إذا حدث أن قلت لماركسي أنك ميتافيزيقي، وأن الميتافيزيقا أساس كل تفكير مهما كانت نوعيته، من العلوم إلى الطب مرورا بالفلسفة والفن... فإنه سينظر إليك بعين الارتياب، وسيصنفك ضمن التيار المثالي الذي أرست دعائمه فلسفة أرسطو إلى حدود المثالية الألمانية، وعندما ستطرح عليه علة هذا التصنيف، سيجيبك بطريقة ميكانيكية كون أن الصراع الفلسفي منذ مدة طويلة، هو صراع بين المادية والمثالية، بين من يعطي الأسبقية للفكر وبين من يعتبر الواقع أساس كل تفكير وإدراك، بين العقل والمادة، وبين الواقع والروح "l’esprit" وأن الحقيقي في هاته المعادلة الطويلة، هو الانتصار لكل ما هو مادي، أي انتصار للواقع أولا، بما أننا نوجد بداية، حيث تعمل آلة الواقع على تحديد وصنع وعينا، ثم بعد ذلك نفكر انطلاقا من واقعنا الاجتماعي والاقتصادي، أما المثالية فإنها ستقف معدومة أمام هذا القول، لأنه يستحيل أن تُصنع قبليا كي توجد، كلا إذ ما تؤخذ هذه الأمور بهاته البساطة الساذجة، أي أن حقيقة الأمر هي أننا نوجد بعديا "a postériori"
والحاصل مما تقدم في هذا الحكم، هو أن الميتافيزيقا تفكر قبليا، وبما أنها على هاته الشاكلة فإنها مثالية بطبيعة الحال، بل إن هناك مثاليات مادية أيضا أرست دعائمها فلسفة فويرباخ الساذجة، حيث كل الأشياء تلبس معطفا ماديا ثقيلا إلى درجة الإفراط...
إن أول هفوة سيسقط فيها صاحب هذا الجواب المفترض، هو عندما ستطلب منه أن يقدم لك تعريفا للميتافيزيقا، حيث ينحو أغلبنا تجاه حكم شائع، مفاده أن الميتافيزيقا هي "ما وراء الطبيعة" ثم ينتهي الأمر، من ثمة فإننا سنعمل في هذا المقام على الحديث عن الميتافيزيقا، ثم أسس الفلسفة الماركسية، حيث سنحصل على نتيجة معكوسة، وهي أن الماركسية خاصة من جانبيها الفلسفي أو السياسي لم تستطع الانفلات من قوة الميتافيزيقا، بل إنها كلما ابتغت لنفسها التخلص منها، إلا واتسع نطاق خضوعها لها شاءت لذلك أو لم تشأ.
كلنا نعرف أن رحلة الميتافيزيقا بدأت عندما أراد تلامذة أرسطو تصنيف كتب الرجل بعد وفاته لكن لو حدث وأن سألنا المعلم الأول على دلالة الكلمة فإنه سيجد صعوبة بليغة تفسيرها وإن كان صاحبها، لسبب بسيط هو أن أرسطو والفلسفة الأرسطية لم تكن إلا فلسفة في الفيزياء "physis" مع الأخذ بعين الاعتبار دلالة الفيزياء قديما، أي الفيزياء الطبيعية التي تهتم بتفسير الكون تفسيرا كميا وليس كيفيا، حيث تم اعتبار أن للعالم بداية وهدفا محددا، لكن هاته البداية استنبطت مما تقدمه لنا الحواس، أي مما يقدمه لنا الواقع على عكس أستاذه أفلاطون، لهذا كان لزاما علينا فهم الوجود انطلاقا من الموجود، من ثمة فالفيزياء هي الطبيعة والطبيعة هي الفيزياء، والحال أن هذا الحكم لم يكن موجها إلى أفلاطون بالدرجة الكبيرة بقدر ما كان جوابا على فيزياء ديمقريطس أيضا.
عملت الماركسية أيضا على توجيه سهامها نحو الفكر المثالي، ونحو الميتافيزيقا على الخصوص، حيث حصرت نفسها في ذلك التفسير الساذج للميتافيزيقا، خاصة عندما تم خلطها بالجانب اللاهوتي، أي أن الماركسي مثلا عندما يجد شخصا يفسر العالم تفسيرا لاهوتيا، يعتقد أنه يفسره تفسيرا ميتافيزيقيا، ثم يدعوه إلى تفسيره وفهمه فهما ماديا، لأن الواقع هو نتاج للصراع الطبقي أولا، ثم لا يمكن فصله على قانون الديالكتيك الذي لا يطبق على المستوى الفكري وإنما على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، لكن دعونا نعود إلى الفلسفة الماركسية نفسها، الحق أن ماركس يؤكد بداية أن كل شيء هو مادة، وأن العالم هو عالم ثنائي بين الإنسان والطبيعة، بيد أن الأول يختلف على الثانية في الطبيعة الأولى، لسبب بسيط هو أن الإنسان وبواسطة الشغل تمكن من السيطرة عليها، أما من جهة ثانية فإن الإنسان تحقق له هذا المراد عندما التقى فيه شيئان لا ثالث لهما، أو عندما أصبحنا أمام الإنسان الصانع والمقتصد "homo faber et homo economicus" الذي عرف كيف يحول الطبيعة وكيف يسخرها لتلبية حاجياته، إننا هنا أمام تفسير مادي للعالم بطبيعة الحال.
في معرض آخر تتأسس الفلسفة الماركسية على الخير في ذاته، أو الخير من أجل الخير، حيث أن طبيعة الإنسان هي طبيعة خيرة بالأساس، والدليل أن المرحلة المشاعية كانت تغيب فيها الملكية، ثم سينتهي التاريخ مرة أخرى بغياب تام للملكية عند المرحلة الشيوعية، أما أنماط الإنتاج الأخرى خاصة الإقطاعية والرأسمالية، فإن وعي أفرادها هو نتاج وجودهم الاجتماعي بعبارة أخرى فإن نمطي الإنتاج الاشتراكي ثم الشيوعي يعتبر الغرض منهما هو تحقيق الخير، في نفس السياق وبعودتنا إلى منطلقات الفلسفة الماركسية، نجد أنها تأسست هي الأخرى على منطق الثنائية "le dualisme" الثنائية بين المادي والمثالي، بين الطبيعة والإنسان، بين الخير والشر، وبين الفكر والواقع، صحيح أنها انتصرت لكل ما هو مادي، لكن ماديتها مادية قبلية طبعا، والدليل على ذلك هو عندما نقول أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعي الأفراد، حيث سيتأسس وعي الفرد انطلاقا من وجوديه الاجتماعي والاقتصادي، واللذين وجدا قبليا أي قبل أن يوجد الفرد، والحال أن الأمر هو الذي جعل الفلسفة الماركسية تحاول الانفلات من الميتافيزيقا، فإذا بها في ميتافيزيقا الثنائيات والميتافيزيقا القبلية ماديا وليس عقليا، بعبارة أخرى يمكن القول أن ماركس لم يستطع إلا التأسيس للميتافيزيقا المادية، التي تفسر كل شيء تفسيرا ماديا، مثلما فسر أفلاطون العالم تفسيرا ميتافيزيقا من خلال ثنائية عالم المثل وعالم الظلال، وبما أن الفكر الميتافيزيقي يتغذى بالثنائيات وبما أن الماركسية لم تتمكن من التخلص منها، فإنها سقطت في ميتافيزيقا أكثر سذاجة، وأكثر ابتعادا عن الواقع، وأكثر تحريفا للعالم وطبيعته الأولى القائمة على الاختلاف والتقدم والبقاء للأقوى والفردانية...
عندما نعود لميتافيزيقا أرسطو نجد أنها اهتمت بتفسير العالم، والحال أن ماركس هو الآخر لم يقدم إلا تفسيرا آخر للعالم، فلسفة أرسطو آمنت بالعدالة القائمة على قوة الطبيعة، أما فلسفة ماركس فقد آمنت بالعدالة القائمة على التوزيع العادل للثروات، فلسفة أرسطو الميتافيزيقية تؤسس للاختلاف بين طبقات المجتمع، حيث النبلاء والجنود فالعبيد، أما ميتافيزيقا فلسفة ماركس فإنها قائمة بالأساس على منطق الإنسان المتشابه أي الإنسان النمطي، ميتافيزيقا أرسطو بنيت على منطق الكون والفساد، أما ميتافيزيقا ماركس فإنها بنيت على منطق البنيتان الفوقية والتحتية... على العموم كان ماركس يحلم بالتأسيس لعالم آخر على شاكلته، عالم ينفي الاختلافات بين الناس، عالم أفقي وليس بعمودي البتة والمطلقة، عالم لا يؤمن بأن الإنسان لا يمكن أن يكون نمطيا وهلم جرا.