جدل الخطاب المادي/الثقافي في مدرسة بغداد الفلسفية : دراسة ابستمولوجية في منهجية الفيلسوف الراحل حسام الآلوسي* (القسم الاول) ـ حيدر علي سلامة**

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

haydaralisalamaتمثل عملية الكتابة عن أستاذنا الكبير الراحل الدكتور حسام الآلوسي، مغامرة كبيرة في حد ذاتها، أن لم تكن مجازفة فلسفية. ربما يعود ذلك إلى طبيعة التحولات الحاصلة في فلسفته عامة، وخطابه المادي التاريخي خاصة. فعلى مدار تاريخه الفلسفي والمهني والجامعي، لم يحدث وان فصل أ. الآلوسي بين انشغالاته الثقافية الموزعة بين متابعة ونقد المشاريع الموسوعية الكبرى في الفكر العربي سواء كانت في اتجاهاتها الماركسية او في تمثلاتها الفلسفية الأخرى، وبين عمله كأستاذ للفلسفة ومناهجها، التي طالما عمل على الأرتقاء بها وإعادة تأسيسها بما ينسجم والتعليم الفلسفي النقدي الذي يضمن اكبر مساحة ممكنة من الإبداع الفلسفي الحر لمتلقي الدرس الفلسفي. ولهذا، تميزت عملية تدريس النص الفلسفي عند استاذنا الآلوسي، بالانفتاح الأنساني والأخلاقي والأبداعي، بطريقة قلما شهدنا لها مثيلا في تاريخ خطابنا الفلسفي.
لهذا، ينبغي علينا، كباحثين مختصين في الخطاب الفلسفي وإشكالاته الثقافية/والتاريخية، أن لا نتوقف عند "منطق النحيب وفلسفة التأبين" لفيلسوفنا الراحل، واستذكار تاريخ علاقاته المهنية مع تلاميذه ومحبيه ومريديه فحسب. لان الآلوسي كان ولا يزال، اسمى واكبر من جميع تلك "التكاليف الشكلية"، التي اُسقِطت عنه، انطلاقا من مبدأ "أن تكريم فلاسفتنا لا يكمن في منطق الذكر الملهوت"، وانما يقع ضمن منطق نقد منجزهم الفلسفي الكبير والمتشعب وإعادة قراءته وتأويله من جديد. فهذا ما سيمنحهم اكسير البقاء والأستمرار في العطاء الفلسفي حتى بعد رحيلهم عنا.

من هنا، يمكننا القول أن استاذنا الراحل تعرض إلى صورتين من التأبين: الأولى حينما كان على قيد الحياة، أي عندما تناول اغلب ألمشتغلين في حقل الدراسات الفلسفية معظم منجزه الفلسفي عامة، والماركسي خاصة، بالدرس والعرض والتحليل، بطريقة بدت اقرب إلى "العرض التقليدي والتذييل الأكاديمي" منه إلى "النقد والتحليل الثقافي والأبستمولوجي". هذه الصورة، التي اصطلحنا عليها بـ"التأبين الميتافوري"، تحمل في طياتها اكثر من تقنية وممارسة في قتل كثير من الأفكار الفلسفية والتاريخية للأستاذ الآلوسي، وذلك لعدم قدرة شُراحها على إعادة فتح باب الأجتهاد والتأويل لكثير من مقولات ومفاهيم الخطاب الماركسي، التي مر عليها الجميع مرور الكرام، وكأنها مفاهيم منعزلة ومنفصلة عن بنية العلوم الأنسانية، والتي لم تشهد هي الأخرى أي تواصل معرفي وثقافي بينها وبين الخطاب الماركسي عامة والفلسفي خاصة. والتأبين الاخير لأستاذنا الآلوسي، هو "التأبين الحرفي/الحقيقي"، المتمثل في رثاء الراحل، جسدا وفلسفة ومنهجا.   
 -في نقد المنشور الفلسفي الأكاديمي حول فلسفة الآلوسي ومنهجه الماركسي (جدل الأيديولوجي والماركسي)

من خلال مطالعتنا لما كُتب ونُشر حول المنهج الفلسفي/الماركسي للألوسي، لاحظنا أن ذلك المنشور لم ينجح في التحرر من سيطرة النزعة الموضوعانية (objectivism) التقليدية المسيطِرة على بنية عرض وشرح وتبويب فلسفة ومنهجية الآلوسي. فعلى سبيل المثال لا الحصر: في دراسته المعنونة (أصالة الآلوسي الفلسفية في كتاب (الفلسفة والأنسان) دراسة تحليلية نقدية لمجمل الموقف الفلسفي فيه)، قدم أ. د. علي حسين الجابري بيوغرافيا فلسفية، تضمنت على اهم أعمال الآلوسي ومنجزه الفلسفي، إلى جانب استعراض ابرز مراحل تطور عمله الفكري والفلسفي والجامعي. ثم عرج أ. الجابري على بيان وتوضيح بنية المنهج الفلسفي عند الآلوسي، الذي عده أ. الجابري مجموعة مركبة ومتداخلة من النظريات الغربية، التي امتزجت جميعها في فلسفة الراحل، والتي طالما نظر اليها أ. الجابري بعين الريبة والإتباع للآخر، وبدا ذلك واضحا، عندما وصفها قائلا:((على ما شاب منهج الالوسى من (تقليد) لطروحات الفلاسفة الغربيين لكنه حظى بمكانة خاصة بين زملائه، وعند اساتذته، فجعله أستاذه (ايرون روزنتال) ((معقد امل كبير فى الفلسفة العربية)) واعتبره (المطبعى) بداية ((تأريخ الفلسفة العراقية)) المعاصرة لأنه امتاز بجرأة فى طرح الأفكار ((غير المألوفة)) وإن كان ((يداري حالته الكتابية بلغة صعبة، ويرمز دون أن يفلح، ويدور ويلف)). ولما كانت موسوعة (المطبعى) قد تناولت تفصيلات الآراء المنشورة وغير المنشورة للالوسى، وحادثه ، وعايشه طوال شهور، واستكتبه خطياً، فقد تداخلت أحكام (المطبعى) مع اعترافات الالوسى وتوثيقاته المكتوبة، التى تشهد على ان الالوسى قد نهج على وفق ((المنهج التأريخى الاجتماعى الجدلى)) بعد أن قرأ الكثير من المصادر الفلسفية الغربية حتى استعار من الغربيين فكرة (التقدم) المحكومة بمنطق (الخطأ والصواب) وتراكم الخبرة والعلوم، ((درجة درجة وسلما، سلماً)) وليس منطق (الصراع الطبقى) يتداخل عنده (النسبى والمطلق) فى الوصول الى الحقيقة المعرفية والاخلاقية والجمالية))(1).

انصب اهتمام دراسة أ. الجابري على طبيعة المؤثرات الفلسفية الغربية -خصوصا في شكلها السلبي/الكولونيالي- على كثير من مفاهيم وفلسفة أ. الآلوسي، الأمر الذي جعل من دراسة أ. الجابري متوافقة الى حد ما، مع خلاصة المنهج الفلسفي التكاملي للالوسي، ذلك المنهج الذي يقع في المنزلة بين المنزلتين بالنسبة للجابري، لانه منهج يستند:(( ...على "الإجتماعية والتأريخية والعلمية والوطنية والقومية، والفردانية المعبرة عن خصائص الفكر الفلسفى المعاصر" به نعرف خصائص الفلسفات الغربية وندرك الاستقلال النسبى لتأريخ الفلسفة فللفلسفة طابع نسبى تفصح عنه قوانينها نقيس به أسباب تقدم الفكر على أساس مادى، ثم تراجعه. المنهج التاريخى الجدلى التكاملى – كما يشير الالوسى – هو منهجه الذى عول عليه فى مؤلفاته وكافة بحوثه، وفق فهم خاص لا علاقه له (بالماركسية) فهو يرجع اسباب التطور فى المفاهيم الفلسفية لا إلى الإقتصاد(2) وحده، بل وكذلك إلى الصراع الايديولوجى وتطور اشكال الوعى، كالدين والفن، والتقدم العملى، والتراث وجميع هذه الاشكال، مرتكزات المنهج المعرفى للالوسى))(3). ولنتوقف عند هذه النقطة التي طرحها الجابري، وهي علاقة الأيديولوجيا مع المنهج التكاملي من جهة ومع الماركسية من جهة أخرى، ثم نحاول ان نبحث فيما اذا كان قد وُفِق في إعادة اللحمة الابستمولوجية المسكوت عنها بين كل من: الأيديولوجيا والماركسية من جهة، والفلسفة وخطاب العلوم الأنسانية من جهة اخرى.

لقد طرح الجابري اشكالية مهمة في خطاب الماركسية والعلوم الأنسانية، وهي اشكالية الأيديولوجيا وعلاقتها بتطور الوعي واشكاله الأخرى كالدين والفن والتقدم العلمي. لكن علينا ان نتساءل، هل كانت علاقة الوعي/والأيديولوجيا على هذا النحو في أدبيات الخطاب الماركسي التقليدي عامة وعند الآلوسي خاصة؟ وهل تم اختصارها واختزالها ضمن تطور اشكال العلوم والتراث والدين وما شابه؟ ألا يوجد هناك نوع من الخلط المتضمن في نص الجابري حول بيان وتحليل تلك العلاقة الشائكة، سيما وهو قد طرحها ضمن نسق العلوم، وليس ضمن نسق حياة المجتمع وبنية تشكلات الحياة اليومية؟ ولماذا لم يعمل الجابري على تأسيس أي مقاربة ابستمولوجية/نقدية/تحليلية بين مفهوم الايديولوجيا والنظام الأخلاقي والديني والقانوني والثقافي السائد؟ واذا كان المنهج التكاملي التاريخي/الجدلي قد حاول ان يتجاوز منطق التجزئة في تفسير التاريخ والوقائع الأنسانية وحركة المجتمع، فهل يمكننا ان نتخيل وجود مثل هكذا منهج، دون الأخذ بالاعتبار حضور مفهوم الأيديولوجيا في مجمل بنية نسقه المفاهيمي؟ فلماذا لم يتناول الجابري مفهوم الأيديولوجيا بشكل ابستمولوجي/وثقافي/ونقدي واضح؟ ولماذا تجاوز على علاقة ذلك بمفهوم الإدراك الذهني للعالم (cognition)؛ اللغوي/اللساني (linguistics) والنظام السيميو-ايديولوجي (semiotics) للإنسان الذي تشكله صيرورة التحولات الأجتماعية والتاريخية؟ واذا كان منهج الآلوسي لم يضع ألاولوية للعامل الاقتصادي بوصفه بنية تحتية، وانما للايديولوجيا بوصفها بنية فوقية، فلماذا لم يتم نقد نظرية الانعكاس التي مثلت البرادايم الابستمولوجي المسيطِر على بنية المنهج الماركسي برمتها عند الآلوسي؟ ولماذا لم يتم الفصل بين الحتمية الأقتصادوية في حركة المجتمع والتاريخ، والحتمية الأيديولوجية الفوقية التي تشكل الكل البنيوي القيّمي والأخلاقي في المجتمع؟

 من هنا، يتضح طبيعة القطع الابستمولوجي في دراسة الجابري عن مجمل التطورات الحاصلة لمفهوم الأيديولوجيا في الخطاب الماركسي خاصة، وفي إشكالات العلوم الأنسانية الاخرى كاللسانيات وفلسفة اللغة والانتروبولوجيا والتحلينفسي عامة. بل لم يعمل من خلال دراسته تلك، على مساءلة منهج الآلوسي التكاملي المادي، فيما اذا كان قد وفق في إعادة رصد تطور مفهوم الايديولوجيا ضمن خرائط الماركسية والدراسات الثقافية الجديدة؟ هل لانها دراسة اهتمت بشمولية المعرفة وعقلانية الفلسفة، وكل منهما لابد وان يتحول الى "شعار طوباوي"، ان لم يأخذ بنظر الأعتبار، إعادة اختبار مفهوم الأيديولوجيا في تاريخ خطابنا الفلسفي؟ لكن  دراسة الجابري، بقيت رهينة معالجات طوباوية لطروحات مُتخَيّلة، فوفقا لرأيه: (( لم نجد فى الكتاب معالجات لمشكلات الفكر الفلسفى العربى. والمجتمع العربى، كالتجزئة والاستلاب الفكرى وأزمة المثقف والثقافة وتناقض الحياة، والتكنولوجيا، والتراث، وإزدواجية الولاء، والنزعة الإستهلاكية، والسلطات المرجعية، وأزمة العلاقة بين القومية والدين..والوطنى والقومي))(4). إن ما جاء على تناوله الجابري من مشكلات –بأستثناء أزمة المثقف والثقافة والتي لم يتم تناولها بطريقة تاريخية- كان تناولا اقرب الى الطرح الطوباوي المُستهَلك من حيث التداول الايديولوجي لها، وابعد عن السياقات الثقافية (contexts) والتاريخية. فهل تبدو تلك المشاكل اكثر واقعية وراهنية من اشكالاتنا الثقافية اليومية؟ وهل هي الاكثر التصاقا بخطابنا السياسي الشمولي والأستبدادي؟ وهل يبقى محكوما على خطابنا الفلسفي ان يحيى في تبعية ازلية لتكرار اشكالات فلسفية طوباوية كميتافيزيقا القومية والدين والنزعة الأستهلاكية والتكنولوجيا؟!! وهل وصل خطابنا الفلسفي ومناهجنا التعليمية الى مرحلة الأكتمال الرأسمالي المطلق والتكامل المنهجي الميتافيزيقي، لدرجة اصبحنا نعيش فيها، حالة من "البطر الفلسفي والاسترخاء المعرفي" في معالجة قضايا الاستلاب الفكري والتوفيق بين القومية والدين؟!!

مما تم طرحه اعلاه، حاولنا تسليط الضوء على اشكالية اساسية، تكمن في حالة الغياب التام لمناهج العلوم الأنسانية في تحليل نصوص ومؤلفات اساتذتنا وطروحاتهم الفلسفية. فعلى سبيل المثال، رأينا ان دراسة الجابري، لم تعمل على اعادة "اللحمة المفقودة في تاريخ خطابنا الفلسفي"، ونعني بها جدل الايديولوجيا والفلسفة، وعلاقة ذلك الجدل بالخطابات اللسانية واللغوية والمنطقية الجديدة. ولهذا انشغلت تلك الدراسة، بالأطر الشكلانية  (formalism) الأكاديمية الصِرفة لطروحات الآلوسي، كرصدها لعملية رص النصوص وحشرها بشكل عشوائي، والأعتماد على المرجعية الغربية. في حين ان تلك القضايا تمثل في جوهرها الف باء تعليم الفلسفة وكتابتها. ربما كان من باب اولى على تلك الدراسة، إعادة تأويل كثير من المفاهيم الفلسفية والأبستمولوجية والميتودولودية (المنهجية)، كتلك التي شكلت العماد الرئيس لمجمل طروحات الآلوسي، خاصة وان استاذنا الراحل كان مستندا في طروحاته، على مرجعية "ماركسية ارثوذكسية"، لم تُشِر اليها دراسة الجابري لا من قريب ولا من بعيد، فلم تشتغل على تجديد وتأويل الفلسفة الماركسية بوصفها خطابا، بقدر انشغالها في محاولات التوفيق بين الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي، في الوقت الذي لا تزال تحيى فيه مجتمعاتنا نصف مصائبها وخرائبها، جراء سيطرة تلك الثنائيات الأيديولوجية الزائفة.
فعلينا أن لا نندهش، لغياب مفاهيم مهمة في دراسة الجابري، كمفاهيم الخطاب؛ السلطة؛ المعرفة؛ الثقافة وخطاب الدراسات الثقافية. على الرغم من كونها دراسة تعاملت مع خطاب ماركسي اشتمل على مجمل تلك المفاهيم والمصطلحات الفلسفية. بالطبع، هذا ليس بجديد على خطابنا الفلسفي الذي أدمن على تكرار المفاهيم القوموية والماضوية واسطورة الآصالة والمعاصرة وما شابه. لان السيادة في النهاية، هي المحافظة على الأيقاع الأكاديمي المترهل والرتيب في مناقشة وتحليل القضايا الفلسفية، اما ان يتم إقحام الفلسفة بمعالجات ومناهج جديدة لم يألفها السلف الصالح من قبل، فتلك بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة مهمشة ومسكوت عنها بالضرورة.

ويستمر مسلسل تهميش العلاقة بين الأيديولوجيا والماركسية في خطابنا الفلسفي، ففي دراستها المعنونة (شذرات عن فلسفة حسام محي الدين الآلوسي) للأستاذة افراح لطفي، حاولت استعراض اهم خصائص منهج الآلوسي، من حيث طبيعة التفاعل الجدلي بين البنية والتاريخ ومختلف اشكال الأنتاج. وعلى الرغم من ان الدراسة، جاءت على ذكر العلاقة المتداخلة بين الأيديولوجيا والأنساق الأجتماعية، الا اننا نلاحظ ان مفهوم الأيديولوجيا لم يأخذ حقه الكافي في اجراء مقاربات ابستمولوجية ضرورية واساسية للخطاب الماركسي الغير تقليدي، خاصة وهي دراسة شخصّت نقطة الأنطلاق في فهم فلسفة الآلوسي، التي تتوفر على :((...منهج صحيح لدراسة الفلسفة وهذا المنهج هو المنهج التاريخي الجدلي التكاملي(....)متخذا من البنية والعلاقة الحجر الاساس لدراسة الافكار مجتمعيا ولهذا تركزت خصائص هذا المنهج على دراسة من هذا النوع فتطبيق هذا المنهج يلزم الباحث الذي يدرس الظواهر او الافكار بعدة امور هي خصائصه التي منها ان يتناولها أي الافكار والظواهر في ارتباطاتها وتبعيتها المتبادلة من اجل الكشف عن الجوانب الداخلية المتضادة التي يشكل صراعها فيما بينها مصدر تطورها ومن ثم توضيح ارتباط المذاهب الفلسفية بالعلاقات الاجتماعية السائدة في مرحلة معينة - وقد اعلن د. حسام هنا أن احسن تمييز لهذه المراحل والذي يمثل جوهرها هو نمط اسلوب الانتاج المسيطر - ومن ثم تبيين العلائقية التي تعني موقف الفلسفة من الصراع بين القوى الاجتماعية الرئيسة وعلاقتها بأشكال الوعي المختلفة كالدين والسياسة والعلم والفن والايديولوجيا ..الخ))(5).
الملاحظ على نص الدراسة اعلاه، انها لم تأت بأي جديد يُذكر حول منهج الآلوسي، فمن المعروف لدى الجميع، ان الآلوسي دعا الى مثل تلك الرؤية في معظم كتبه وحواراته(6). إلا ان لغة الدراسة تعاملت مع منهجية الآلوسي، بطريقة اقرب الى "الأرثوذكسية الماركسية"، فلم توضح طبيعة علاقة شكل الأنتاج المسيطر وموقف الفلسفة من الصراع بين القوى الأجتماعية السائدة الرئيسية، وعلاقتها بأشكال الوعي المختلفة كالدين والسياسية والعلم والأيديولوجيا -بحسب قول الباحثة-؟ هذا على الرغم من ان اغلب اشكالات الفلسفة، انما تكمن في بنية هذه العلاقات المتداخلة والمتصارعة فيما بينها. لكن غاب عن دراسة أ. افراح، تحليل بنية تلك العلاقات، ولم تحاول إعادة تقييمها. أليس علينا أن نتساءل هنا، عن السبب في عدم استعمال الباحثة لأي منهج من مناهج فلسفة العلوم، الذي يقع ضمن اختصاصها الأكاديمي الدقيق وهو (الابستمولوجيا ومناهج البحث العلمي)؟ فلماذا اذن، تجاوزت الباحثة نقد المنطق التجريبي (empirical logic) الذي سيطر خطابنا الفلسفي، بل واحكم بقبضته على الفلسفات المادية والماركسية، الامر الذي جعل الباحثة تتجاوز المنطق اليساري (leftist logic)(7)؟ أم هو مقدر على فلسفات العلوم أن تبقى رهينة المحبسين بين تشاؤمية الدرس الفلسفي ولاعقلانية مناهج وطرق إنتاج القول الفلسفي؟ ثم لماذا لم توضح لنا الباحثة، رؤية الآلوسي حول العلاقة الاشكالية بين مفهوم الايديولوجيا واشكال الوعي الأخرى التي جاءت على ذكرها، ام ان الباحثة خضعت لمنطق "الاكتفاء الأكاديمي الذاتي" (objectivism)في العرض التقليدي لمنهجية الآلوسي؟

لهذا، ظلت العلاقة الإشكالية بين كل من: الأيديولوجيا والماركسية والفلسفة واشكال الوعي المختلفة، تعيش حالة من العزلة والتهميش المنهجي المقصود في اكثر الأحيان. وإلا بماذا نفسر عدم تفعيل هذه العلاقة بشكل ابستمولوجي ونقدي، بل ولم يتم إعادة مساءلتها من جديد عند اغلب المشتغلين في منهجية الآلوسي والى يومنا هذا(8)؟ واذا تجنب خطابنا الفلسفي مساءلة هذه العلاقة الثقافية، تُرى من الذي سوف يقوم بمثل هذه المهمة؟ واذا كان المشتغلين في حقل الدراسات الفلسفية عندنا هم أنفسهم من تجاوز على تلك العلاقة، بحجة الشمولية والعقلانية المفترضة والتوفيقية الزائفة، فكيف ستضطلع النُخب الفلسفية الصاعدة، في مواجهة تلك  المهمة؟
فحينما جرى عرض اهم كتاب فلسفي طرح إشكالية العلاقة بين الايديولوجيا والقيم الأخلاقية وهو(التطور والنسبية في الأخلاق)، في الدراسة المعنونة (الأخلاق عند حسام الآلوسي دراسة فلسفية) والمقدمة من قبل أ. محمد فاضل عباس، نلاحظ كيف إنها هي الأخرى، التزمت بالخط الأصولي الاكاديمي/التقليدي في القفز اللاتاريخي على مجمل الاشكالات الابستمولوجية والثقافية، ناهيك عن الاشكالات اللغوية واللسانية. فبدء من المقدمة الطللية والاصطلاحية والقاموسية لمفهوم وتاريخ وفلسفة الأخلاق، والتي لم تتفق والطروحات التطورية/المادية التي طرحها الباحث، انتهاء بأستعراض تاريخ الأخلاق التطورية منذ تاريخ الفلسفة اليونانية مرورا بداروين وسبنسر وانتهاء بالفلسفة الماركسية. لفت نظرنا، خلو الدراسة من أي مصدر أساسي مختص في فلسفة التطور الغربية سواء لهربرت سبنسر وتشارلس داروين وغيرهم. بل على العكس، اعتمدت الدراسة كليا على ما هو مكتوب ومترجم عربيا حول نظريات التطور في الأخلاق والفلسفة. فإذا كانت مثل هكذا دراسات لأساتذة أكاديميين مختصين في تدريس الفلسفة، لا تستند الى مراجع اجنبية أساسية في التأصيل لأفكار الفلاسفة ونظرياتهم المختلفة، فما عسانا ان نترجى من الأجيال الفلسفية القادمة؟

شكلت طبيعة النظرية الأخلاقية التي مثلها الآلوسي- وفقا للدراسة - مزيجا من النظرية التطورية الداروينية والنظرية الماركسية المادية الجدلية والتاريخية، وذلك لإعتقاد :((الألوسي بنسبية الأخلاق وتطورها مستعينا بالمصادر التي تعينه في رؤيته الفلسفية في نسبية الاخلاق وتطورها مؤكدا على اعتماده في كتابه هذا على دراسة اجتماعية تأريخية ليس لأخلاق البشر فقط، بل ولعاداتهم ومراحل تفكيرهم ولأنماط سلوكهم ليقدم لنا نتيجة سابقة لاوانها تتفق في نتيجتها الأولى مع ما توصل اليها التطوريون وفي نتيجتها الثانية مع ما توصل اليه الماركسيون اذ تفيد هاتان النتيجتان : 1. ان الأنسان وسلوكه مرحلة متطورة من الحيوان الراقي وسلوكه. 2. ان الأخلاق مسألة تاريخية اجتماعية وان تجاهل هذين الأمرين احد اكبر العوامل التي اوقعت بعض المدارس الفلسفية الأخلاقية في القول بنظرية الضمير ومطلقية القيم الخلقية))(9).  ولم يفت الدراسة الأشارة الى نسبية القيم وألأخلاق عند الالوسي، الذي :((... يتفق كل الأتفاق مع القائلين بنسبية الأخلاق والنسبية هنا تستلزم القول بالتطور،فالالوسي من اصحاب النسبية والتطور في الأخلاق لا بل انه يذهب ابعد من ذلك عندما يقرر نسبية العقل البشري في قوله: ((ولذلك سنسند هذا (القول بنسبية الضمير)بالعديد من الأمثلة من عادات الشعوب واحكامهم ومؤسساتهم للدلالة على هذا وعلى نسبية العقل البشري نفسه))))(10).
وعندما تناولت الدراسة للمراحل التاريخية من وجهة نظر الماركسية، فقد تناولتها بكامل جاهزيتها الأرثوذكسية والدوغمائية، دون أدنى مساءلة نقدية لها، وكأنها نظام ميتافيزيقي مطلق قابل للتطبيق في كل زمان ومكان، حيث :((...في هذا الكتاب عرض اهم المراحل التي مر بها المجتمع البشري من وجهة نظر الماركسية ابتداء بطور المشاعية البدائية والعبودية فالرق او الأقطاع فالبرجوازية ثم الأشتراكية))(11). كان علينا ان نتساءل هنا، عن أي ماركسية تكلمت لغة الدراسة؟ وهل كانت تشير الى نمط ماركسي واحدي في التاريخ؟ ولماذا لم تتوقف عند نقد وتفكيك هذه الماركسية الارثوذكسية؟ وهل بأمكان مثل هكذا ماركسية دوغمائية ان تعيد سؤال الفلسفة والايديولوجيا والاخلاق؟ وهل بأمكانها ايضا، ان تؤسس لخطاب ابستمولوجي مفتوح امام العلوم الانسانية الجديدة كالانتربولوجيا واللسانيات والعلوم اللغوية والمنطقية؟ فهل هناك "عقد اكاديمي مطلق ومسبق" في وجود ماركسية واحدية مطلقة غير قابلة للمراجعة والنقد؟!!

ثم لماذا جرى تغييب التحليل الثقافي والنقدي لمفاهيم مفصلية واساسية في منهجية الألوسي، خاصة المتعلق منها بالنظام الأخلاقي: كالايديولوجيا وعلاقتها بالنظام المعرفي والقيمي؛ الأيديولوجيا وعلاقتها بالبنية الفوقية؛ الأيديولوجيا وعلاقتها بلغة الأخلاق اليومية؛ الأيديولوجيا وعلاقتها بكل من الأخلاق والسياسة؛ الايديولوجيا وعلاقتها بالتشكيل المرضي لتكوين اللسان والمقولات الذهنية والخطاب وممارسات الكلام في بنية العالم اليومي؟ ولماذا غاب عن الدراسة ذكر أهمية دور اللغة في تطور وارتقاء وعي الأنسان، على الرغم من ان اللغة لم تنفصل عن مجمل نظريات التطور البايلوجية عند داروين وسبنسر، او في المادية الجدلية والتاريخية عند ماركس؟ فكيف نفسر تكرار غياب مجمل كل ما ذكرناه من اشكالات فلسفية هامة وضرورية في إحداث رجة راديكالية في منطق العملية الفلسفية؟ والى متى تبقى كتاباتنا متخلفة عن مواكبة ركب تطور ابستمولوجيا العلوم الأنسانية عامة، ونقد علاقة الايديولوجيا مع الفلسفة خاصة؟ ولماذا تعاني كتابات المشتغلين في حقل الدراسات الفلسفية عندنا، من مرض "التناسخ الميتافيزيقي" من حيث الأسلوب المنطقي واللغوي والمفاهيمي المتبع في طرح وتناول حقول الفلسفة ومناهجها؟ ولماذا نجد هناك سيطرة "لأسلوبيات لغوية" قديمة ومحددة ومسبقة في عرض الأفكار الفلسفية وتياراتها ومناهجها؟!!!
لذلك، نلاحظ من خلال تتبعنا لمسار منشورنا الفلسفي المطبوع، انبلاج فيوضات من القوالب والمقولات الجاهزة المتفق عليها قبليا والمصادق عليها ايديولوجياً، في كتابة وتوظيف المفاهيم في حقل الخطاب الفلسفي. ومما مر بنا في الدراسات المذكورة اعلاه، نلحظ سيطرة تلك "القوالب النمطية"، و"تمظهراتها الشعورية واللاشعورية" بين بنية نص وآخر. مما جعلها مجرد عملية اجترار وتكرار لمقولات فلاسفة وتيارات فلسفية او حتى لمناهج فلسفية. فكان في تناول فلسفة الألوسي ومنهجه، خير شاهد ودليل على سيادة تلك القوالب في تحليل منهجه الفلسفي من جهة وفلسفته بشكل عام من جهة أخرى، وهذا هو بالضبط، ما اصطلحنا على تسميته "بالتأبين الميتافوري لفلسفة الألوسي"، فمنذ متى كانت سيطرة "القوالب الجاهزة" وايديولوجيا "النَسَخ الفلسفي الميتافيزيقي" تُحيي اصحاب الفلسفة وروادها؟
بعد رحيل فيلسوفنا الألوسي، طالعنا أ. د. حسن مجيد العبيدي، بدراسة عرضت للسيرة الفلسفية والمنهجية للراحل. مشيرا الى اهمية نتاجه الفلسفي الغزير الموزع بين تأليف الكتب الفلسفية الرصينة، وكتابة الأبحاث والمقالات الفلسفية التي نشرت في دوريات الفلسفة خاصة والدوريات الثقافية عامة. ثم قدم أ. العبيدي رؤيتة الفلسفية عن بنية وطبيعة ووظيفة المنهج عند الألوسي. فُترى إلى أي حد اختلفت فيه هذه الرؤية، التي جاءت في مرحلة "التأبين الحرفي/الحقيقي" لفيلسوفنا الالوسي، عن رؤى الدراسات الفلسفية السابقة، في تحليل ودراسة المنهج الماركسي عند الالوسي؟

استعرضت دراسة الأستاذ العبيدي، لمجموعة ضوابط محددة لبنية المنهج عند الألوسي، هي :((إن التراث الفلسفي العربي الإسلامي يجب أن ينظر إليه من خلال العلاقات المتبادلة بين الطبقات (الفئات الاجتماعية) ومستوى النضال الطبقي في هذا المجتمع أو ذاك، فضلاً عن النظر في مستوى تطور العلوم، ولاسيما العلوم الطبيعية، في هذا المجتمع أم ذاك، مع الاهتمام بالتواصل الفلسفي والفكري، أو ما يسمى بالاحتياطي المتراكم من التصورات والمواد الفكرية، مع الأخذ بنظر الاعتبار الخصائص القومية والوطنية للمجتمع. وهذه الضوابط المنهجية بنظر الفيلسوف الآلوسي تعدّ أساسية في كل مجال من مجالات العلوم الإنسانية، فضلاً عن الفلسفة، لأن الفلسفة على وفق الآلوسي هي نظرة عن العالم، وهي نظام لأكثر المفاهيم شمولاً عن العالم، ولعلاقة الإنسان بهذا العالم، وتعبر عن الفئات والطبقات الاجتماعية المعينة، وهي شكل من أشكال الوعي الاجتماعي، ولذلك فإن مهمة التفكير الفلسفي عند الفيلسوف الآلوسي بحسب هذا المنهج ليست معرفة الآراء فقط، ولا رصد الظاهر فقط، بل ومعرفة الأسباب التي تجعل ظروفاً معينة تلد بالضرورة هذه الأفكار أو تلك الآراء. وذلك أن نمضي من الواقع إلى الأفكار لا من الأفكار إلى الواق(....)مما تقدم يظهر أن المنهج الفلسفي للآلوسي هو منهج شمولي كلياني ذو نظرة تكاملية، أي أنه يدرس نتاج الفيلسوف المدروس دراسة متأنية بمراعاة نموه وتطوره الفكري والروحي، فمثلاً إن تاريخ أي كتاب من كتب الفلاسفة لا يكفي لإعطاء صورة كافية عن الفيلسوف، بل لابد من معرفة أهداف الكتاب، ولمن كُتب، ومنهجه، أو تعليمي فقط، أم هو تعبير عن موقف الفيلسوف الداخلي الحقيقي... .ويدافع الفيلسوف الآلوسي عن منهجه هذا، ويعده مفيداً للدرس الفلسفي بخلاف المناهج الأخرى التي قدمت من وجهة نظره قراءة قاصرة للتراث الفلسفي العربي الإسلامي، لأنها على وفق الآلوسي أخذت بجانب واحد فقط، وأهملت الجوانب الأخرى، وهذه المناهج القاصرة بنظر الفيلسوف الآلوسي هي المناهج المثالية والانتقائية والوضعية والبراغماتية الذرائعية وغيرها)((12).
في النص أعلاه، قدم الأستاذ العبيدي رؤية شاملة "للمنهج التكاملي"، لم تأخذ بنظر الاعتبار، حضور مفهوم الأيديولوجيا وحقوله المعرفية والثقافية ضمن المنهج التكاملي عند الآلوسي. فبات من المعروف في ادبيات العلوم الأنسانية والأجتماعية والأنتروبولوجية الماركسية الى جانب العلوم اللسانية والمنطقية، اهمية رصد وبيان العلاقة البنيوية بين الأيديولوجيا وتمثلاتها "الشعورية" المتمثلة بسيطرة الأحزاب وانساقها الظاهرة، وتمثلاتها "اللاشعورية" المتمثلة بتشكيل النظام المعرفي/والأنفعالي؛ والرمزي/والمُتخَيّل للانسان، ذلك النظام الذي هو مجموعة من التراكمات السلطوية والشمولية المُنتَجة من قبل الأنظمة السياسية التي عملت على تسييس وتجيير منظومة القيم والأخلاق ومجمل الممارسات الأنسانية اليومية. فهل كان المنهج التكاملي قاصر عن الأحاطة بتلك الظواهر التاريخية؟ وهل كان منفصلا عما هو متصل ومتداخل مع بنية الحياة اليومية المرضية؟ مثل تلك القضايا وغيرها ظلت ولا زالت مسكوت عنها من قبل كتاباتنا الفلسفية، وذلك لان اغلب ما يُكتب ويُنشر لا يمثل موقفا فلسفيا، ولا يمثل موقف الفلسفة، بل لا يمثل موقف الفلاسفة إزاء قضاياهم الحقيقية والواقعية الراهنة. وطالما علمنا مؤسس الدرس الفلسفي التهكمي أستاذنا الراحل مدني صالح، منذ أول درس فلسفي "أن الفلسفة موقف".
-في نقد بنية التداخل بين :الأيديولوجي والأخلاقي والماركسي في منهج الآلوسي

يمكننا ان نعد كتاب (التطور والنسبية في الأخلاق)، واحدا من اكثر مؤلفات الآلوسي جدلا وإشكالا، وذلك يعود الى انه طرح في هذا المصنف الفلسفي، اشكالية فلسفة الأخلاق من الناحية التاريخية المادية/التطورية، الى جانب علاقة الأخلاق بالأيديولوجيا وتجلياتها المختلفة. وفي هذا الطرح، يكمن اكثر من جانب فلسفي مسكوت عنه، بدء من مفهوم "النظرية السياسية الجديدة" التي لم تتبلور في شكلها التحليلي التكاملي، لتؤسس "لقطيعة ابستمولوجية" مع موروث النظرية السياسية الأفلاطونية. هذا على الرغم من ان فيلسوفنا الراحل، ابدع في مؤلفه هذا، في نقد منظومة الفلسفة الأفلاطونية من النواحي الأيديولوجية؛ والطبقية؛ والسلطوية. لكن كل ذلك لم يكلل بميلاد نظرية سوسيو-اخلاقية جديدة من جهة؛ وسوسيو-سياسية وسوسيو-فلسفية من جهة اخرى. وربما يعود ذلك الى غياب التحديد المنهجي الابستمولوجي لمفهوم "الأيديولوجيا" في الأخلاق والسياسة والتاريخ، الذي برز في  الطبيعة الانتقائية المحددة للمصادر الفلسفية المستعملة في كتابه، التي خلت تماما من الأحالة الى أي مصدر متخصص في تاريخ نظرية الأيديولوجيا وتحولاتها الفلسفية والسياسية، سيما في تاريخ منعرجات الفلسفة الماركسية. اضف الى ذلك، غياب سمة التنوع المنهجي للمصادر، التي تمهد لبناء حالة من التفاعل والتداخل  الابستمولوجي والنقدي مع بقية حقول العلوم الأنسانية ذات الصلة بمفهوم "الأيديولوجيا"، خاصة العلوم اللغوية واللسانية التي استأثرت بأهتمامات الخطاب الماركسي الجديد. فمن خلال قراءة متفحصة لطريقة اختيار واستعمال المصادر والمراجع في الكتاب المذكور اعلاه، يتوضح سيطرة الاستناد على نصوص ثانوية تُرجمت الى اللغة العربية، مثل كتاب جون لويس (المدخل الى الفلسفة) وكتاب كورنفورث وغيرها، التي لا تتوفر على تحليل البنية الإشكالية لمفهوم التطور والنسبية في الأخلاق. علاوة على عدم تضمن قائمة المراجع على الاعمال الكاملة للماركسية، كالأعمال الكاملة لماركس و انجلز، التي تُرجمت جميعها الى اللغة العربية منذ فترة طويلة. فلماذا تم تغييب تلك المصادر بطبعتيها العربية و الأنجليزية؟ ولماذا تم السكوت عن تلك المراجع؟
 والشيء اللافت في الامر، خلو قائمة المراجع من مصدر اساسي لماركس، عده كثير من الفلاسفة والمنظرين في حقل الدراسات الماركسية، نقطة تحول لمفهوم الأيديولوجيا في فلسفته، وهو كتاب(الأيديولوجية الألمانية). اضف الى خلو تلك القائمة من اعمال معظم الفلاسفة الماركسيين المجددين للطروحات الماركسية التقليدية، سيما نظرية الانعكاس والحتمية الاقتصادوية في التاريخ والمجتمع والسياسة، الذين عملوا على اعادة قراءة وتأويل الماركسية، بعدما ابتلعتها الارثوذكسية الستالينية، امثال اعمال الفلاسفة: غرامشي ولوكاش والتوسير ولوفيفر وغيرهم. على الرغم من التكرار الواضح، لثيمة الأيديولوجيا وعلاقتها بالانظمة الأجتماعية والسياسية وعلاقات الأنتاج في كتاب(التطور والنسبية في الأخلاق). فهل تعني ظاهرة الاستناد على مصادر ثانوية/تقليدية في ذلك الكتاب، تكريسا لرؤية ميكانيكية/واحدية للماركسية وتاريخها في منهجية الآلوسي؟ وهل كان الآلوسي منهمكا بالماركسية ومراحل تطورها التقليدية، دون الانشغال بكتابات الماركسية الأصلية عامة، وكتابات ماركس خاصة؟ 

اما فيما يتعلق بمفهوم الايديولوجيا، لاحظنا ارتباط هذا المفهوم بشكل حتمي، برؤى ماركسية تقليدية، لم تأخذ بنظر الاعتبار علاقة الأيديولوجية بالبنية الفوقية المتكونة من الاخلاق وانظمة المعتقدات والقيم الثقافية، الى جانب الاطر القانونية والتشريعية والدينية..الخ. لذلك لم تتضح العلاقة الاشكالية بين الايديولوجية والبنية الفوقية في كتاب الآلوسي. وهذا ربما يعود في احد اسبابه، الى انه تبنى ماركسية تقليدية منغلقة على اصولها ومبادئها ومناهجها، أي "الماركسية الميكانيكية"، التي تجعل العامل الأقتصادوي هو العامل الوحيد، المحدد والمحرك للتاريخ ولمختلف الفعاليات الأنسانية القيمية والاخلاقية والعقلية والسيكولوجية. وبالتالي ظهرت مجمل تلك الفعاليات في كتابه، ليست اكثر من ملحق ثانوي يمثل انعكاس للبنية التحتية التي تحدد ظهور وتشكل البنية الفوقية، لاسيما فيما يخص نظرية الأيديولوجية، وهذا ما ساهم بشكل كبير في تشكيل رؤية ضبابية لمفهوم "الأيديولوجيا"، الذي نراه تارة، يمثل مؤسسات الدولة المسيطِرة، وتارة أخرى، يمثل المؤسسات الحقوقية والأخلاقية التي هي في حقيقتها تمثل "البنية الفوقية"، والتي لم تشهد أي وجود واستقلال -في نص الآلوسي- عن تبعيتها الميكانيكية للبنية التحتية، لان كل من :((البناء التحتي والفوقي مرتبط بمفهوم التشكيلة الأجتماعية. ان القاعدة تحدد الصفة النوعية لكل تشكيلة اقتصادية اجتماعية، وبهذا فهي تفصل التشكيلة الطبقية، او المشاعية عن العبودية، اما البنيان الفوقي فهو يحدد خصائص الحياة الروحية والأجتماعية لكل تشكيلة اجتماعية. ويشتمل البنيان الفوقي على الايديولوجيا التي تخدم في تثبيت او هدم العلاقات الأقتصادية القائمة وفي حل القضايا الأجتماعية المماثلة، وتظهر الأيديولوجيا منذ ظهور المجتمع الطبقي مشتملة على النظرات السياسية والحقوقية والدينية والفلسفية والأخلاقية والجمالية. وفي كل تشكيلة اجتماعية طبيعية تتكون ايديولوجيا للطبقة المسيطرة، وتملك الطبقة المسيطرة وسائل انتاج ونشر هذه الأيديولوجيا، كالمطابع والمدارس ووسائل الدعاية..الخ. كذلك يشتمل البنيان الفوقي على المشاعر والميول السيكولوجية الأجتماعية. ان كلا من هذه وتلك انعكاس للعلاقات الأقتصادية القائمة.... واذا كانت العلاقات الأيديولوجية تحدد بالعلاقات الأقتصادية، فأنها تتمثل في مؤسسات ومنظمات شتى وذلك في المجتمع الطبقي، الحكومة والمؤسسات القانونية والأحزاب السياسية والأتحادات المهنية والدينية والثقافية والعلمية الخ))(13).
بعد ذلك، يستخلص الآلوسي نظريته في الأخلاق، التي كانت تحصيل حاصل وتوتولوجي لسيطرة البنية المادية التحتية، فيقول :((مما تقدم يتبين، ان معنى القول بأجتماعية الأخلاق هو انها انعكاس للمجتمع، ولكن ما المقصود بالضبط من هذا؟. يتكون المجتمع من قسمين :الجانب المادي المتمثل في نوع الأقتصاد، وحالة قوى الأنتاج وشكل وسائل الانتاج، ونمط العلاقات الانتاجية-الاجتماعية، وكل ما يتصل بهذا من عمران ومواصلات. والقسم الثاني هو الجانب المعنوي او الروحي او الفكري متمثلا في الأساطير والأعتقادات والافكار والعادات والأعراف والاخلاق والقواعد القانونية والفنون. ونحن نذهب الى ان كل الدلائل تدل على ان الجانب الثاني او ما يسمى بالبناء الفوقي ينبع من ويقوم على اساس الأول أي البناء التحتي او المادي))(14).

نلحظ مما ذكر اعلاه، ان مفهوم الأيديولوجيا لم يظهر بوصفه خطابا ثقافيا؛ لسانيا؛ لغويا، بل ظل في حالة من التداخل والتحول بين :السياسي؛ الحضاري؛ المادي/الثقافي. دون ان يكون له ثمة تشخيص وتحليل نقدي واضح لعلاقته البنيوية مع نظام الأخلاق والقيم الأجتماعية السائدة، لكونه ظل يعيش في تبعية حتمية للبنية المادية التحتية. من هنا، تظهر الحاجة الابستمولوجية والانطولوجية الضرورية في اعادة النظر/ونقد مفهوم الأيديولوجيا، الذي تم تبنيه وطرحه في كتاب (التطور والنسبية في الأخلاق). وذلك لأنه مفهوم لم يتواصل بشكل ما او بأخر مع مجمل منتجات الذهن الأنساني من عمليات اعتقادية؛ وممارسات لسانية وتشكيلات لغوية..الخ. وهذه في مجملها، قضايا ابستمولوجية متداخلة مع خطاب اللسانيات عامة وفلسفة اللغة (philosophy of language)خاصة، إلى جانب سوسيولوجيا المعرفة (sociology of knowledge)(15) وعلاقتها في أنتاج/وإعادة إنتاج المقولات الذهنية/الثقافية ضمن السياق الأجتماعي العام. وبطبيعة الحال، أن مجمل تلك المفاهيم المطروحة أعلاه، لا يمكن لها ان تنفصل عن عمليات تشكيل النظام الأخلاقي في المجتمع والتاريخ، واشكال علاقات الأنتاج، لكنها لم تتضح بشكل كافٍ في سِفر استاذنا الراحل الآلوسي. وذلك ربما يعود إلى ان نظام منهجه الماركسية التقليدية، والنزعة الانتقائية في اختيار المراجع المعتمدة، ادت جميعها الى طرح رؤية ميتافيزيقية للماركسية(16)، بحكم انطلاقها من منظومة مفاهيمية مُلهوتة ومقدسة، غير قابلة للنقد والتفكيك. فمفهوم "الأيديولوجيا" على سبيل المثال لا الحصر، ظل عائما بين سيطرة كل من: اشكال الأنتاج؛  واشكال الطبقات الاجتماعية والسياسية، فظهر وكأنه مفهوم منفصل عن براكسيس بنية الوجود اليومي، وعن تشكيلاتها الخطابية واللغوية، وتشكيلاتها اللسانية والعلاماتية. الى جانب قانون مراحل تطور التاريخ البشري في الماركسية، الذي لم يسلم، هو الآخر، من صور اللهوتة والقدسنة، فلم نجد مثلا، أي اشارة لا من قريب ولا من بعيد، إلى نظريات الأنتاج الخاصة بالمجتمعات القديمة (كنظرية نمط الأنتاج الأسيوي)(17)، التي خصّ بها ماركس مجتمعات ما قبل الدولة الرأسمالية، واقترحها كبديل عن نظرية المراحل الخمس، التي ليس من الحتمية التاريخية ان تنطبق تلك النظرية على المجتمعات القديمة والمجتمعات الأسيوية الأخرى. وقد ظهرت دراسات في الانتروبولوجيا الماركسية والفلسفية(18) رائدة في هذا المجال، لا يمكن للباحث المختص في الفلسفة والعلوم الانسانية، تجاهلها او القفز عليها بطريقة غرائبية، بحجة تثبيت رؤية دوغمائية واحدية للماركسية من جهة؛ ولمفهوم الأيديولوجيا ولغة الأخلاق من جهة أخرى.

الهوامش:
(*) سيكون اعتمادنا على مؤلف الآلوسي(التطور والنسبية في الاخلاق) لإعادة قراءة الخطاب الماركسي في منهجه من جهة، وجدل الايدولوجيا والفلسفة من جهة أخرى. وهذه الدراسة هي في الأصل جزء مستل من دراستنا المطولة حول تاريخ الفلسفة العراقية (مخطوط قيد الانجاز).
 (1)د.علي حسين الجابري:أصالة الآلوسي الفلسفية في كتاب(الفلسفة والانسان) دراسة تحليلية نقدية لمجمل الموقف الفلسفي فيه، دراسة منشورة في المجلة الفلسفية العربية، المجلد والعدد الثالث، عمان-الاردن،ديسمبر 1994،ص ص181-182
(2) سوف نرى لاحقا، كيف أن مفهوم الايديولوجيا ومركباته الثقافية والرمزية والمُتخَيّلة الأخرى التي جاء على ذكرها الجابري، لم تشهد هي ايضا،الاستقلال التام عن نظرية الانعكاس للبنية التحتية كما هو الحال عليه في الماركسية الارثوذكسية. وما يؤكد على صحة ذلك، هو أن مفهوم الايديولوجيا في مؤلف أ. الالوسي(التطور والنسبية في الاخلاق) ظل مجرد ملحق ثانوي بأشكال الإنتاج وتطورها التاريخي، إلى جانب ارتباطه الحتمي بالبنية التحتية ونظرية الانعكاس التي عول عليها الالوسي كثيرا في مؤلفه المذكور أعلاه.
(3)د.علي حسين الجابري:المصدر السابق،ص ص201-202
(4)المصدر نفسه،ص204
(5)د.افراح لطفي عبدالله:شذرات عن فلسفة الدكتور حسام محي الدين الالوسي،دراسة منشورة على موقع الحوار المتمدن،العدد2905،2010/2/2
 (6)للمزيد ينظر: د.حسام محي الدين الالوسي:تجربتي الفلسفية، حوار منشور في مجلة الاديب، العدد 75،السنة الثانية،8حزيران(يونيو)،2005
(7)للمزيد يُنظر:
George A. Reisch: How The Cold War Transformed Philosophy Of Science, To The Icy Slopes Of Logic, Cambridge university press, 2005, pp 57-82
(8)للتوسع حول طبيعة القراءات الموضوعانية/التقليدية للفلسفة الماركسية في الوقت الراهن،يُنظر:
كتاب(الماركسية الغربية وما بعدها، التأسيس والانعطاف والاستعادة)، تأليف مجموعة من الباحثين، إشراف وتحرير: د. علي عبود المحمداوي، منشورات الاختلاف- الجزائر، 2014
(9)د.محمد فاضل عباس:الاخلاق عند حسام الالوسي دراسة فلسفية، دراسة منشورة في مجلة الفلسفة/الجامعة المستنصرية،الاصدار 7، 2011، ص6
(10)المصدر نفسه،ص7
(11)المصدر نفسه،ص7
(12)د.حسن مجيد العبيدي:الفيلسوف العراقي حسام محي الدين الالوسي 1934-2013-دراسة في السيرة والمنهج، دراسة منشورة في موقع كتابات، 9 تشرين الثاني 2013
(13)أ. د.حسام محي الدين الالوسي:التطور والنسبية في الاخلاق،دار الطليعة،بيروت-لبنان،ط1، 1989، ص ص 32-33
(14)المصدر نفسه،ص ص 34-35
(15)للمزيد يُنظر:
Adam Schaff : Marxisme et sociologie de la connaissance, un essai dans l’homme et la société, colloque de cerisy (Marx Et La Sociologie), N.10, Octobre-Novembre-Décembre, 1968, pp 117-145
(16)تجدر الاشارة هنا، الى ان تاريخ صلاحية النظرية الماركسية، لم يتم مساءلتها بعد، وإعادة النظر في مدى قدرتها على التفاعل واستيعاب المنعرجات الحاصلة في النظرية الماركسية من جانب، وعلاقتها بتطور العلوم اللغوية والانسانية والانتروبولوجية من جانب اخر. وللاطلاع على النقد الابستمولوجي لتاريخ فاعلية الصلاحية المطلقة والشكلانية للماركسية الرسمية، يُنظر:
Henri Lefebvre :La Somme Et Le Reste, Bélibaste éditeur, 1973
(17)للمزيد يُنظر:
Tom Bottomore :A Dictionary of Marxist Thought, Blackwell ,London, second edition,1991, pp 23-25
(18)للمزيد يُنظر:
Maurice Godelier : Perspectives in Marxist Anthropology, translated by Robert Brain, Cambridge university press, London, 1977
Donald L. Donham: History, Power, Ideology, Central Issuses in Marxism and Anthropology, Studies in Marxism and Social Theory, Cambridge University Press, first published, 1990

(**)باحث من العراق- مختص في فلسفة الدراسات الثقافية العراقية

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟