في ما وراء نقد الحكم الأخلاقي -رهانات الحاضر: الوسط، الفكر، الصيرورة، الجسد - (المقالة الرابعة) – ادريس شرود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"أخشى أن تكون ساحرة الفلاسفة، أي الأخلاق، هي التي تمكر بهم هنا لتجبرهم على أن يكونوا مفترين  على الدوام" 
فريديريك نيتشه
"في العالم شيء يرغم على التفكير. هذا هو موضوع لقاء أساسي وليس موضوع تحقق"  
جيل دولوز   

تقديم

يجب التأكيد على صعوبة الإنفلات من الاخلاق والأحكام الأخلاقية، والتي فرضت نفسها على الأفراد والجماعات على طول تاريخ البشر والثقافات والحضارات. إن الحكم الأخلاقي هو الذي وجّه الفلاسفة والمؤرخين وعلماء النفس، وإن الفن والدّين والعلم والتاريخ والتقنية نُظر إليها من جهتها الأخلاقية، وذلك بما ثبت من تفحص هذه المجالات من أنها كانت مشروطة للأخلاق في غايتها ووسائلها ونتائجها. فالقيمة الأخلاقية عدت بهذا القيمة العليا(1). لكن ما يتعب أكثر، هو أن نرى في النوازع الأخلاقية ما يحرك عمل الفيلسوف أو المشتغل بالفلسفة، مع ذلك الإعتزاز بالإنضمام إلى الجماعة والخضوع لقيمها وقوانينها، والإنتشاء بخدمتها وتدعيم سلطتها. إنه الشعور بالواجب، والوعي، والعزاء الوهمي بالإنتماء لإرادة عليا؛ إرادة الجماعة. ضدا على هذا النزوع الإرتكاسي، وجب "تجديد الإنطلاقة" والبحث عن مخارج للتشويه الذي أصاب إرادة "الإنسان الأخير" وقيمه ومعاييره الاخلاقية ومعنى و"جوده مع العالم". إنني أدعو هنا والآن، إلى التشديد على الوسط ومزاولة الصيرورة، وإعادة الإعتبار للجغرافيا على حساب التاريخ، وللفكر كقوة رحالة قادرة على زحزحة المثال وتجديد الإنطلاقة.

1- علاقة "الإنسان الأخير" بتراثه و"نفسه العميقة"

    لم يتمكن المدافعون عن التراث ونقاد التراث ونقاد نقد التراث من إقناع شريعة واسعة من القُرّاء والمهتمين بالطريقة المثلى للتعامل مع الهوية، خاصة بعد استغلال الدولة-الأمة هذا المفهوم منذ قرن كامل ضد الإستعمار، وضد الغربنة والأمركة الشرسة لبقية الإنسانية. بل تمكنت هذه الدولة من الحفاظ على استمرار تلك العلاقة الكلاسيكية مع التراث ومع "الثروة الاخلاقية" للملة. فتعالت أصوات تدعو إلى القطيعة مع التراث (أدونيس الأخير نموذجا)، وأخرى تؤكد على ضرورة تملك وتأصيل الإمكانيات الموجودة في خطابات واسعة من التراث (الأستاذ فتحي المسكيني من تونس، والأستاذ محمد الشيخ من المغرب كنموذجين)(2). ويبدو أن الدعوة الأخيرة قد لاقت قبولا واستحسانا من طرف نخبة من المثقفين والأساتذة الجامعيين والكتاب الصحفيين و"الضمائر الحية" للملة، لأنها صادرة عن  عقول توفيقية منفتحة على ما أنتجه الغرب من أفكار وفلسفات حديثة وما بعد حديثة، وعلى تراث أصيل يعبر عن عظمة حضارة بعينها؛ "الحضارة العربية الإسلامية". ويبدو أن الإسلام له  الفضل الكبير في نقل المجموعة العربية إلى واجهة التاريخ وكذا إلى جهة الدنيا؛ فلا أحد ينكر أن الإسلام دنيوي إلى حدّ اللعنة؛ نحن -يقول فتحي المسكيني- أكثر الشعوب التي نظمت علاقتها بالدنيا بشكل حرفي ودعوي وعقدي بالإعتماد على نص مقدس، يعني 90٪ منه هو الترتيب لهذه العلاقة بالدنيا(3). وهذا يعني الإيمان المطلق بعظمة الإنتماء إلى جهة روحية كبرى وإلى خصوصية تجربة للأنا؛ هي تجربة "الصوت" أو الهاتف الشرقية، التي تدعوك إلى العودة إلى ذاتك. وبالتالي، فهذه العودة ستجعل الإنسان الأخير/المسلم الاخير يلتقي ب"ثروة أخلاقية" ممثلة أساسا أولا في "الدّين" ليس كمجرّد تقنية من تقنيات الآخرة...، بل كأحد أنبل أشكال الإنتماء إلى النفس بحسب الأستاذ فتحي المسكيني(4)، وثانيا في فكرة الله كحاجة داخلية للتمكن من التفكير في أيّ إمكانية لتحقيق الخير الاسمى على الأرض وفي حدود طبيعتنا وفي خير أسمى في أفق الإنسانية، وثالثا في النص المقدّس المليء ب"حدوس وبأفكار أخلاقية رائعة"(5). لهذا ينبّه المسكيني في قراءته لكانط إلى الأمر الآتي:"بدلا من ’’نقد الدّين’’  فإن ما مارسه كانط هو تملّك منهجي رائع للفكرة الأخلاقية العليا للدّين، والذي أفضى به إلى الدفاع عن "قداسة الأخلاق"(6).

إن العودة إلى النفس العميقة وإلى مصادرها القديمة، هي إمكانية الإنسان الأخير/المسلم الأخير كي ينخرط في الكونية بما هو خاص، كما أن استعمال اللغة العربية/لغة النص المقدس وخاصة في مجال الترجمة للمعاني الفلسفية التي اقتضتها العقول الكبرى للإنسانية العالية، يمكن أن يساعد على تأصيل ما هو كوني بما هو خاص(7). يتيح هذا الإقرار بأهمية النفس العميقة ومصادرها إمكانية فذّة ورائعة للوصول إلى "الخير الأسمى الذي يؤسسه القانون الأخلاقي" وللإنخراط في عصر ما بعد العلمانية وإنجاز "الهجرة إلى الإنسانية" كمطمح أخير للإنسان الأخير.

2- تمجيد الحاضر وإعادة الإعتبار للجغرافيا

    يختصر مفهوم التاريخ كل مطالب العودة إلى النفس العميقة ومشاريع العودة إلى التراث ونقد التراث ونقد نقد التراث. إن الامر هنا يتعلق بتلك المبالغة بالإهتمام بالماضي وبمقولة الماضي التاريخي، وبالشغف بالجذور والأشجار والسجلات ونقاط التشجير والخصائص، والبحث عن يقين أول كنقطة أصلية، أي البحث دائما عن نقطة ثابتة بتعبير دولوز-غتاري. وفي حضور المنع الرشيق لعلوم مُساعدة لتدبّر حقائق التاريخ (الاركيولوجيا مثلا)، وفرض التفسير الأوحد للنصوص أو "حرية تأويلها"، وسيادة الذهنية التراثية والعقلية الوثوقية، من المهم جدا الإشادة بالجغرافيا ومنح الأرض قيمتها الحقيقية، وهذا يستلزم التوقف عند الغلاف، عند البشرة عند الإفتتان بالظاهر(8). وبصيغة أخرى، ما يهم هو الصيرورة-الحاضر؛ أي الجغرافيا وليس التاريخ، الوسط وليس البداية وليس النهاية، العشب الموجود في الوسط والذي ينمو عبر الوسط وليس الأشجار المالكة للقمة والجذور(9). إن إعادة الإعتبار للجغرافيا وللارض سيمنح للذات إنجاز لقاءات وربط علاقات، وحرية الحركة والترحال، شأن الرحل الذين لا ماض لهم ولا مستقبل، لديهم فقط الجغرافيا(10). إن الرحل لا تاريخ لهم، لديهم فقط صيرورات؛ إن الصيرورة جغرافيا يقول جيل دولوز.

يشدد دولوز على ضرورة توفر الفيلسوف على جغرافيا قبل أن يتوفر على تاريخ، وأن يرسم أبعادا قبل أن يبني أنساقا، يقول دولوز-غتاري:"ليست الجغرافيا طبيعية وبشرية فقط، وإنما هي ذهنية كالمنظر الطبيعي. إنها تقوم بنزع التاريخ من عقيدة الضرورة لصالح لزومية الإمكان. وهي تنتزعه من عقيدة الاصول لتؤكد على قوة "الوسط". وعلى الفيلسوف أن يبرهن فعليا أنه من الأرض وأنه المواطن الأصلي، وأنه لا ينتظر شيئا لا من الماضي ولا من المستقبل؛ فهو شديد الإرتباط بما "يحدث"، وبما سيتحصّل من تجاربه... . فإعادة الإعتبار للأرض والسير فوق السطح هو السبيل الوحيد للإحساس مع كل الذين يسيرون معا، ويتقاسمون معنى الإيمان بهذا العالم، هذا الإيمان الذي يصير هو نفسه مفهوما حقيقيا. إن السير فوق السطح يمنح امتيازا كبيرا لدور الجسد في إنجاز لقاءات واقترانات وترابطات واهتماما خاصا بالحاضر والراهن(11).

يجب التنبيه إلى تلك المبالغة في الإشادة بالجانب التاريخي في ثقافة الملة وإهمال الوسط، وهذا يمنع أعضاءها من رصد الإختناقات التي يعجّ بها هذا الوسط وعدم القدرة على الإنطلاق ومباشرة التجديد.

3- الرهان على الفكر وعلى الصيرورة-الحاضر

    من المستعجل الآن الشروع  في تحرير الفكر من تلك الصورة التي تحول دون التفكير وممارسة الفكر، والقطع مع ذلك الإيمان ب"مستقبل الفكر الغارق في الماضي الأكثر نسيانا"، وبتلك المطالبة الرشيقة والمشروعة ب"استعمال مصادر أنفسنا العميقة". فليس للمستقبل والماضي اعتبار كبير، فما يهم هو الصيرورة الحاضر(12) والوجه الآخر للفكر: كيف يمكن أن يزعزع نموذجه، ويعمل على إنما ء عشبه ولو محليا، ولو في الهوامش، بطريقة مستترة:

-أفكار لن تصدر عن الطبيعة الحسنة والإرادة الحسنة وإنما ستترتب عن عنف تلقاه الفكر؛
-أفكار لن تمارس داخل توافق بين الملكات وإنما ستحمل بالعكس كل ملكة إلى أقصى حدود لاتوافقها مع الملكات الأخرى؛
-أفكار لن تنغلق في التعرف  وإنما تنفتح على لقاءات وتتحدد دائما في علاقة بالخارج؛
-أفكار لن تضطر إلى الصراع ضد الخطإ وإنما إلى الإنفلات من عدو أكثر حميمية وأكثر قوة من الخطإ" البلاهة؛
-أفكار ستتحدد في حركة التعلم وليس في نتيجة المعرفة، أفكار لن تترك لأي شخص ولا لأي سلطة إمكانية "طرح" أسئلة أو "تقديم" مشاكل(13).

من المهم أخذ الفكر في قوته وعنفه وعلاقته مع الخارج، فكل شيء عبارة عن التقاء وسط الكون، هناك حيث تتم الإلتقاءات والإرتباطات وما يُرغم على التفكير. لكن ما يتبقى هو مدى قدرتنا على الفعل وعلى تنظيم هذه الإلتقاءات، وعلى زعزعة المثال أو الصورة التي تثقل على الفكر، الوحش الضخم الجاثم عليه بتعبير جيل دولوز. تلك الصورة التي سماها دولوز، صورة دوغمائية أو مستقيمة الرأي، أو أرثودكسية أو صورة أخلاقية، صورة وحيدة عموما تكوّن المفترضات المسبقة الأكثر عمومية للفلسفة في مجموعها. والتي اعتبر نيتشه  ماهيتها أخلاقية، لأن الأخلاق وحدها قادرة على إقناعنا أن الفكر يمتلك طبيعة طيّبة، ويمتلك المفكّر إرادة طيبة، ويمكن للخير وحده أن يؤسس الملاءمة المفترضة بين الفكر والحقيقي(14). لكل هذا وجب التحرر من هذه الصورة الوثوقية للفكر، والتأكيد مع دولوز أن الناس في الواقع يفكرون بالنادر، وتحت تأثير صدمة، أكثر مما يفكرون باندفاع ذوق ما. فلا يكفي امتلاك مخيلة وعقل وفاهمة حتى نتمكن من التفكير، بل لابد من "دمغة هي دمغة الضرورة المطلقة، أي دمغة عنف أصلي يحدُثُ للفكر، غرابة، عداوة وحدها تُخرجه من ذهوله الطبيعي أو من إمكانيته الأبدية: مادام لا وجود إلا لا-إرادي، يثيره إكراه في الفكر، كان من الضروري بشكل مطلق أن يولد من الفجائي في العالم بواسطة الكسر"(15). ذلك أن الفجائي أو طارئ اللقاء هو الذي يضمن ضرورة ما يُرغم على التفكير(16).

وبالنسبة لحالتنا، فنحن أسرى التراث والتاريخ، خاضعين لقيم الماضي المباركة بشكل أبدي وعاجزين عن إنجاز "الكسر الحقيقي"(17). الشيء الذي يمنعنا من إبداع عناصر جديدة وعلاقات جديدة مع الذات والآخر، ومع الأرض والعالم، ويعوق حركاتنا وتنسيقاتنا واقتراناتنا وإقامتنا في الوسط. وهذا يحرمنا حقيقة من ملاقاة الواقع في حدثيته ودفقه، وكذا التفكير في هذه "القسوة العنيفة والدناءة والحماقة التي تضاعف مجرى العالم" بتعبير دولوز.

4- مفهوم الصيرورة  كتخفيف من ثقل الماضي والأمل في المستقبل

    يقول جيل دولوز:"ليست الصيرورة أبدا محاكاة ولا تقليدا لنموذج ولا تطابقا معه، ولو كان نموذج عدالة أو حقيقة"، ويزيد "إن الصيرورات تنتمي إلى الجغرافيا، إنها توجّهات واتجاهات، إنها مداخل ومخارج"(18). تفتحنا هذه الكلمات/الإشراقات حقا على إمكانية بناء تصور مغاير لمفهومي الزمان والمكان وعلاقة جديد بالحياة والوجود، لكنها تضعنا في حرج كبير حين نعلم أن الصيرورات تعمل في صمت تكاد تكون مُتعذرة الإدراك(19). ولرفع الحرج وتدليل صعوبة إدراك الصيرورة، نستأنس بتعريف دولوز التالي:"لا وجود، في الصيرورة، لماض ولا لمستقبل بل حتى لحاضر، لا وجود فيها لتاريخ. يتعلق الأمر في الصيرورة بالأحرى بالتصور العكسي: وليس بتراجع ولا بتقدم. أن يصير الشيء معناه أن يصير موجزا بشكل متزايد، وبسيطا بشكل متزايد، صحراء بشكل متزايد ويصبح عن طريق كل هذا معمرا انطلاقا من هذا الجانب بالذات. هذا هو ما يصعب تفسيره: إلى أي مدى يكون التطور العكسي هو بالفعل عكس التطور، ولكن أيضا عكس التراجع، التراجع إلى الطفولة، أو إلى عالم بدائي. أن يحصل التطور العكسي هو أن تحصل خطوة بسيطة واقتصادية وموجزة(20). يقدم دولوز أمثلة عن هذا التطور العكسي تخُص الملابس/الأناقة، الطبخ/طبخ فاقد الشهية، الحياة وحياة الحيوانات، والكتابة(21). يتعلق الأمر في التطور العكسي  بالفقدان والتخلي والإختزال والإختصار، وأن نكون "بين"، في الوسط، متجاورين، مؤمنين بأن الأشياء لا تبدأ في مزاولة الحياة إلا في الوسط(22)، آخذين الطريق سلفا، دون بداية ونهاية.

يجب التأكيد أخيرا، على أن الإقامة في الوسط ليست بالطبع وضعية مريحة، بل دعوة إلى العمل والكفاح، دعوة إلى التجريب وتجنب التأويل والإستيهام ما أمكن، لأن "عالم الإستيهامات عالم الماضي"، مسرح الحقد والشعور بالذنب(23). كما أن الإقامة في الوسط تستدعي "التنسيق"؛ أي العمل المشترك و"التعاطف" وتداخل الأجسام، ولا يهم هنا إن كان الأمر حبا أو كرها، فكل شيء عبارة عن التقاء وسط الكون، التقاء جيّد أو التقاء سيّء. ما يهم أكثر، هو تجنب "العدوة القذرة"/الحقد ضد الحياة، وتأكيد الحياة وإدراكها كمحايثة محضة، محايدة، في ما وراء الخير والشر(24)، والعمل على تحقيق رغبتنا الأخيرة: أن نصير أحرارا.

5- إعادة الإعتبار للجسد، وليس "العودة إلى النفس العميقة"

    تعبّر مقولة "العودة إلى النفس العميقة" عن إرادة تدبير ما يسميه فتحي المسكيني ب"الواقعة الروحية" للملة، وإعادة الإعتبار إلى تلك "الرعوية" التي تنظر إلى الأخلاق بوصفها "آدابا" رعوية لاستحقاق السعادة بواسطة "التقوى". وفي هذا المستوى، يظهر التوحيديون ككانط وهو يفكر بلا "جسد" أصلا(25)، إذ أن الغاية القصوى للتفلسف والتفكير ليس هو الإستمتاع بالحياة وتحصيل البهجة والفرح، ولكن تقدير واجب الإحترام. فبدلا من محبّة الحياة يأمرنا كانط باحترامها، وهذا الشعور هو اختراع توحيدي لم يعرفه اليونان. من هنا نفهم هوس كانط بالطابع "الأمري" للواجب بعامة. وهو في هذا المستوى توحيدي تماما. وبوجه ما إن الواجب عند التوحيديين، وكانط منهم، هو بديل أخلاقي فذّ عن السعادة اليونانية، يقول المسكيني(26)، بل وبديل أيضا عن مفهوم الفرح (السعادة) عند فريديريك نيتشه وباروخ سبينوزا(27). إن هذا "الواجب الأمري" الكانطي يتحول عند المسكيني إلى أخلاق باعتبارها مساحة الحرية بالنسبة لطبيعة البشر، وليس "حساسية مرضية للمنحط مع النية الخفية في الإنتقام من الحياة" كما يدركها نيتشه(28).

إن العودة إلى النفس العميقة هي طريقة مُبتكرة لإعادة الخضوع لواجبات وأوامر، وتشغيل قيم قديمة متداولة وجب استعمالها وطاعتها؛ إذ "لا يمكن لأي هوية أن تعمل في أفق روحي ما إذا لم تكن تملك شكلا معينا من الإلزام وفنا معينا من الإنضباط"(29). لكن يجب التنبيه إلى أن الفيلسوف بوصفه فيلسوفا يكف عن الطاعة، ويستبدل الحكمة القديمة بالقيادة، ويحطم القيم القديمة ويخلق القيم الجديدة، وأن كل عمله هو تشريعي بهذا المعنى(30).

إن مفاهيم الطاعة والإلزام والإنضباط هي علامات دالّة على مفعول السلطة في الذوات والجماعات ونجاح في تحميل المسؤوليات -يجب فقط انتظار عمل إرادة العقاب- ، كما أنها آلية مثالية لمراقبة  "المشهد الأخلاقي الجديد" المُهدد من طرف أولئك الذين لا يأبهون بالوصفات اللاهوتية أو الفقهية ولا ب"الثروة الأخلاقية" للملة، والذين يشكلون كائنات "تشخص" أمام العين المراقبة، ومن ثم تدخل في نطاق "المرئي" للسلطة(31). يؤكد الأستاذ المسكيني على صعوبة تحقيق أي تحرر أو انفلات لأي ’’كائن’’ من شبكة السلطة العمودية السارية المفعول في كل شبر من هويته العميقة: شبكة الأب/الحاكم/ الإله. ولان هذه الشبكة من شأنها أن تبسط سيادة مطلقة، لانهائية، غير قابلة للإستلاب ولا للإنقسام، فإن أي تفاوض معها سيكون تفاوضا حول نوع الطاعة التي ستفرضها فحسب. إن نوع التفاوض الوحيد الممكن داخل شبكة السلطة العميقة على أنفسنا هو تفاوض حول شروط تحول الخضوع إلى طاعة مشرفة(التشديد مني)(32).

لابد هنا من التمييز بين إرادة "الخضوع إلى طاعة مشرّفة"، وإرادة ركوب صيرورة فاعلة تمنح الجسد إمكانية تجريب ما يستطيعه ويقدر عليه. يفتحنا هذا التمييز على موقف فتحي المسكيني من الجيل الجديد، الذي يقول عنه أنه جيل آخر تماما: جيل بلا انتماء هووي جاهز. إنه لا ينتمي أصلا لا إلى الأمة (بالمعنى الحديث) ولا إلى الملة (بالمعنى الديني). جيل لا ينتمي إلا إلى جسمه الحيوي وأدوات بقائه التكنولوجية الفائقة: طاقته الشبابية المندفعة نحو استعمالات تقنية جدا للحياة وللقدرة على الحياة، والتي طمعت الدولة الأمة في تطويعها واستعمالها استعمالا "جماليا" لصالحه(33). لكن الأستاذ المسكيني لا يراهن على هذا "الجيل من المراهقين القادرين على الرفض الأخلاقي الواسع النطاق"، لأنه  "جيل متمرد على شبكة طويلة الأمد من الأعمدة الروحية التي شكلت إلى حد الآن ليس فقط جملة تقنيات الرجاء العميقة لأنفسنا، بل بخاصة جملة الأشكال العامة للتذوّت والتذويت التي بنينا عليها معنى ’’النفس’’ لدينا ومعنى ’’الهوية’’ البشرية ومعنى ’’الشخص’’ الفرد بعامة"(34).

مقابل التأكيد على انتماء هذا الجيل الجديد إلى "جسمه الحيوي وأدوات بقائه التكنولوجية الفائقة"، أدعو إلى إعادة الإعتبار للجسد، الشيء الذي سيغيّر لا محالة تصور هذا الجيل كليا للعالم والإنسان وكذا تصوره ل"الأخلاق" نفسها:

- فمن جهة العالم؛ من المفروض النظر إليه في بعده الفيزيائي، والتفكير فيه باعتباره مجالا محايثا مطلقا لا يخضع فكريا أو وجوديا لأي تعال(35).

- ومن جهة الإنسان؛ علينا تحديد ماهيته بالنظر إلى علاقات التأثير والتأثر التي يكون قادرا عليها، أي بمساحات قدرته على الفعل والإنفعال [كما يتحققان] في حدودهما القصوى وحدودهما الدنيا(36).

- أما من جهة الأخلاق؛ من الأجذر تمثّل تحديد باروخ سبينوزا للأخلاق كإيتيقا؛ أي كتركيبات سرعة وبطء، واستعداد للفعل والإنفعال يتحققان على بساط المحايثة، والإنصات لصيحاته القوية: إنكم لا تعرفوا ما أنتم قادرون عليه، حسنا كان أم قبيحا، إنكم لا تعرفون مسبقا ما الذي يستطيعه جسم ما أو نفس ما في تلاقيات [على بساط المحايثة]، مثل هذه أو توليف مثل هذا أو تركيبة مثل ذلك(37).

خاتمة   

    يرى الاستاذ فتحي المسكيني في الوجه البشري المكسب الاخلاقي الأكبر في تاريخ الإنسانية(38)، وأنا أرى من جهتي في الجسد كمكسب إيتيقي رهانا قويا ومتميّزا لتملك  الحاضر، شرط معرفته واللقاء به وتجريب ما يستطيعه ويقدر عليه. وبالتالي، فالأمر هنا لا يتعلق بمواصلة  الحديث عن "الإنكشاف" أو"التحجّب" بل بتحرير قوى الجسد وعواطفه وانفعالاته. كما لا يتعلق أيضا، بذلك التمجيد الكبير لمفهوم الحرية  ك"وصية أخيرة للأحياء" - فما عسى ’’العبد’’ أن يفعل بالحرية؟ - بل بالجهد الذي يجب أن يبذله كل فرد كي يصير حرا. لكن، ليس من الهيّن أن يصير الإنسان حرا، خاصة وأننا لا نحس بصيرورة غير الصيرورة الإرتكاسية، ونُعاين نصرها في كل مكان عن طريق التسلح ب"إرادة العدم"(39).

إن مزاولة الصيرورة تتطلب الإيمان بالزمن الحاضر، وبالتحوّل والحركة والهروب والسفر وإنجاز الترحل والترسم، وتحقيق الكسر الحقيقي الذي يضع حدا لوجود الماضي بتعبير سكوت فيتجيرالد. أما الدعوة إلى العودة والهجرة، فمرتبطة بالزمن الماضي والمستقبل(40)، ولها علاقة بذلك الشيء "القابل للسكن" أكان مصدرا للنفس أو وطنا أو فضاء حيويا أو إنسانية، كما لها علاقة قوية بالإستقرار والثبات والسكون. ولا مانع هنا من ممارسة حق الإنتظار الطويل والإكتفاء بالعيش ولو في ظل ظروف سيئة للغاية وفي درجات دنيا، مع الأمل في الهجرة إلى الإنسانية والرجاء في التمتع يوما ما ب"الحقوق" و"الديمقراطية"؟ .

الهوامش:

1- محمد الشيخ: نقد الحداثة في فكر نيتشه، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت-لبنان، الطبعة الاولى، 2008، ص369.

2- انظر مقالتي: "متاهات العودة إلى الماضي: محاولة في تأصيل الوجود مع العالم"، موقع أنفاس من أجل الثقافة والإنسان.

3- المفكر فتحي المسكيني...فاتحا لعصر طريف من التفكير الحر، حوار أجراه خالد كرونة وأ. خميّس الورتاني،

https://www.youtube.com/watch?v=U5aNz_lmILw&t=3559s

4- فتحي المسكيني: الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، الرباط-المغرب، الطبعة الأولى، 2013، ص23.

5- فتحي المسكيني: الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، ص62.

6- انظر: التحقيق1: كانط ودين العقول أو الرجاء بوسائل بشرية، فتحي المسكيني: الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، ص64.

7- فتحي المسكيني...فاتحا وراعيا للكينونة، حوار أجراه خالد كرونة وأ. خميّس الورتاني،

https://www.youtube.com/watch?v=O80K0_odE3M

يقول فتحي المسكيني:"أما دور الفلسفة فهو أنها لا يمكن أن تعمل اليوم إلا بوصفها "مترجمة": وتعني الترجمة المساهمة في توفير عمل مفهومي على خطوط المرور ما بين مختلف مشاريع العيش المتنافسة والمشروعة جميعا، سواء كانت علمانية أو دينية". ولكن بالحرص على تحقيق ضرب ما من التوافق الأخلاقي والقانوني القابل للكونية، ودون لعب دور العارف المتفوق بل المترجم الجيد. والهدف هو تملك المخزونات الدلالية الثاوية في اللغات الخاصة في ضوء معايير قابلة للكونية"، فتحي المسكيني: الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، ص86.

8- فريديريك نيتشه: العلم المرح، ترجمة وتقديم حسان بورقية-محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 1993، ص48.

9- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفسلفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة: عبد الحي أزرقان-أحمد العلمي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 1999، ص34.

10- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفسلفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص43.

11- ادريس شرود: متاهات العودة إلى الماضي، محاولة في تأصيل الوجود مع العالم، موقع أنفاس من أجل الثقافة والإنسان.

12- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفسلفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص34.

13- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفسلفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص35.

14- جيل دولوز: الإختلاف والتكرار، المنظمة العربية للترجمة، ترجمة وفاء شعبان، مراجعة د.جورج زيناتي، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2009، ص281.

15- جيل دولوز: الإختلاف والتكرار، ص268.

16- جيل دولوز: الإختلاف والتكرار، ص291 و292.

يقول دولوز:"يبدو أن مبدأ التواصل نفسه، وإن كان عنفا، يُبقي على شكل حسّ مشترك"، جيل دولوز: الإختلاف والتكرار، ص292.

17- يقول سكوت فيتزجيرالد:"لقد استخلصت من ذلك الفكرة القائلة إن أولئك الذين نجوا قد حققوا كسرا حقيقيا. إن معنى الكسر قوي جدا ولا علاقة له مع تكسير القيد حيث نكون على العموم مرغمين على الوقوع في قيد آخر أو الرجوع إلى القيد القديم. إلا أن الهروب الشهير تفسخ داخل فخ، حتى وإن كان الفخ يحتوي على بحار الجنوب، التي لم توجد إلا من أجل أولئك الذين يريدون الإبحار فيها أو رسمها. إن الكسر الحقيقي هو الأمر الذي يتم بشكل لا رجعة فيه، إنه شيء لا تسامح فيه، لأنه يضع حدا لوجود الماضي"، أنظر جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص53 و54.

18- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص10.

 يوضح دولوز طبيعة هذه الحركات بتقديم الأمثلة التالية:"هناك صيرورات امرأة تختلف عن النساء وعن ماضيهن ومستقبلهن، ويلزم على النساء الدخول في هذه الصيرورة كي يخرجن من ماضيهن ومستقبلهن، أي من تاريخهن. هناك صيرورة ثورية لا تشكل شيئا واحدا مع مستقبل الثورة، ولا تمر بالضرورة عبر المناضلين. وهناك صيرورة فيلسوف لا علاقة لها مع تاريخ الفلسفة، صيرورة تمر بالأحرى عبر أولئك الذين لا يتمكن تاريخ الفلسفة من تصنيفهم"، جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص10.

19- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص10.

20- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص40.

21- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص40 و41.

22- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص73.

23- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص64،

يقول دولوز:" جربوا، ولا تؤولوا أبدا. صوغوا برامج، ولا تستهيموا أبدا"، جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ص65.

24- جيل دولوز: المحايثة ... حياة، ترجمة نعيم جمال، موقع المعارف الحكمية-معهد الدراسات الدينية والفلسفية.

http://maarefhekmiya.org/

مقالة منشورة ضمن كتاب:Gilles Deleuze : Deux régimes de fous,Textes e Entretiens 1975-1995, Edition préparé par Davide Lapoujade, Les Editions de Minuit, 2003, Page 359.

"كل الإحالات على الماضي هي هووية...، الذي يعيش في الحاضر، يعيش بشكل حيوي"

فتحي المسكيني: من هو الفرد في الإسلام؟

https://www.youtube.com/watch?v=wPuBArl7J-8

25- فتحي المسكيني: الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، ص48.

26- الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، ص50،

يقول فتحي:"ينبه كانط إلى أن طبيعة بشرية استطاعت أن تبني فكرة ’’الواجب’’ المحض إزاء الإنسانية كافة هي جذيرة بالإحترام"، فتحي المسكيني: الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفسلفة المعاصرة، ص24.

27- يقول نيتشه:"لا أحد كانت له الشجاعة ليعرف الشيء النموذجي في الفرح بكل أشكاله (’’السعادة’’) على أنه إحساس بالقوة: لأن الفرح الذي يمنح القوة كان يعتبر لا أخلاقيا؛ لا أحد كانت له الشجاعة ليعتبر الفضيلة نتيجة اللأخلاقية (نتيجة إرادة القوة) نتيجة تخدم مصلحة النوع"، فريديريك نيتشه: إرادة القوة، محاولة لقلب كل القيم، ترجمة وتقديم محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 2011، ص178.

- يقول سبينوزا:"أعني بالفرح الإنفعال الذي تنتقل به النفس إلى كمل أعظم" باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت-لبنان، 2009، ص159.

28- فريديريك نيتشه: هذا هو الإنسان، ترجمه عن الألمانية علي مصباح، منشورات الجمل، ص162.

29- فتحي المسكيني: الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة، ص16.

30- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص118.

31- فتحي المسكيني: الهجرة إلى الإنسانية، ص27.

32- فتحي المسكيني: الهجرة إلى الإنسانية، ص31.

33- فتحي المسكيني: الهجرة إلى الإنسانية، ص 32.

34- فتحي المسكيني: الهجرة إلى الإنسانية، ص26.

35- عادل حدجامي: فلسفة جيل دولوز عن الوجود والإختلاف، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 2012، ص182.

36- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ترجمة عادل حدجامي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 2015، ص151.

37- جيل دولوز: سبينوزا، فلسفة عملية، ص152 و153.

38- فتحي المسكيني: الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، ص16 و17.

39- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 1993، ص84.

40- يقول فتحي:"... أن ابن خلدون رأى العصور الحديثة وهي تبدأ، لكنه، كان ملتفتا إلى الوراء. لم يكن يستطيع أن يرى ما سيحدث، ولم يكن متلفتا إلينا. والغريب والمشكل أن قرّاء التراث عانوا من نفس العقدة، فهم التفتوا إلى العصور القديمة، وهذه الآن نفس عقدة السلفيين، يعني يريد شخص أن يذهب إلى المستقبل وهو ينظر إلى الوراء كيف نعيد إليهم عيون المستقبل؛ هذا هو دور المفكر"، حوار مع فتحي المسكيني: رؤى في الثقافة، إعداد فتيحة السعيدي،

https://www.youtube.com/watch?v=OjvwieBIabM

يتساوى ابن خلدون وقرّاء التراث والسلفيين في ما يسميه فتحي المسكيني ب"الإلتفات إلى الوراء"، وهذا يعكس تقليد عريق لأبطال الملة في ’’تحويل الوجه’’ حتى لا تنظر العين إلى ’’الحالات المرضية للحاضر’’، والتركيز على العودة إلى الوراء والإستمتاع بالماضي. لكن نيتشه ينبهنا إلى أن "ذكرى أهم لحظات الماضي تقلل من أحاسيس المتعة الحالية"، فريديريك نيتشه: إرادة القوة، محاولة لقلب كل القيم، ترجمة وتقديم محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 2011، ص64. 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟