" الحجر الساقط من علِ كلما كان موضع بدء هبوطه أعلى كلما كانت شدة وقعه أقسى..."
ولد أبو البركات ابن ملكا البغدادي في البصرة سنة 1087 ميلادي وتوفي في بغداد سنة1165 ميلادي ولُقِّبَ بفيلسوف العراقيين وأوحد الزمان وعرفه عام الناس باسم البلدي وذلك لتخصصه المعمق في الفلسفة ومبالغته في الاهتمام بالعلوم التطبيقية والطب النفسي وبراعته في الابتكار في الفيزياء والميكانيكا والفلك.
تتلمذ في الطب على يد كبير الأطباء في زمانه الحسن سعيد ابن الحسين وكان واسع الاطلاع على مؤلفات جالينوس وطرقه في العلاج ولكنه سار في الطبيعيات ومابعدها على منهج أرسطو وابن سينا والفارابي.
لقد ترك لنا البغدادي مجموعة من المؤلفات الفلسفية وعدد من الرسائل العلمية يمكن إدراجها في باب الفلك مثل مقال في سبب ظهور الكواكب ليلا واختفائها نهارا وفي باب الطب مثل اختصار التشريح من كلام جالينوس وكتاب الأقرباذين ومقالة في الدواء الذي ألفه برشعثا ومقالة أمين الأرواح، وفي باب الفلسفة مثل رسالة في العقل وماهيته وكتاب النفس وكتاب التفسير وكتاب "المعتبر في الحكمة" الذي يعد الأكثر شهرة ويتكون من عدة أجزاء ويتناول فيه ظواهر الطبيعة مثل النبات والحيوان والإنسان والطبيعيات والإلهيات.
تميزت العمليات الطبية التي أجراها ابن ملكا البغدادي بالدقة في التشخيص والجرأة في المداواة والنجاعة في معالجة الأمور الوهمية بالطريقة النفسية واعتمد منهج جالينوس في مواضع وخالفه في مواضع كثيرة.
لقد تفجرت عبقرية ابن ملكا في العلوم الطبيعية التي أعلى من قيمتها بعد تعرضه للمنطق والماورائيات وتأكيده على أن "الطبيعيات هي الأشياء الواقعة تحت الحواس من أحوالها وما يصدر عنها من حركاتها وأفعالها وما يفعل ذلك فيها من قوى وذوات غير محسوسة" وإقراره بأن " العلوم الطبيعية هي العلوم الناظرة في هذه الأمور الطبيعية ، فهي الناظرة في كل متحرك وساكن"، وبالتالي يعتبر "العلم الطبيعي المنسوب إلى الطبيعة، الذي يساير المحسوسات من الحركات والتحركات والمتحركات" وجملة آثارها.
لقد تفطن أبو البركات البغدادي إلى أن تأثير الجاذبية الأرضية في حركة الأجسام والكواكب في الفضاء وأدرك بلغة عصر قوانين الحركة التي صاغها فيما بعد كل من غاليلي وديكارت ونيوتن بصورة وضاحة وهي مسألة السقوط الحر للجسم ومسألة السرعة والتسارع ومسألة الجذب والدفع ومسألة التأثير والتأثر.
لقد ربط ابن ملكا البغدادي بين علم الطبيعة وعلم الحركة ولكنه أضاف إلى النظر العقلي والاستدلال المنطقي اعتماد التجارب العينية والحساب الرياضي والهندسة وأسس بشكل مستقل علم الميكانيكا الذي يهتم بالسرعة في الزمن والتسارع في المكان وبالقوة من الجسم وكميتها من جهة الممانعة والاحتكاك.
لقد ميز ابن ملكا بين الحركة الطبيعية التي تكون تحت تأثير قوى الجاذبية الأرضية حيث يسعى كل جسم في طلب وضعه الطبيعي عند مركز الأرض والحركة القسرية التي تحدث نتيجة تعرض الجسم لمحرك خارجي يجبره على تغيير مكانه أو وضعه ، كما يميز في الحركة الطبيعية بين المناسب والمباين ويشير إلى وجود خاصية في الجسم الطبيعي تجعله يدافع على بقائه على حاله ويحافظ على موضعه الأصلي.
بعد ذلك يتطرق إلى ظاهرة التساقط الحر للأجسام ويشير إلى أن حركة الجسم تتزايد في السرعة كلما أمعن الجسم في هبوطه الحر بحيث أن تأثيره يشتد مع طول المسافة المقطوعة وينقص لما تكون المسافة قصيرة ويستخلص أن كمية الحركة تزداد في شدة تأثيرها بازدياد المسافة المقطوعة وتنقص بقصرها. اللافت للنظر أن ابن ملكا تحدث عن الهواء بوصفه الحيز الطبيعي وانتبه إلى السقوط في خط مستقيم ومقاومة الهواء لحركة الأجسام ونقض بذلك قول أرسطو حول تناسب سرعة سقوط الأجسام مع أثقالها.
يصرح في هذا السياق:" لو تحركت الأجسام في الخلاء لتساوت حركة الثقيل والخفيف والكبير والصغير، والمخروط المتحرك على رأسه الحاد والمخروط المتحرك على قاعدته الواسعة، في السرعة والبطء..."
بعد ذلك درس ابن ملكا علاقة الحركة بالزمان ورأى أنه كلما اشتدت القوة ازدادت السرعة وقصر الزمان واستنتج من ذلك إمكانية سلب الزمان في السرعة وليس في سلب الزمان أثناء قطع المسافة وبالتالي يكون قد قال بتناسب القوة مع تغير السرعة بالنسبة إلى الزمان واقترب من قانون تناسب القوة مع التسارع. لقد أدى اهتمامه بقانون السرعة التي تساوي المسافة مقسومة على الزمن إلى تناول بالتحليل ظاهرة سير العجلة واستنتج أن التسارع يساوى السرعة مقسومة على الزمن أي معدل تغير السرعة بالنسبة للزمان.
في مستوى ثالث تفطن ابن ملكا بشكل واضح لا لبس فيه الى أن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه ويبرهن على ذلك بوجود جسم في حالة توازن تحت تأثير قوتين متساويتين مقدارا متعاكستين اتجاها ويقدم مثال الحلقة المتجاذبة بين مصارعين بقوله:" إن الحلقة المتجاذبة بين المصارعين لكل واحد من المتجاذبين في جذبهما قوة مقاومة لقوة الآخر، وليس إذا غلب فجذبها نحوه يكون قد خلت من قوة جذب الآخر، بل تلك القوة موجودة مقهورة ، ولولاها لما احتاج الآخر إلى كل ذلك الجذب...". لقد حقق أبو البركات سبقا معرفيا في مجال الميكانيكا حينما وصف حركة الأجسام تحت تأثير الجاذبية ووضع نفسه ضمن عباقرة العالم في المجال الفيزيائي وأسهم بذلك دون أن يعي في قيام الثورة العلمية.
المرجع:
أبو البركات البغدادي، المعتبر في الحكمة الإلهية، دار ومكتبة بيبليون، طبعة 2011، 1038 صفحة.
كاتب فلسفي