الجابري في مشروعه النهضوي - سليمان عبدالمنعم*

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

jabri2.jpgإنه محمد عابد الجابري فيلسوف العرب الذي غادرنا عن خمسة وسبعين عاماً، وأربعين كتاباً، ومئات من الأسئلة المتعمقة المقلقة حول التراث والحداثة والعصبية والدولة والتعليم وحقوق الإنسان، وقضية مركزية أخلص لها وأفنى عمره في الانشغال بها هي قضية النهوض العربي. لطالما جسّد الجابري قيمة فكرية والتزاماً سياسياً تتضاءل إلى جوارهما أية ألقاب أو درجات علمية حصل عليها. وفى زمن عربي تعطى فيه الدرجات العلمية الرفيعة أحياناً لأسباب ليس من بينها بالضرورة الجدارة العلمية يدرك المرء كم هو مجحف أن تتساوى «دكتوراه» عابد الجابري مع غيرها من درجات الدكتوراه الأخرى! كان لقائي الأول والأخير مع الراحل الكبير في منزله الهادئ في الدار البيضاء. احتفى بي بكرم عربي أصيل. كدت أسمع في منزله صوت السكوت في هذا المساء المغربي الشارد بينما صدى صوته يتردد من حولي. ما زلت أذكر جيداً كلمته وهو يحكي عن عزلته التي صنعها لنفسه في السنوات الأخيرة.
(1)
لا ينتهي الكلام عن مؤلفات «الأستاذ» محمد عابد الجابري تأييداً أو نقداً. إنها سمة المفكرين المجددين الذين لا يتوقفون عن إثارة الجدل والتأمل ويظلون قادرين دائماً على رؤية الأشياء ذاتها ولكن من زاوية أخرى لم تخطر لنا على بال. كتب كثيرون وسيكتبون عن مؤلفات الجابري والقضايا التي أثارها والأفكار التي طرحها. لكن تبقى ملامح شخصية المفكر الراحل جديرة بتسليط الضوء عليها.

لعل أبرز ما ميّز مسيرة الراحل الكبير أنه كان صاحب مشروع فكري تعهّده بالعمل والدأب والمثابرة قبل أن يكون مجرد مؤلف كتب أو كاتب مقالات. وهو ما نفتقده كثيراً في عالمنا العربي حيث تبدو الكتابة ولو كانت من مستوى رفيع محكومة باعتبارات المصادفة والانطباعية فنكتب في كل شيء وأي شيء. لدينا كتّاب عرب تجاوزت أعمالهم المائة والخمسين كتاباً من المؤلفات المسلّية الشيّقة لكن هذا العدد الهائل من الكتب لم يجعل منهم بالضرورة أصحاب مشاريع فكرية. وها نحن في العالم العربي مئات وربما آلاف من كتّاب المقالات نعلّق على الأحداث ونتناول شتى القضايا لكن قليلين جداً منا من وهبوا أنفسهم لمشروع فكري تفرغوا له. على العكس من ذلك تماماً كان محمد عابد الجابري واضح الرؤية محدد الهدف لم يبعثر وقته أو يشتت جهده بل عكف على مدى أربعين عاماً يحاول تأسيس مشروع استنهاض عربي. كان باكورة كتبه «العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي» ثم كان مؤلفه الأكبر والأشهر في «نقد العقل العربي» في أربعة أجزاء والذي أثار حالة من الجدل لم نشهد مثلها منذ وقت طويل. ربما منذ أيام طه حسين في مصر.

كان الملحوظ في المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري أنه تصدى بعمق الانتماء وشجاعة المفكر لمراجعة التراث الإسلامي حجر الزاوية في كل قراءة تاريخية للعقل العربي بقدر ما تسلّح في الوقت ذاته بالأسس المعرفية والأدوات المنهجية في الفكر الغربي. هكذا أخذ ينقّب في التراث لكنه يكتب أيضاً في «المنهاج التجريبي وتطور الفكر العربي» وفي «الرياضيات والعقلانية المعاصرة» وهما جزآن لكتابه الهام «مدخل إلى الفلسفة». انشغل بالرياضيات مثلما يفعل معظم الفلاسفة الانكليز حيث سمة الجمع بين علم الرياضيات والفلسفة تبدو سمة غالبة. ويقال أن شغفه بعلم الرياضيات كان كبيراً وكان على وشك أن يختاره تخصصاً علمياً في رحلته الدراسية إلى دمشق لولا أنه اكتشف أن الأرقام تكتب في سورية مثل سائر دول المشرق العربي بالطريقة الهندية السائدة حتى اليوم وليس بالشكل العربي الذي ينعت خطأ بالأرقام اللاتينية.
بدا عابد الجابري طوال مسيرته الفكرية الحافلة حائراً قلقاً وكأنه ينظر بعين إلى التراث وبالعين الأخرى إلى منهج الحداثة الغربي. وفى هذا اختلف حوله كثيرون حتى اعتبره البعض لا سيّما في الآونة الأخيرة في حالة تراجع فكري عن مشروعه الأصيل في نقد العقل العربي الذي لم يخرج في جوهره عن نقد التراث وإن أعطى له هذا الاسم الجذّاب. أخذ عليه البعض أنه بدا في سنواته الأخيرة أقرب إلى الرؤى الدينية حينما بدأ يكتب عن القرآن فوضع تفسيراً أطلق عليه «التفسير الواضح» وكان تفسيراً مثيراً للجدل اعتمد نهجاً تأويلياً يقوم على أساس ترتيب النزول. وبصرف النظر عن النقد الذي وجهه كثيرون «للتفسير الواضح» الذي وضعه عابد الجابري والذي اعتبره د. رضوان السيد ليس واضحاً على الإطلاق! فالملاحظ أن الجابري قد فعل مثل الراحل الكبير زكي نجيب محفوظ الذي أبدى في سنواته الأخيرة بدوره انشغالاً ملحوظاً بالتراث بحيث بدا قريباً من بعض الرؤى الدينية. لعلّها حيرة أصحاب المشاريع الفكرية الكبرى الذين لا يكفون عن القلق والتأمل والمراجعة فيعلو بهم ضميرهم الفكري عن التقوقع داخل رؤية أو التعصب لرأي. يطاردون الحقيقة وينصتون لندائها من أي أفق حسبوا أنه يتردد.
(2)
كان الملمح الثاني الأبرز في شخصية الراحل الكبير محمد عابد الجابري هو التزامه السياسي وموقفه النضالي من قضايا مجتمعه وأمته. لم يكن الفكر لديه ترفاً نظرياً أو حذلقة يمارسها في المؤتمرات والندوات بل كان الفكر لدى عابد الجابري التزاماً وموقفاً فأخذته قناعاته إلى الانضمام إلى حزب الاتحاد الاشتراكي وظل عضواً في لجنته المركزية. لا نعرف عن عابد الجابري أنه تعرض للاعتقال أو الملاحقة الأمنية مثلما تعرض مفكرون ومبدعون ومثقفون كثر في بلدان المشرق العربي، لكن يحسب للرجل أنه أخلص لقضايا أمته من المنظور الذي اختاره وكرّس حياته كلها لهذه القضايا من دون أن يغازل السياسة بمناصبها البرّاقة أو تغويه البيروقراطية بمغانمها وامتيازاتها الكثيرة.
لم ينشغل عابد الجابري فقط بنقد العقل العربي بل اهتم أيضاً بقضايا الواقع العربي وعلى رأسها التعليم وحقوق الإنسان فكتب «أضواء على مشاكل التعليم»، وكتب أيضاً «من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية». يتوقف الراحل الكبير عند المقولة الشائعة التي تطالب بدمج التعليم في المجتمع وبالتحديد في سوق العمل لمكافحة ظاهرة البطالة، وهى المقولة التي يرددها كثيرون في الآونة الأخيرة. لكن عابد الجابري الذي اعتاد على إعادة النظر في المفاهيم والطروحات يقول أن المطالبة بـ «دمج التعليم في المجتمع» تستدعى مطلباً موازياً آخر هو «دمج المجتمع في التعليم» لأن ما يتصف به التعليم العربي من تخلف وقصور إنما يعكس ما في المجتمع العربي نفسه من تخلف. ومن هنا - يؤكد عابد الجابري - فإن المطلوب من التعليم في هذه الحال ليس أن يندمج في المجتمع بل أن يعمل على تغيير المجتمع. ويبدي عابد الجابري دهشته متسائلاً لا أفهم كيف يمكن في بلد متخلف تحقيق تنمية من دون نوع ما من التخطيط. فالتنمية الهادفة إلى الخروج من التخلف لا تتحقق بمجرد التبعية لسوق العمل بل لا بد من إخضاع سوق العمل نفسها لمتطلبات التخطيط للتنمية، ثم يعطي المفكر الراحل مثالاً بالغ الأهمية على ضرورة دمج المجتمع في التعليم إذ يرى أن العالم العربي اليوم يحكمه نوعان من الاختراق: الأيديولوجيات الدينية المتطرفة والاختراق الإعلامي العولمي. وأمام هذه الوضعية يتساءل: هل يبقى من معنى لمقولة إدماج التعليم في المجتمع غير إعادة إنتاج ما هو موجود وبشكل أسوأ؟!
وعلى صعيد حقوق الإنسان إحدى إشكاليات العرب المزمنة يحاول عابد الجابري كدأبه دائماً التنقيب عن أصول حقوق الإنسان في التراث معتبراً أن النص القرآني «وكرّمنا بنى آدم» هو مرجعية الأساس في التصور الإسلامي لحقوق الإنسان ليصل بذلك إلى تأكيد عالمية حقوق الإنسان وأنها ليست حكراً على التصور الغربي وحده. ولكي يصل الجابري إلى هذه الخلاصة تعيّن عليه أن يؤصل للعديد من المفاهيم فيرى أن مفهوم الطبيعة ومفهوم العقل في التصور الغربي لا يختلفان في الجوهر عن مفهوم «الفطرة» في التصور الإسلامي، مثلما أن مفهوم العقد الاجتماعي الذي طرحه جان جاك روسو يقابله المفهوم الإسلامي للشورى.
(3)
ملمح ثالث لعقل الجابري هو تفرده في ملكة التوصيف اللغوي لما يكتشفه من أفكار... ما أدهشه وأفصحه وهو يكتب عن ثلاثية القبيلة والعقيدة والغنيمة في التاريخ العربي! وأيضاً ثلاثية العقل البياني والعرفاني والبرهاني في التراث الإسلامي. ربما نتفق أو نختلف مع محمد عابد الجابري في رؤاه لكن المؤكد أن التاريخ العربي سيذكره طويلاً كواحد من المفكرين المجيدين والمجددين. حسبه أن وهب حياته كلها للبحث والفكر لم ينشد فيهما غير الحقيقة ولم يسع لاسترضاء سواها... هذه الحقيقة التي أجهدتنا وأجهدناها في زمن الالتباس والانكسار... هذا الزمن العربي نفسه الذي عاشه عابد الجابري بقلق المفكر وسكينة الراهب... نم قرير العين أيها العابد حتى تهب لنا بلاد المغرب وبلاد العرب كلها عابد جديد...
(4)
يقول الشاعر الراحل أمل دنقل:
«حين كنا في ضمير الليل روحاً مجهدة
طرق الباب ونادى في حياء
فاستدرنا في فراش النوم
أحكمنا الغطاء
وتركناه لهبات الرياح الباردة...».
* الامين العام لمؤسسة الفكر العربي

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟