القرن 18 من أشكال التربية السائدة في الوسط الأسري و داخل المؤسسات التعليمية و الدينية ، و للخطورة التي لاحظ كانط أنها تهدد مستقبل الانسانية لما للتربية من دور اساسي في تنشئة الاجيال، و هو ما سيجعل كانط ينكب على كتابة مذكراته التي ستكون أساس المحاضرات التي سيلقيها في الجامعة كونسبرغ، لذلك نعتبر ان هذا العمل (بالرغم من عدم اتساقه ) له من الأهمية الكبرى ما يجعله لبنة من لبنات مشروع كانط الأنواري و النقدي، و هو ما سنحاول إبرازه في هذه القراءة " السريعة" لنصوص " تأملات في التربية" محاولين أن نستشف اهم القضايا التي يقف عندها كانط حول التربية: التعليم، الأخلاق، التربية و الشأن السياسي، الدين، الجنس...
1- التربية خاصية إنسانية:
في مطلع مذكرات كانط حول التربية نجده يقول: " الانسان هو المخلوق الوحيد الذي يجب تربيته... و أقصد بفعل التربية الرعاية، التغدية و التعهد بالانضباط و التعليم المقترن بالتكوين و من هذه الزوايا الثلاث يكون الانسان: رضيعا و تلميذا و طالبا"، من خلال هذا التحديد الأولي للتربية، نلمس تقسيم كانط عملية التربية لدى الانسان إلى مستويين، جسدي مادي و آخر معرفي عقلي، و هذا التقسيم رهين بتوفير وضع صحي ملائم للطفل منذ بداية تشكل بنيته الجسمية بشكل سليم (الرعاية الصحية)، و العمل على صقل استعدادته العقلية والمعرفية بالتعليم. و يرى كانط أن انفراد الانسان بخاصية التربية، ليس مجرد مسألة اختيارية بل هي صفة مرتبطة به كضرورة، و يتساءل في هذا الصدد : " هل يمكن الحديث عن إنسانية الانسان لو جرد من التربية"، و هو ما يعني ان التربية هي ما يكسب الانسان إنسانيته و يظهر ذلك جليا عندما يقارن كانط بين الانسان (éduqué) و الحيوان (المتوحش) في ما يخص نمط العيش، فالحيوانات عند ولادتها لا تحتاج إلى التربية حتى تعرف ما جدر بها القيام به من اجل البقاء ( جلب الطعام، الهروب من الخطر، صيانة المسكن، طرح الفظلات خارج العش...)، بينما الانسان عند ميلاده يكون واجبا على أبويه ان يوفرى له شروط العيش الانساني و إلا فسيبقى متوحشا"فالانسان لا يكون إنسانا إلا بالتربية".