يبدو أن الهم المركزي الذي يشغل الأستاذ طه عبد الرحمان هو التفكير في كيفية الخروج من دائرة التكرار والاجترار والتقليد والنقل إلى زمن الإبداع الفلسفي. ذلكم الإبداع الذي زان الإسهام الفلسفي العربي في اللحظات المشرقة من تاريخنا الفكري.
هذا الإبداع يريده الأستاذ طه على ثلاث مستويات متداخلة:
1- مستوى فهم التراث
2- على مستوى الكتابة الفلسفية
3- على مستوى الترجمة
1 – على مستوى فهم التراث يلاحظ الأستاذ طه بأن المعالجات التي اشتغلت بالتراث على إسقاط مفاهيم منقولة من التراث الفكري الغربي، جرى نقلها دون تمحيص ودون تبيئة، ودون مراعاة للمقتضيات الأساسية التي يفرضها المجال التداولي العربي والتي هي العقيدة واللغة والمعرفة.
وقد أدى هذا النقل إلى معالجات إيديولوجية قوامها النظرة التجزيئية للتراث، وتغليب الاشتغال بالمضامين على فهم الآليات. بينما يدعو الأستاذ طه إلى النظرة التكاملية للتراث نظرة معرفية تستهدف كشف الآليات كطريق إلى فهم المضامين. فهو يعارض المحاولات السابقة في هذين العنصرين: التجزيئية والنزعة الإيديولوجية المسيسة. لكن معارضته الكبرى تتجه لا فقط نحو هذه الطرائق، بل نحو طبيعة وماهية نهج المقاربة ذاته. فهو يدعو إلى إقامة ابستمولوجيا ذاتية مستقاة من التراث ذاته، وكأن الطريق الأمثل إلى فهم التراث هي المرأة الداخلية للتراث نفسه.
وقد سبق لي أن أبديت في قراءة سابقة لكتاب "تجديد المنهج في تقويم التراث" ملاحظات تساؤلية عن مدى علمية دعوى قراءة وتقويم التراث انطلاقا من مرآته الخاصة.
قد تكون هذه القراءة الداخلية ممكنة، بل ضرورية في مستوى أول، لكن قراءة هذا التراث وتقويمه تقويما علميا تكامليا لا يمكن أن تكون مهمة وافية وعصرية إلا عندما تقرؤه على ضوء المستجدات التي حملتها العلوم الإنسانية المعاصرة من لسانيات وسيميولوجيا وعلم النفس وأنثروبولوجيا... إلخ.
إن قراءة التراث من خلال ابستمولوجيا ذاتية مستقاة من التراث نفسه ربما كانت أقل من قراءة إنها إطراء وتمجيد وامتداح لهذا التراث من خلال صورته عن نفسه، قد يسقط في نوع من النرجسية المعرفية التي تخدم وتدعم الوعي الذاتي المتطابق مع نفسه.
هذا بالإضافة إلى استحالة القيام بمثل هذه العملية اليوم في ظل تطور المعارف العصرية، وتداخلها، وحلولها في لغتنا وتفكيرنا. والأستاذ طه، حتى ولو وجد نفسه منساقا إلى توظيف معارفه الحديثة في الفلسفة واللسانيات والمنطق، وهي المعارف التي صرم من أجل اكتسابها قسطا من عمره وجهده، فإنه على الأقل انتقى منها، بوعي أو بغير وعي، ما يخدم ابستمولوجياه الذاتية نفسها. فالكشف عن هذه الابستمولوجيا الذاتية نفسها لا يتم، على الأقل في مرحلة أولى، إلا من خلال استعارة إن لم يكن نظريات ومنظومات فكرية برانية، فعلى الأقل من خلال استعارة مفاهيم وأدوات إجرائية لا تخلو من حمولة فلسفية برانية بهذا القدر أو ذاك حتى وإن لم يورد في كتاب تجديد المنهج في تقويم التراث أي مرجع أجنبي غير عربي.
فكتابه طافح بالكثير من المفاهيم المرتبطة بهذا القدر أوذاك بالفكر الغربي مثل المنهج، والفكرانية (بديلا لمصطلح الإيديولوجيا المتداول كونيا)، والعقلانية، والمجال التداولي، والتقريب والتداخل والتكامل والاستشكال... إلخ وهي مفاهيم تنتمي إلى حقل الفكر اغربي المعاصر، هذا ناهيك عن المفاهيم المستقاة من التراث القديم اليوناني.
2 – على مستوى التأليف والكتابة الفلسفيين:
يدعو الأستاذ طه باستمرار إلى تحرير الكتابة الفلسفية العربية من التبعية المعجمية والأسلوبية والنحوية والدلالية للغة الآخر، وبالتالي إلى إبداع كتابة فلسفية أصيلة ومتحررة من قوالب اللغات الأخرى.
فتحرير القول الفلسفي العربي من الهيمنة المعجمية والأسلوبية والدلالية والموضوعاتية للغة الآخر هي الجانب السلبي في هذا المسار العسير. إذ تتلو ذلك مهمة أخرى هي التأصيل، وهنا يبدأ الإبداع.
والأستاذ طه يكاد يطابق هنا بين التأصيل والإبداع، بل إن التأصيل هو الإبداع، إن لم يكن فقط علامات من علاماته، والإبداع هو التأصيل حصرا: التأصيل في الكتابة والتأصيل في التأليف أي في القضايا.
إن هذه الأصولية الفلسفية التي يدعو إليها الأستاذ طه دعوة محمودة ومغرية، ولاشك أن الكل يصبو إليها لأنها تندرج في سياق الدعوة إلى الاستقلال الحضاري عن الآخر، والذي يندرج ضمن مطالب الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي، والاستقلال الثقافي وهي مطالب مرغوبة بالتأكيد، لكن ما هي حدودها، وإمكاناتها، وإيجابياتها وسلبياتها؟ بصدد هذه المسألة أسجل بعض الملاحظات.
- يستعمل الأستاذ طه على نطاق واسع مفهوم المنقول الفلسفي. وهذا المفهوم مشحون، كيفما كان القصد من استعماله، بشحنة قدحية خافتة، بينما يتسم مقابله: المأصول، بسمة مدحية-لافتة. وحتى إذا سلمنا بهذا التمييز فما هي معايير تحديد المنقول، ومعايير تحديد المأصول وأين الحدود بينهما؟ أليس المنقول في النهاية هو الفكر الفلسفي كله، والمأصول هو الفكر الديني كله؟
ولنعد إلى المنقول لنقول بأن النقل ذاته ليس كله "حشفا وسوء كيلة" بل هو العتبة الأولى في استيعاب الفكر الفلسفي وتمثله، فالنقل يتطلب قدرا من الفهم والتأويل، وقدرا ما التصرف لتحويل المعاني من لسان إلى لسان. ولعلنا في الثقافة العربية لا نزال أحوج ما نكون لهذا النقل، فالشرط الأولي لإمكان قيام إبداع فلسفي عربي هو أن ننقل أولا لغتنا الأفكار والقضايا والمفاهيم الفلسفية من الفلسفات المتقدمة علينا فنحن لا نستطيع أن نبدع إن لم نحقق أولا الاستيعاب الجيد عن طريق النقل، لأن الإبداع الفلسفي ليس إبداعا من عدم، بل إبداع انطلاقا من مادة فلسفية متوفرة يتعين علينا مواكبتها أولا.
كما أن الإبداع لا يتوقف على مجرد الإرادة أو الرغبة الذاتية في تحقيقه، بل هو رهين بشروط أقلها أن تكون لغتنا وثقافتنا قد استوعبتا ونقلتا وحولتا إليهما القضايا والمعاني الفلسفية. إن التفكير الفلسفي عناء عقلي وجهد ذهني وفكر تجريدي من مستوى رفيع مادته الأولية هي الإسهامات الفكرية التي قدمها من سبقونا في التفكير.
وهذه ليست حالتنا نحن وحدنا في الثقافة العربية، بل إن كل الثقافات المسبوقة تجد نفسها اليوم مضطرة إلى النقل لمواكبة ما جد من المعاني والاجتهادات في الساحة الفلسفية. فالفلسفة الفرنسية مثلا تلهث وراء الفلسفتين الألمانية والأنجلوساكسونية بغية إدراك المستوى الفلسفي لجاراتها لدرجة أن مؤرخي الفكر الفرنسي يتحدثون عن تبعية الفلسفة الفرنسية تجاه الفلسفة الألمانية مميزين تيارات كالماركسية الفرنسية والهيجيلية الفرنسية والنيتشية الفرنسية والهيدجيرية الفرنسية والفينومينولوجيا الفرنسية وهكذا.
بل إن مثل هذه المتابعة ليست بالأمر اليسير والسهر لأنها لا تتوقف فقط على حسن النية والطوية، فالفيلسوف الواحد في فرنسا يصرم عمرا كاملا في محاولة فهم ونقل أفكار فيلسوف ألماني واحد كما حصل لكل من كوجينف وهيبوليت مع هيجل، أو لألتوسير مع ماركس أو لميرلوبوتي مع هوسرل أو للمتأخرين منهم مع هيدجر ونيتشه.
ولعل مقولتي المأصول والمنقول المقابل بينهما هنا لا تفيان بمقتضيات وخصوصيات الوضع الفلسفي. فالفلسفة على الرغم من نشأتها القومية الخصوصية، وتفريخها في أماكن حضارية دون غيرها، هي أكثر المعارف والأنشطة الفكرية ارتباطا بالبعد الكوني. فرغم حديثنا عن الفلسفة الصينية، والفلسفة الأمريكية والفلسفة الفرنسية أو العربية أو الإنجليزية، فإنه باستثناء لوينات خاصة فإن الفلسفة نشاط عقلي ذو بعد كوني. تشهد على ذلك قضايا ومصطلحات كالعقل والوجود والماهية والمقولات، والسلب، والعقلانية وغيرها.
3 – على مستوى الترجمة: يعيب الأستاذ طه على الفلسفة تبعيتها للترجمة، مجاهدا من أجل تخليصها من هذه التبعية العمياء، وحتى إذا ما كانت الترجمة ضرورية فإنه يجب أن نميز فيها بين عدة درجات، أولها الترجمة التحصيلية التي هي ترجمة حرفية لكل ما تضمنه النص المترجم، لفظا ومعنى، مع التمسك بتمام الصورة التعبيرية. وهذا الضرب من الترجمة يقع في آفة التطويل مما يبعد المتلقي عن الفهم. أما النوع الثاني من الترجمة فهو الترجمة التوصيلية، وهذه لا يحصل فيها الاستقلال عن محاكاة المضمون الأصلي مما يوقعها في تهويل المعرفة بالقدر الذي يوعر على المتلقي طريق الإنتاج الفلسفي (ص:510). وأخيرا الترجمة التأصيلية وهذه لا تنقل من النص الأصلي إلا ما يناسب الأصول التداولية التي يأخذ بها المتلقي. فهي إلى حد ما ترجمة انتقائية للنص.
افترض أن هناك قدرا من عدم التمييز بين الترجمة والتعريب الحر للنص. فالترجمة العلمية، من حيث دقتها وأمانتها هي أقرب ما تكون إلى الصنف الأول أي إلى الترجمة التحصيلية. أما النوع الأخير فهو تحرر كامل من النص وإبداع خارجه، إنه ليس ترجمة بالمعنى الدقيق. لذلك أعتقد أننا في هذه المرحلة من تاريخ الفكر العربي لا نزال بحاجة إلى نوع من الترجمة أقرب ما يكون إلى النوع التحصيلي، أي إلى ترجمة علمية أمينة يتولى فيها المترجمون، بأمانة ودقة، نقل النصوص الفلسفية العربية إلى لغة الضاد حتى تتوفر المكتبة العربية أولا والثقافة العربية ثانيا، على النصوص الفلسفية الأساسية في الفكر العالمي. إذ بدون هذه الخطوة الأولى لا قيام لإبداع فلسفي عربي ولا حتى لمجرد فلسفة عربية. إذ يجب أولا أن تمتلك هذه النصوص حق المواطنة في لغتنا فتصبح جزءا من ثقافتنا ولغتنا. فغياب المؤلفات الكاملة لكبار الفلاسفة والمفكرين من لغتنا يشكل ثغرة ونقصا لا يسد في ثقافتنا العربية. وقد أشار الأستاذ العروي أخيرا في محاضرة حول إشكالية الترجمة في الفكر العربي المعاصر إلى أن أحد الأسباب الأساسية لفشل الفكر العربي في الانخراط في الحداثة غياب التراث الفكري الأساسي للبشرية من اللغة العربية. بل إن هذا الغياب يجعل الثقافة العربية -على الرغم من حداثة المثقفين ومن امتلاكهم لناصية العديد من اللغات- ثقافة منجذبة وجاذبة إلى الوراء، بل مكيفة للمعاني الحديثة. وهذا ما يفسر في نظره التأثير السحري الذي يمارسه الفكر التقليدي واللغة التقليدية على النفوس والأذهان.
أما فيما يخص الترجمة التأصيلية التي قدمها الأستاذ طه للكوجمتو فاري أنها قد حورت صيغته الأصلية تحويرا كاملا انتهى بها إلى تقديم صيغة مختلفة كليا، معنى ومبنى، عن الكوجيتو الديكارتي. فما هو أساسي في صيغة الكوجيتو هو صيغة المتكلم المنصوص عليها بالضمير المنفصل أنا الذي تم حذفه وتحويل الصيغة من المتكلم إلى المخاطب: "انظر تجد"، فأصبحت الصيغة أقرب إلى المثل السائر -كما قال علي حرب في نقده لهذه الترجمة- منها إلى المقولة الفلسفية. فصيغة الكوجيتو، التي هي الركيزة الأم لكل الفلسفة الحديثة،بل لكل الفكر الحديث هي إقرار بمركزية وفاعلية الذات الإنسانية. لذلك لا يجوز بتاتا، مهما كانت التأويلات والمبررات، التخلي، بأية حال، عن صيغة المتكلم. وما إجماع كل الفلاسفة الحديثين ابتداء من كنط إلى هيجل وهوسرل وهيدجر على اعتبار الكوجيتو الأساس الصلب للفلسفة الحديثة كلها إلا لسبب تأسيسه، في صيغته التعبيرية نفسها للدور المركزي للفاعل الإنساني في التفكير أولا ثم فيما عداه. وكل خروج عن هذه الصيغة تشويه للمقولة الفلسفية المتضمنة فيه.
وإذا كنت أساند مطلقا دعوة الأستاذ طه إلى الخروج بالترجمة من دائرة النقل الميكانيكي للمفاهيم والمقولات والأفكار والنصوص، إلى دائرة الترجمة التحويلية التأصيلية، فإني لا أساند مطلقا إطلاق العنان للتحويل والتأويل في الترجمة لننتهي إلى مفاهيم ومقولات بعيدة عن مدلولها الأصلي. وهذا يتطلب مراجعة مقولة المجال التداولي الذي جعل منه الأستاذ طه مصفاة للأفكار وسلطة مرجعية معيارية ما بعدها من سلطة، بل يتطلب كذلك تحيين هذا المجال وفق تطور المعارف حتى لا يتحول إلى معيار جامد وثابت وبعيد كل البعد عن التطور. فالمجال التداولي ليس "فلسفة خالدة" أو مقولة ذهنية، بل هو إطار معرفي وقالب ثقافي يتعين أن يكون مرنا ومتطورا حسب العصور. فهو في العصور الوسطى غيره في العصور الحديثة وإلا أصبح سياجا دوغمائيا.
وفي الأخير، إذا كانت ضرورة الحوار والمناظرة، وهي المبادئ والقيم التي نذر الأستاذ طه نفسه للكتابة والدفاع عنها، تفرض على أن أصرح باختلافي معه في العديد من المنطلقات والتوجهات والنتائج، فإن أخلاق المناظرة تفرض على أن أعترف بإيجابيات هذا العمل، وهي بالتأكيد إيجابيات لا تعد ولا تحصى. أولها أن الكتاب يكيل للفلسفة مدائح وتقريظات لا حد لها، تقريظات تدل على أن ناظمها، رغم احتكاكه الطويل بالنفس الوضعي المباطن لمدارس التحليل اللغوي وفلسفة اللغة، لم ينقص يوما من قيمة الفلسفة أو يبخسها حقها، بل تراه يوجه إليها خطاب العاشق ويرفعها إلى أعلى المرتب. فهي عنده "كبيرة كبر الحياة، وغنية غنى الإنسان" (ص:36). أما فقه الفلسفة "فقد اجتمع له من الشرف ما يجعله يعلو على رتبة الفلسفة. ويكون [...] شرف العلوم العقلية قاطبة" (ص:31).
والكتاب على وجه العموم عمل كثيف وضخم طافح بالنظريات والتحليلات المصبوبة في قوالب لغوية تحكمها علاقات منطقية صارمة مما يجعله ككل كتابات الأستاذ طه عملا ذا بنية معمارية صلبة ومتراصة. ولاشك أن قراءته تتطلب من القارئ، مثلما تطلبت كتابته من الكاتب، عناء كبيرا. وهو بالتأكيد نقلة نوعية في كتابات الأستاذ طه ولبنة في صرح منظومته الفكرية، لكنه يشكل ابتداء من الآن إحدى مداميك الإسهام المغربي في الفلسفة العربية المعاصرة.
هذا بالإضافة إلى استحالة القيام بمثل هذه العملية اليوم في ظل تطور المعارف العصرية، وتداخلها، وحلولها في لغتنا وتفكيرنا. والأستاذ طه، حتى ولو وجد نفسه منساقا إلى توظيف معارفه الحديثة في الفلسفة واللسانيات والمنطق، وهي المعارف التي صرم من أجل اكتسابها قسطا من عمره وجهده، فإنه على الأقل انتقى منها، بوعي أو بغير وعي، ما يخدم ابستمولوجياه الذاتية نفسها. فالكشف عن هذه الابستمولوجيا الذاتية نفسها لا يتم، على الأقل في مرحلة أولى، إلا من خلال استعارة إن لم يكن نظريات ومنظومات فكرية برانية، فعلى الأقل من خلال استعارة مفاهيم وأدوات إجرائية لا تخلو من حمولة فلسفية برانية بهذا القدر أو ذاك حتى وإن لم يورد في كتاب تجديد المنهج في تقويم التراث أي مرجع أجنبي غير عربي.
فكتابه طافح بالكثير من المفاهيم المرتبطة بهذا القدر أوذاك بالفكر الغربي مثل المنهج، والفكرانية (بديلا لمصطلح الإيديولوجيا المتداول كونيا)، والعقلانية، والمجال التداولي، والتقريب والتداخل والتكامل والاستشكال... إلخ وهي مفاهيم تنتمي إلى حقل الفكر اغربي المعاصر، هذا ناهيك عن المفاهيم المستقاة من التراث القديم اليوناني.
2 – على مستوى التأليف والكتابة الفلسفيين:
يدعو الأستاذ طه باستمرار إلى تحرير الكتابة الفلسفية العربية من التبعية المعجمية والأسلوبية والنحوية والدلالية للغة الآخر، وبالتالي إلى إبداع كتابة فلسفية أصيلة ومتحررة من قوالب اللغات الأخرى.
فتحرير القول الفلسفي العربي من الهيمنة المعجمية والأسلوبية والدلالية والموضوعاتية للغة الآخر هي الجانب السلبي في هذا المسار العسير. إذ تتلو ذلك مهمة أخرى هي التأصيل، وهنا يبدأ الإبداع.
والأستاذ طه يكاد يطابق هنا بين التأصيل والإبداع، بل إن التأصيل هو الإبداع، إن لم يكن فقط علامات من علاماته، والإبداع هو التأصيل حصرا: التأصيل في الكتابة والتأصيل في التأليف أي في القضايا.
إن هذه الأصولية الفلسفية التي يدعو إليها الأستاذ طه دعوة محمودة ومغرية، ولاشك أن الكل يصبو إليها لأنها تندرج في سياق الدعوة إلى الاستقلال الحضاري عن الآخر، والذي يندرج ضمن مطالب الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي، والاستقلال الثقافي وهي مطالب مرغوبة بالتأكيد، لكن ما هي حدودها، وإمكاناتها، وإيجابياتها وسلبياتها؟ بصدد هذه المسألة أسجل بعض الملاحظات.
- يستعمل الأستاذ طه على نطاق واسع مفهوم المنقول الفلسفي. وهذا المفهوم مشحون، كيفما كان القصد من استعماله، بشحنة قدحية خافتة، بينما يتسم مقابله: المأصول، بسمة مدحية-لافتة. وحتى إذا سلمنا بهذا التمييز فما هي معايير تحديد المنقول، ومعايير تحديد المأصول وأين الحدود بينهما؟ أليس المنقول في النهاية هو الفكر الفلسفي كله، والمأصول هو الفكر الديني كله؟
ولنعد إلى المنقول لنقول بأن النقل ذاته ليس كله "حشفا وسوء كيلة" بل هو العتبة الأولى في استيعاب الفكر الفلسفي وتمثله، فالنقل يتطلب قدرا من الفهم والتأويل، وقدرا ما التصرف لتحويل المعاني من لسان إلى لسان. ولعلنا في الثقافة العربية لا نزال أحوج ما نكون لهذا النقل، فالشرط الأولي لإمكان قيام إبداع فلسفي عربي هو أن ننقل أولا لغتنا الأفكار والقضايا والمفاهيم الفلسفية من الفلسفات المتقدمة علينا فنحن لا نستطيع أن نبدع إن لم نحقق أولا الاستيعاب الجيد عن طريق النقل، لأن الإبداع الفلسفي ليس إبداعا من عدم، بل إبداع انطلاقا من مادة فلسفية متوفرة يتعين علينا مواكبتها أولا.
كما أن الإبداع لا يتوقف على مجرد الإرادة أو الرغبة الذاتية في تحقيقه، بل هو رهين بشروط أقلها أن تكون لغتنا وثقافتنا قد استوعبتا ونقلتا وحولتا إليهما القضايا والمعاني الفلسفية. إن التفكير الفلسفي عناء عقلي وجهد ذهني وفكر تجريدي من مستوى رفيع مادته الأولية هي الإسهامات الفكرية التي قدمها من سبقونا في التفكير.
وهذه ليست حالتنا نحن وحدنا في الثقافة العربية، بل إن كل الثقافات المسبوقة تجد نفسها اليوم مضطرة إلى النقل لمواكبة ما جد من المعاني والاجتهادات في الساحة الفلسفية. فالفلسفة الفرنسية مثلا تلهث وراء الفلسفتين الألمانية والأنجلوساكسونية بغية إدراك المستوى الفلسفي لجاراتها لدرجة أن مؤرخي الفكر الفرنسي يتحدثون عن تبعية الفلسفة الفرنسية تجاه الفلسفة الألمانية مميزين تيارات كالماركسية الفرنسية والهيجيلية الفرنسية والنيتشية الفرنسية والهيدجيرية الفرنسية والفينومينولوجيا الفرنسية وهكذا.
بل إن مثل هذه المتابعة ليست بالأمر اليسير والسهر لأنها لا تتوقف فقط على حسن النية والطوية، فالفيلسوف الواحد في فرنسا يصرم عمرا كاملا في محاولة فهم ونقل أفكار فيلسوف ألماني واحد كما حصل لكل من كوجينف وهيبوليت مع هيجل، أو لألتوسير مع ماركس أو لميرلوبوتي مع هوسرل أو للمتأخرين منهم مع هيدجر ونيتشه.
ولعل مقولتي المأصول والمنقول المقابل بينهما هنا لا تفيان بمقتضيات وخصوصيات الوضع الفلسفي. فالفلسفة على الرغم من نشأتها القومية الخصوصية، وتفريخها في أماكن حضارية دون غيرها، هي أكثر المعارف والأنشطة الفكرية ارتباطا بالبعد الكوني. فرغم حديثنا عن الفلسفة الصينية، والفلسفة الأمريكية والفلسفة الفرنسية أو العربية أو الإنجليزية، فإنه باستثناء لوينات خاصة فإن الفلسفة نشاط عقلي ذو بعد كوني. تشهد على ذلك قضايا ومصطلحات كالعقل والوجود والماهية والمقولات، والسلب، والعقلانية وغيرها.
3 – على مستوى الترجمة: يعيب الأستاذ طه على الفلسفة تبعيتها للترجمة، مجاهدا من أجل تخليصها من هذه التبعية العمياء، وحتى إذا ما كانت الترجمة ضرورية فإنه يجب أن نميز فيها بين عدة درجات، أولها الترجمة التحصيلية التي هي ترجمة حرفية لكل ما تضمنه النص المترجم، لفظا ومعنى، مع التمسك بتمام الصورة التعبيرية. وهذا الضرب من الترجمة يقع في آفة التطويل مما يبعد المتلقي عن الفهم. أما النوع الثاني من الترجمة فهو الترجمة التوصيلية، وهذه لا يحصل فيها الاستقلال عن محاكاة المضمون الأصلي مما يوقعها في تهويل المعرفة بالقدر الذي يوعر على المتلقي طريق الإنتاج الفلسفي (ص:510). وأخيرا الترجمة التأصيلية وهذه لا تنقل من النص الأصلي إلا ما يناسب الأصول التداولية التي يأخذ بها المتلقي. فهي إلى حد ما ترجمة انتقائية للنص.
افترض أن هناك قدرا من عدم التمييز بين الترجمة والتعريب الحر للنص. فالترجمة العلمية، من حيث دقتها وأمانتها هي أقرب ما تكون إلى الصنف الأول أي إلى الترجمة التحصيلية. أما النوع الأخير فهو تحرر كامل من النص وإبداع خارجه، إنه ليس ترجمة بالمعنى الدقيق. لذلك أعتقد أننا في هذه المرحلة من تاريخ الفكر العربي لا نزال بحاجة إلى نوع من الترجمة أقرب ما يكون إلى النوع التحصيلي، أي إلى ترجمة علمية أمينة يتولى فيها المترجمون، بأمانة ودقة، نقل النصوص الفلسفية العربية إلى لغة الضاد حتى تتوفر المكتبة العربية أولا والثقافة العربية ثانيا، على النصوص الفلسفية الأساسية في الفكر العالمي. إذ بدون هذه الخطوة الأولى لا قيام لإبداع فلسفي عربي ولا حتى لمجرد فلسفة عربية. إذ يجب أولا أن تمتلك هذه النصوص حق المواطنة في لغتنا فتصبح جزءا من ثقافتنا ولغتنا. فغياب المؤلفات الكاملة لكبار الفلاسفة والمفكرين من لغتنا يشكل ثغرة ونقصا لا يسد في ثقافتنا العربية. وقد أشار الأستاذ العروي أخيرا في محاضرة حول إشكالية الترجمة في الفكر العربي المعاصر إلى أن أحد الأسباب الأساسية لفشل الفكر العربي في الانخراط في الحداثة غياب التراث الفكري الأساسي للبشرية من اللغة العربية. بل إن هذا الغياب يجعل الثقافة العربية -على الرغم من حداثة المثقفين ومن امتلاكهم لناصية العديد من اللغات- ثقافة منجذبة وجاذبة إلى الوراء، بل مكيفة للمعاني الحديثة. وهذا ما يفسر في نظره التأثير السحري الذي يمارسه الفكر التقليدي واللغة التقليدية على النفوس والأذهان.
أما فيما يخص الترجمة التأصيلية التي قدمها الأستاذ طه للكوجمتو فاري أنها قد حورت صيغته الأصلية تحويرا كاملا انتهى بها إلى تقديم صيغة مختلفة كليا، معنى ومبنى، عن الكوجيتو الديكارتي. فما هو أساسي في صيغة الكوجيتو هو صيغة المتكلم المنصوص عليها بالضمير المنفصل أنا الذي تم حذفه وتحويل الصيغة من المتكلم إلى المخاطب: "انظر تجد"، فأصبحت الصيغة أقرب إلى المثل السائر -كما قال علي حرب في نقده لهذه الترجمة- منها إلى المقولة الفلسفية. فصيغة الكوجيتو، التي هي الركيزة الأم لكل الفلسفة الحديثة،بل لكل الفكر الحديث هي إقرار بمركزية وفاعلية الذات الإنسانية. لذلك لا يجوز بتاتا، مهما كانت التأويلات والمبررات، التخلي، بأية حال، عن صيغة المتكلم. وما إجماع كل الفلاسفة الحديثين ابتداء من كنط إلى هيجل وهوسرل وهيدجر على اعتبار الكوجيتو الأساس الصلب للفلسفة الحديثة كلها إلا لسبب تأسيسه، في صيغته التعبيرية نفسها للدور المركزي للفاعل الإنساني في التفكير أولا ثم فيما عداه. وكل خروج عن هذه الصيغة تشويه للمقولة الفلسفية المتضمنة فيه.
وإذا كنت أساند مطلقا دعوة الأستاذ طه إلى الخروج بالترجمة من دائرة النقل الميكانيكي للمفاهيم والمقولات والأفكار والنصوص، إلى دائرة الترجمة التحويلية التأصيلية، فإني لا أساند مطلقا إطلاق العنان للتحويل والتأويل في الترجمة لننتهي إلى مفاهيم ومقولات بعيدة عن مدلولها الأصلي. وهذا يتطلب مراجعة مقولة المجال التداولي الذي جعل منه الأستاذ طه مصفاة للأفكار وسلطة مرجعية معيارية ما بعدها من سلطة، بل يتطلب كذلك تحيين هذا المجال وفق تطور المعارف حتى لا يتحول إلى معيار جامد وثابت وبعيد كل البعد عن التطور. فالمجال التداولي ليس "فلسفة خالدة" أو مقولة ذهنية، بل هو إطار معرفي وقالب ثقافي يتعين أن يكون مرنا ومتطورا حسب العصور. فهو في العصور الوسطى غيره في العصور الحديثة وإلا أصبح سياجا دوغمائيا.
وفي الأخير، إذا كانت ضرورة الحوار والمناظرة، وهي المبادئ والقيم التي نذر الأستاذ طه نفسه للكتابة والدفاع عنها، تفرض على أن أصرح باختلافي معه في العديد من المنطلقات والتوجهات والنتائج، فإن أخلاق المناظرة تفرض على أن أعترف بإيجابيات هذا العمل، وهي بالتأكيد إيجابيات لا تعد ولا تحصى. أولها أن الكتاب يكيل للفلسفة مدائح وتقريظات لا حد لها، تقريظات تدل على أن ناظمها، رغم احتكاكه الطويل بالنفس الوضعي المباطن لمدارس التحليل اللغوي وفلسفة اللغة، لم ينقص يوما من قيمة الفلسفة أو يبخسها حقها، بل تراه يوجه إليها خطاب العاشق ويرفعها إلى أعلى المرتب. فهي عنده "كبيرة كبر الحياة، وغنية غنى الإنسان" (ص:36). أما فقه الفلسفة "فقد اجتمع له من الشرف ما يجعله يعلو على رتبة الفلسفة. ويكون [...] شرف العلوم العقلية قاطبة" (ص:31).
والكتاب على وجه العموم عمل كثيف وضخم طافح بالنظريات والتحليلات المصبوبة في قوالب لغوية تحكمها علاقات منطقية صارمة مما يجعله ككل كتابات الأستاذ طه عملا ذا بنية معمارية صلبة ومتراصة. ولاشك أن قراءته تتطلب من القارئ، مثلما تطلبت كتابته من الكاتب، عناء كبيرا. وهو بالتأكيد نقلة نوعية في كتابات الأستاذ طه ولبنة في صرح منظومته الفكرية، لكنه يشكل ابتداء من الآن إحدى مداميك الإسهام المغربي في الفلسفة العربية المعاصرة.