أجراس العرس المستحيل - د.الحبيب النهدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

سُئِلُ مرّة كيف ينحت كيانه؟ أجاب: بالاعتدال في نزعة التملّك..
***
شعر بسعادة لا تُوصف بنقلته إلى قريّة ريفيّة تميّزت بهدوئها وبمناظرها الطبيعيّة الفاتنة، وما ترجاه وجده: ذلك أن هذا المكان مدعاة للتأمّل والتركيز ومساعد لإنجاز بحثه الجامعيّ بكلّ عزم وثبات. والأهم أنّه وجد نفسه يقيم علاقات مع أهلّها الذين حافظوا على قيمهم البدوية الصافية فأفاضوا عليه بكرم الضيافة واستطاع بالسكينة والاطمئنان اللتين هما أهم خصاله أن يترف كناسك زاهد متفرغ للكتابة بأحاسيس مرهفة فينساب قلمه معبرا عن افكاره بانتظام حيث أنّه في كل أسبوع يخيط حبكة الخواطر الذاتية.
وأحيانا كان فيما يكتب وصف دقيق لتفاصيل الحياة اليوميّة وما يصادفه من مواقف أو أحداث في هذه القرية ولم يكن ليترك الفرصة تمرّ دون تدوينها ولهذا التزم بينه وبين نفسه أن يستمر في التأليف ولا يكتفي بذلك بل قرر ان يبعث ما يكتبه من خواطر وتأملاّت شاردة تملّ شتات ذكرياته إلى ركن ثقافي ليتم نشرها في كل أسبوع. وكانت الغاية كما صرح لي بذلك ذات يوم أنّها طريقة من خلالها لا يقطع صلته بأناس عرفهم قبل نقلته وتمتنت علاقته بهم وحدثني عن صدى اقبال البعض منهم بشراء الجريدة للإطلاع على ما يكتب حتى لا تنقطع اخباره عنهم.

تمر الأيام رتيبة مرة مخلفة الغثيان المرّ ومرة أخرى هذيانا لكتابة مستحيلة وألم لا يكاد يفارقه فكان يغيب عن الأنظار متوهما أنّه بهذه الطّريقة يستطيع أن يتصدى لعراجين الخواء والقلق والعبث فإذا هو في سابقة غير معلنة فقد وقع شيء ما لم يكن منتظرا مثّل بالنسبة إلى "الغريب"–الذي سنسميه هكذا- صدمة استفاق عليها ليندفع للانغماس في حياة روحية بعيدة عن صخب الحياة اليومية ومعاناتها وكانت بالنسبة إليه مناسبة تشوف من خلالها حكما وأقوالا انبثقت عن نظر سديد. ذلك أنّه كان ينزع لحريته الشخصية وإلى التزامه كمدرس بمعارفه ودرسه في التربية المدنية دون غيرها كما أنّه يرى ان الخلاص الفردي ليس إلاّ مرحلة تقربه من الانسانية في أبعادها المتناقضة المتباعدة عن جوهر الحقيقة كالقذيفة المنطلقة.
ذات يوم ردّد كما كان دوما يردّد "أليس الصبح بقريب؟" فقد ملّ حصار حريّة الكلام ولم يرق له أن يضرب سور عن حريّة الانصات لألام المعذبين من الناس. وكان لم يتأثر حينها بمن احتاطوا منه ولم يمنحوه فرصة الالتحام بسكان القرية او راقبوه إن تقرب منهم. فكان يسترق ملاقاتهم. ولا ينسى عامة الناس فيسمع حكمهم ويدوّن شكواهم ومعاناتهم ويتألّم لآلامهم ويحبذ مناقشهم.
ها أنا أحدثكم ببعض ما دوّن وحكى لي من يومياته، خاصة في الأيام القليلة قبل موعد انتهاء اقامته التي اقتربت من العامين في هذه القرية والإعلان عن نقلته من جديد ولكن هذه المرة ستكون وجهته نحو العاصمة الصاخبة. هو مكره على الانتقال إليها حتى يتم اطروحة الدكتوراه ويكون قريبا من المكتبات، ولقد كان يجر أذيال الخيبة وهو مثقل بالقلق وبسعي منه طلبا للشفاء من تفاؤله المريض، وكان لهذا يحاول كسر الطوق بأن يخرج في نزهة تعود على القيام بها كلما كرهت نفسه نماذج من الناس كانوا متكالبين على اقصائه والنظر اليه نظرة الريبة والشك. فكان يأتى جبلا على أطراف القرية صاعدا إليه ليصوب نظره نزولا للقريّة كلّها، ولئن كانت له رغبة السمو ولو إلى حين ولو آل الأمر لجهد لا يُحتمل منه، فإن خياله يجنّح به قريبا من واقع متوحش.
1- في تلك النزهة الجبلية ظل متأمّلا بروج السماء. رأى طيورا تتماوج وتحوم في نفس المكان كأنّها ستنقض على جثة آماله التي تحطمت على صخور الذين لا آمال لهم سوى ان يراقبوا آماله ليرضى عليهم ساداتهم: هنا لا وجه للنذالة يطلّ من الزرقة وسلّم أمره لما قد يفاجئه.كانوا فيما مضى لا يكفّون عن سحرنا بقوانين التعجيز بل يعمدون إلى تهشّيم مرآة ذاته وصنع أباريق من صلصال الأكاذيب! ولكن ذهبت جهودهم أدراج الرياح.
نظر في منحدر شاهق كانت في أسفله عناقيد نباتات طفيليّة طوقت المكان كانت متشعبة ومتعانقة تشبه هواجسه التي تدلّت من فرط وقع غربته في الوجود.
صبح ومساء ولا أفول لنجمة يقينه وملل التكرار. فكيف لروح تشتاق العبارة أن تظلّ مذاقا بلا تعيّن تهرب من صخب القرية فإذا بها تقع فريسة صخب صمت الذات؟
جاء متجليّا في حالة استثنائية تثبت انتظام العبث وقد انتقى اندهاشا واعيا متينا له إمكان في التمكين لوجوديته المبعثرة في فوضى الناس.
هيّا انظروا للفرح مسمّرا على ألواح المستحيل والنتوءات تُعيق المسير والمعاني يقتلها سوء الفهم.
اليوم وكعادته اشتاق الجبل وهزّه الحنين ليلامس عمق الآفاق الرحبة مردّدا:
"عبثا لا ملل يذبل حركاتي لهم دنياهم ولي دنياي"
ثمّ أَطلّ في هوّة سحيقة في قعرها تنتهي إلى نقطة ثابتة سوداء: شبح ليس هو إلاّ رجالا اجتمعوا خفية لاحتساء الممنوعات والعربدة بتوحش كانوا كظلّه أينما حلّ رصدوه وكانت لديّه رغبة جانحة ليكشف عن من هم في أسفل السافلين؟: بالنسبة إليه كان يرى هذه الجماعة في شكل نقطة سواد ثابتة تلوح في هلوساته وعلى وقع قوة الريح في قمّة الجبل أحس بعبث موقوت لن يدعه يشتاق بارتياح لما سيكشفه المجهول والشرّ مقاول.لهذا قال:
-"من ليس لوجهه ماء لن يستفيق ليسقط في حفرة العمى. ويسترخي حماسه: ويل للماكرين من زلازل البسطاء الأبرياء"
تأمّلوا في هذه المشهدية ولا تتألموا نقطة ثابتة كأنها نقطة يراهم فيها كأنهم هم المتجمعون على صخبهم في هذه القريّة المريضة بتكاسلهم وتراخيهم عن فعل الواجب الذى هو حقنا نحن، أما انعزاله فكان يعتبره مملكته الخاصة يرتحل إليها مرحا يوم شردوه وتسلى بأحلامه الشاردة، وذكرياته تصوّب نبالها لاقتناص المستقبل من جحيم مفارقات لم يقبلها عقله.
"نقطة ثابتة.لك فيها أيّها العدم موطن قدم فحذار أن لا تتضح وتمتلئ بكلّ ما أريده عدما لك وقولا حيث لا كلام ولا سلام!"
"نقطة ثابتة والوقت موقوت والانتظار يطول والملل تطاير فمن أين يأتيني الياقوت؟ "
"لماذا لم يملّهم الملل أو يملّوه وكان صخبهم وتهيّجهم؟ آه لو عرفوا الصمت لانفجر عليهم من فوهة التركيز كالديناميت".
هنا في هذا الجبل الشامخ وقمة الاستماتة هل يقرّ له قرار وهل سيؤجل الطيران كي يستشفّ معاني بما هي انبثاق وبعث وغيث من جرح كينونته التي حاولوا اغتصابها بثقافة التهريج والتسطيح؟ وأليس له أن يستحضر معاول الشرود بما فيه الكفاية؟ وهل تدرب جيدا على فنّ قوّة الغوص في التيه. كان يحتاج استعارة شساعة الأفق حتى لا يهوي إلى الدرك الاسفل.
وهكذا هو حتّى إن هدأ واستكان استحضر تأمّلا صافيا كالزجاج بحثا عن سكينة في أن يأمل على الأقلّ بلا ألم
كانت كلّ ذلك بمثابة زوبعة في أتون ذاته. وتتالت الثواني والدقائق والساعات وقد عمّ بعد هذا سكون، فسمع ما يثير الانتباه في الجهة المقابلة من صخب الرجال صوت الحفير، وحراك كأنه الاحتفال بعمل دؤوب يقظة ذات محرومة من قوت فانتبه باحثا عن مصدره فإذا بي يرى أطفال في منحدر أسفل منه منهمكين في إزالة الأتربة والنبش بقوّة فيها بحثا عن شيء ما وتساءل عمّ يفعلون؟ فسعي للاقتراب منهم فلم يبالوا به، توقف وتوجّه إليهم بسؤال بصوت قويّ عم تبحثون بقرب هؤلاء القناصين لبراءة طفولة تشكو الجحيم؟ فواصلوا عملهم بلا انقطاع وما كان من طفلة صغيرة من بينهم إلاّ أن أجابته:
-" نبحث عن الحلزون ألم تر كم جمعنا منه في تلك الأكياس السوداء الموضوعة تحت تلك الشجرة!.انظر ألا ترى كم جمعنا ؟
- ما الغاية؟ هل تأكلونه؟
هنا ضحك كلّ الأطفال إلاّ الطفلة قالت :
- أبدا سنبيعه بدراهم معدودات ويقولون إنّه طعام شهي للبعض.
وتدخل طفل آخر :
- نحن لا يهمنا أين يذهب المهم ما نتسلمه من نقود جزاء تعبنا.
وسألهم :
- لكن ما هو مصدر الحلزون؟ وما فصيلته؟ وما قيمته حتى يكتسي هذه الأهميّة لدى من تبيعونه؟
هنا استيقظت الطفلة واستقامت وقالت بثقة في النفس:
- أتذكر أن معلمنا بيّن قيمة الحلزون والرماد في الدرس المخصص لإنسان ما قبل التاريخ. لقد قال لنا أنّها من بقايا إنسان العصور القديمة تعطينا فكرة عما كانت عليه الحياة فهذا المكان كانت تغمره المياه. وكان معلّمنا يأتينا بحفريات متحجرة منقوشة عليها آثار حلزون أو بعض صوره
استغرب من نباهة الطفلة فهي لم تكتف بأن تعطي معنى لعملها وإنما أن تقدّم له درسا في التاريخ.متعلمة تدمج بين النظري وتطبيقي في منطق ساحر.
ابتعد مذهولا من جواب حكيم وتابع عمل الأطفال بانتباه ولقد صرحوا له أنهم يعملون بالاشتراك ثمّ يتقاسمون فيما بعد ما يجمعونه من مال.
وقد أعجب بهذا الالتحام العفوي، وقد برز فيهم من يوّجه تفاعلهم لمزيد البذل و العمل من اجل جمع كمية معتبرة.
إنّه عمل يتطلب جهدا فليس سهلا أن يعثروا على حلزون له مواصفات خاصة لونه أسود وأبيض حيّ كحياتهم. لقد تركوا وراءهم حفرا عديدة كأنّما هي مقاطع جرافة. إنّ هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى المال كغيرهم فماذا عساهم يشترون به؟ هل يحتاجون إلى كتب يقرؤونها أم إلى لعبة بها يرفهون عن أنفسهم؟ ولكن في آخر الأمر كم سيقبضون؟ إنّها ولا شكّ دراهم معدودات. لقد حاول أن يتصفح الوجوه فرأى الطفلة أكثر إجهادا في العمل وفي عينيها معنى للحزن وخوف من المجهول.
فالتحق بهم عدوا وتجاسر على أن أسألها عن سرّ ذلك. هنا التفت إلي كلّ الأطفال وقال أحدهم :
- اتفقنا أن ما سنجمعه سيكون من نصيب شهرزاد، فهي في حاجة أكيدة إلى المال.
مما دفع الطفلة إلى الكلام والدموع تنهمر على وجنتيها :
- أريد أن أزور أبي المريض المقيم بالمستشفى، وأريد أن أحمل إليه هديّة تحفّف من آلامه وأمّي لم تصطحبني معها لأنّها لا تملك ثمن سفري.
هكذا تنكشف دوما مملكة أسرار الأطفال مقارنة بإجرام الكبار فتبيح بأعماقهم ما يدمع العين ففيهم ما تزال تكمن روح البداوة الساحرة وحلمهم الورديّ وطموحهم الواحد ومتوحدّ.
كما تلاحظون في بداية الأمر هذا الحدث كان عاديا لا يثير الانتباه، ولا يمكن لنشرات الاخبار ان تجعل منه مفتتح أخبارها ولكن الاهم أنّه مجرد أن نقترب منه حتّى تبين أن كلّ حركة تمتلئ قيمة ومعنى ولا نفهم ذلك إلاّ بتفكيك شبكة العلاقات بما هي متضمنة مقصدا. لكلّ الحركات والسكنات والأفعال والهمسات كلّها تحتوي مقصدا. والذي يحكمون عن الانسان بالظاهر عن بعد يظلمونهم وحتى وإن كانوا في القرب إذا لم ينظروا إلى بواطنهم.
نقطة ثابتة والعبث ممقوت والوقت موقوت وغيث الرؤى يتوارد على الذّهن. من هنا تروى الروح بالمشاعر الانسانية وعتق المعاني المعتمة أغنى عندي من كسب الياقوت. فالذي لا يستمد من علاقات الناس ومقاصدهم معنى فكأنّه سلب من الثمار لبّها واحتفظ بالقشور. نقطة ثابتة وجمرة ورماد وزمن موقوت تحمله الرموز ولكن أليست المعاني منغلقة على نفسها كالحلزون لا تبيح بأسرارها ولا تنطق؟ أليس الرماد علامة انتصار الإنسان على المستحيلات؟ فهي آثار اكتشافه للنار وبدء نحو مغامرته الوجودية. ها أنت تتيه في دروب العبثية باللغة والكلمات. هذه حالة من لم يفهم مقصد كتاباته ولا عرف ما به يعتلي عرش الكلمة وعمقها وسحرها.وقد ينتهي الحدث ولكن لا ينتهي فعله فينا.
2- لنعد إلى البدايات ولأوّل ما انبثق منها. إني ليس إلاّ ذلك الذي سألتها عن سبب البحث عن الحلزون وبيعه وهي التي أعلمتني بمرض أبيها وعن جمال تضامن أصدقائها وقد علمت بأنّي مقيما في قريتها في نطاق عملي ولقد عبرت لي عن حبها لي وها أني اليوم أغادرها وقد نشأ بيني وبينها تواصل روحي خفيّ مكننا من الشعور بالحنين إلى عدم انفصال عن هذه العروة الوثقى. ولقد كان التأثر بليغا.
لقد أعجبت شهرزاد بفيضي عليها وبما أبديته من اهتمام لمعاناتها وبما كتبته عنها في صحيفة يومية سبق ان تحصلت على نسخة منها فرغم عجزها عن فهم ما فهمت فإنّها كانت تعتبر نفسها بطلة رواية بدأت خيوط ضوئها تتغلغل في عتمة الوجود كيف توصلت إلى معرفة أنّ قد كتب عنها؟ ليس ذلك إلاّ بحكم المصادفة إنّ كان لها قانونا أو بحكم الغيب إن كان للطفولة حدس الأنبياء. إنّه لأمر محيّر أن يظلّ الكائن الإنساني محكوما بما لا يقدر على تفسيره برغم أنّه يحسّ بخيوط تحركه وتصدمه كحرقة شمس الصيف لقد أوحت لي أول مصافحة لأطفال أثناء جمع للحزون بكتابة قصة اسندت لها عنوان ''الحلزون والرماد'' وفي نفس الوقت تحويل الحدث لموضوع بحث علمي يمكن أن يحقق فيه ويكون دراسة حول سرّ تواصل موسم تجميع الحلزون وبيعه
هذا البحث الذي أراده متعلقا بموضوع بيئي استوجب الخروج لتحقيق الميداني المباشر وقد كان هذا السبب في التقاء شهرزاد مع صاحب الدكان الخاص بقبول ما تمّ تحصيله من حلزون لقد جاءت لبيع ما تيسر من الحلزون وجاء يستجلي سر الإقبال على هذا العمل.وهو لهذا السبب يريد أن ينقل لكم شيئا من ذلك ولو القليل.
في ذلك اليوم الحدث كان استقبله صاحب دكان شراء الحلزون وبيعه ببشاشة غير معهودة يتخيّر كلامه وكأنّ الأمر فيه أسرار لا يجوز إفشاءها أكياس مبعثرة وروائح قذرة نهر الطفلة كي تنتظر قليلا حتّى يجيب على أسئلتي وظلّت شهرزاد تسترق السمع وتحاول أن تتبين الرموز وهي تريد أن تكون شاهدة على فتق ما لا تفهمه ولا تقدر حتّى على تمثله أو أن تكون طرفا في معاينته وفهمه.
قلت لصاحب الدّكان :
- لقد شغلني أمر التجارة بالحلزون ولفت انتباهي إلى أنّه أصبح خاصية من خصائص هذه القرية فلماذا لا ينظم ويقام له مهرجان؟
ردّ صاحب الدكان بلغة مغايرة :
- لو نظرت إلى اللقلق كيف عشش في قمم الأشجار العالية وكيف يبيض ويفرّخ وطيرانه بالنهار والليل وحرسه لينابيع القرية لكان أفضل عمل تقدمه لنا؟ أنظر للقلق ورصانته في الطيران حتّى العواصف لا تهيج عندما يحلّق في السماء؟ ما شأنك والحلزون هذا عمل هامشي ومضجر فبعد كم من شهر يمكن أن أجمع ما أقدر على بيعه.
قلت :
- لم تفهمني أن كلّ المواضيع مجلبة للاستهزاء والسخرية لمن غايتهم لا تتجاوز تجميعهم للأموال أنظر لهذه الطفلة هل تعلم لماذا أتت تبيع الحلزون؟ ليس إلاّ لمعنى أرادت تأسيسه ورحمة مهداه لوالدها المريض.
هنا إنتبهت شهرزاد واقتربت قليلا فالأمر يهمها واسترسلت في الكلام :
- إن الحلزون يستمد قيمة ثمنه من ندرته ومن الجهود المبذول في تجميعه وهو بذلك يكتسي أهمية كبرى.
ردّ التاجر:
- ماذا يخفي الحلزون من رموز؟ إنّه لأمر مضحك أو أنّه ضرب من الجنون أن يأتيني شخص مثلك يمجد الحلزون ويريد أن يجري تحقيقا حوله هذا أمر مثير للغرابة.
هنا نطقت الطفلة وكأنّها ليس للبراءة إلاّ مدفعها الخاص ينقدح حقيقة كالصاعقة :
- الحلزون وحدة الربط بين أنظمة البيئة الكونية حيوان من فصيلة الرخويات يعيش في صدفة ويتغذى بالنباتات مثله مثل بقية الكائنات الحيّة الأخرى.
وما أن أرادت الطفلة أن تواصل كلامها حتّى تطاير غضب المتاجر شررا وهو يقول:
- حتّى أنت لديك رأي!.
وأمسكها بعنف ودفعها إلى خلف وهنا اندفعت لأحمي الطفلة من بطش المتاجر وأصدّه عن فعله المنكر وساعدها على الوقوف وعندما استوت شهرزاد قالت متجهة إلى المتاجر :
- هذا الحلزون ملك للطبيعة سوف أرده إلى مكانه الأصلي ليواصل حياته في أمن لا فائدة في هدية لأبي تقطع من لحم الكون.
وأجهشت بالبكاء وأنا أهدئ من روعها وانفلت في لمح البصر وفي تلك اللحظة تساءلت بيني وبين نفسهي ما ذنب تلك الطفلة وماذا يعنيه هو القلاقل أمّا المتاجر فقد اصطدم بردود فعل الطفلة كأنّما خرّت به الأرض أو خطفته الدهشة وانهار جالسا على الكرسي مغشيا عليه وأنا احاول ان اوقظه قال المتاجر :
- أرجوك لا طاقة لي بالحديث معك هنا نقطة بيع وشراء وليس متجر جدل وحوار وكما رأيت قد أفسدت عليّ عملي.
هنا خرجت وعقلي مشغولا بأمر الطفلة وبموضوع دراسته حول ''الحلزون والرماد'' وإنّه خلال سنتين من دراسته لخصائص القرية بيئيا لم يجد موضوعا أشدّ إثارة من موضوع حتّى أنّه عندما عاد إلى كتب التاريخ وجد أن اللوبيين الذين هم السكان الأصليون لشمال إفريقيا كان الحلزون طعامهم المفضل يطبخونه في الماء المغلي . كما تصنع منه القلائد وتتزين به المرأة أمّا لو عثرنا على أنواع خاصة منه لعرفنا العصر الجيولوجي الذي وجد فيه هذا في بعده التاريخي أما في بعده الرمزي فإن الحلزون يضرب المثل في الانطواء والعودة إلى الذات وكم من قصيد كتب حوله أو نصّ نثري أتخذه محملا لمعاني الشخصية وهو وسيلة لعبة شعبية تسمى "بِقيرِة وْلِيدِتْ" حيث هو أداة لتقويّة مملكة التوقع بحسب اكتساب مهارة الاحتساب وطريقتها أنّها تتكوّن من وجود متنافسين لكلّ واحد ست خانات ترسم على التراب وفي كلّ خانة تضم أربعة حلزونات وتنطلق اللعبة بعد أن يبدأ اللاعب الأول بأخذ حلزونات البيت الأول ويضع كلّ حلزون في خانة حتى يصل إلى أن تقابل حلزونا واحدة البيت المقابل فيأخذ كلّ ما يجد فيها وتحتسب بالنسبة إليه غنيمة وهكذا تتواصل اللعبة بما فيها من تشويق ومتعة إنّها لعبة الصيف بامتياز تقام طقوسها تحت ظلال الزياتين هنا اللعب كما لو كان هو روعة الدنيا وما فيها مرح وتوقع للانتصار بما لدى الإنسان من قدرة على الاحتساب.
وهو كذلك يجعل الإنسان يرى كلّ شيء بذاكرة مملوءة رموزا وحنينا، ولكن لماذا لا يستبطن غيره هذه الأبعاد ولا يقدر أن يفسر لهم ما يتذوقه ولا يقدر التعبير عنه بلغة تضيء بحجم معانيه وفي هذا يجب أن يفهم رمز الرماد فما هو إلاّ ابن النار ولهيبها وليس رمزا للشؤم والأحزان. فليس نارا من لا تخلف الرماد علامة سير وأثر لما ينقدح بركة.
عاد الغريب يجرّ أذيال الخيبة ولكن بينه وبين نفسه يقرّ بعظمة فكره ونظرته المختلفة إلى الأشياء فهو وإن كان يعيش في عتبة القرن الحادي والعشرين إلاّ أنّه ما زال ينظر إلى الكون وللطبيعة نظرة إحيائية ويحاول تأسيس ''وعي بيئي جديد'' مستأنسا بروح الإنسان. ها قد حان آخر يوم في إقامته وسيغادر الآن القرية مع أمّه التي كانت تؤانسه لقد جمع ما فيه الكفاية لصياغة بحثه حول "البيئة والسكان" ولكن هوامش الدراسة كانت أثرى باعتبار أنّها تجمع ذكريات حيّة مع الانصهار العفوي والتلقائي مع الناس وأمثال شعبية تستحق الدراسة ويكون موضوعها ''منزلة الطبيعة في المخيال الجماعي''.

3- وتمر الأيام ويبقى حدث الأطفال حدثا يحرك خياّلي لمزيد الفعل بالكلمات -بعد أن نشرت الجريدة هذه الحادثة في شكل خاطرة تحت عنوان "الحلزون والرماد"- وها هي اللحظة التي تنكشف فيها تلك العلاقة الحميمية التي أقامها مع هذه الطفلة شهرزاد التي علمتْ بأنها كانت موضوع أقصوصته وها أن الصدفة تجمعه به مرة أخرى وتكون من بين الذين سيودعونه وهو يجمع ادباشه ويستعد للرحيل مرافقا لأمّه التي كانت أنيسته في هذه الوحدة. لقد توهّم كلّ الذين حضروا المشهد أن كلّ نجوم تلك الليلة –ليلة مغادرتي للقرية التي كنت أعمل فيها- تجمعت في شهاب راصد واختطفت الأبصار أمّا الطفلة شهرزاد التي كانت من بين المودعات تحدثهم بأمره وأمر أمّه لقد طارا أمامها كأنّما يدّ خفية اجتثتهما من المكان هذه آخر الرواية. لكن لماذا الناس مولعون دوما بالنهايات؟
في ذلك اليوم كانت شهرزاد تريد مقابلة الغريب لتحكي له ما لم تقدر على مواصلته أمام التاجر ولكن ما إن وصلت قرب منزله حتّى رأت سيارة جاثمة وهو يصفف أثاثه في السيارة الراسية أمام المنزل فقد قرر الرحيل هنا نظرت شهرزاد بعين دامعة إلى نساء الحيّ يعانقن أم الغريب وبكاء خافت متقطع:
- ما أصعب الفراق.
نظر الغريب إلى النسوة وقال:
- ''ما أخيب العشرة لأنّ الفراق مرّ فليكن الإنسان قاسيا في بعض الأحيان مع نفسه''
قالت امرأة لم يتبين ملامحها :
- ''أمّك كانت ذاكرة تستوعب هزائمنا وآلامنا فنحن نرتاح للغريب فلن تبوح بأسرارنا''
لذلك يقولون أن الليل لم يأت ذلك اليوم وقد شاهدت الشهاب ورأت الغريب وأمّه قد طارا. والآن ستبدأ من النهايات البدايات وستنقل لنا شهرزاد قصّة أم الغريب.
اندهشت شهرزاد وأصابها ندم شديد لأنّ أمّ الغريب ستترك فراغا مهولا في نفوس أهل القرية والذي آلمها أكثر أنّها لم تكن تعلم أن الغريب هو الذي يتحدّث عنه الناس بإعجاب لشخصيته المرحة والمشبعة بالحكمة، ولقد ترك الحسرة في القلوب فلقد كان يفيض جمالية في علاقاته ويثير التساؤل حول سرّ بساطته العميقة معنى عكس البحر من سبح على شاطئه غرق ومن توغل في اعماقه نجا: فهو يعطي تبريرا لكلّ الأفعال حتّى يبرهن أنّ الإنسان ليس من الهيّن تحديد مقاصده . لقد اختصروا العبارة ''كان في التحامه بالبشر رائعا'' ولكن لم تكن أم الغريب إلاّ المرأة التي تعرفها شهرزاد جيّدا فكثيرا ما يتجمع النساء زرافات وكانت هي من بينهن تخزّن في ذاكرتها أقوى الأمثولات وأمتنها ترويها الجازية أم الغريب. لقد كانت تثير كلّ الحاضرات بطرافة التعبير وطريقة سردها بحيث تضفي خفّة على ما ثقل من المعاني
تتحول الأحداث وتنهض شهرزاد من الكمون إلى الحركة ومن الحضور إلى الفاعلية نسيت جمع الحلزون ولم تغوها النقود وانشدت للمعاني وأصرت على ملاحقة آثار الغريب الذي ترك في روحها ما يشبه الجذع الذي بدأ يخضرّ. تذكرت نشيدها في الأفق وعصيانها للنسيان وهل سيجد أبوها المريض أفضل هدية من هذه الروح اليقظة التي تترصد الحكمة بين الغرابة وسذاجة البشر؟ هل سيجد الأب المريض أحسن هدية من ابنة تعلمت كيف تأخذ موقفا وتنظر إلى الكون كأنّما ما زال بكرا كبراءتها؟ كذلك العقل جنون قاس ولكنه لذّة لا توصف في الاكتشافات ومطاردة سرّ ما يسر الروح.
ها الطفلة أتت مجملة بقلادة منظومة بالحلزون الذي كانت ستبيعه وتتوسطها نجمة رسم في وسطها طائر اللقلق. أنّى للقصة أن تنتهي والموكب قد بدأ الرحيل وبدأ الاحتفال ينسى تعب السفر وهول الطريق. هنا في زقاق الحيّ كانت ترى شهرزاد الخيمة والنخيل والجمال ترى الرمل مبسوطا كالذهب للكرم وحسن الضيافة مشهد يهزّ الروح للإنصات. أناس أكلوا الملح وشربوا الماء معا. ها قد تبدّل المكان أنّى للرمل أن لا يردّد قصّة البدو في إحياء الحياة وإجتثاث القحط.
ضرب من السحر أن يتبدل المكان غير المكان والزمان غير الزمان. وهنا تكمن قوّة الذاكرة الجماعية التي تبارك مقدس الحنين وتحول الأزمات عبرا وتحيك من الفرح كفنا للحزن. لا رقصة للأشباح والخرفات أمام مقدّس الرغبات في فنّ الحياة والكلام. لليل أن يمرر سواده ولكن أنّى للسواد أن يقوى أمام ضوء الاحتفال نساء الحيّ تمثلن المشهد وكانت شهرزاد هي الطفلة الوحيدة التي استطاعت أن تعيد للعدم وجودا. واستعادت ما قرأته أخيرا حول ما يجب إمساكه من مخزون شفوي لذاكرتنا. أمّا الجازية أمّ الغريب فما قدرت على البداية إلاّ بعد أن ألحت عليها الحاضرات بالكلام. لا صوت للريح ينبئ بعاصفة رمل ولا رحيق إلاّ رحيق الكلام وصمت الحجر. هبّوا إلى هنا يا أطفال البحر يا أيّها الرجال لا تنسوا نصيبكم من غيابكم فما أبعد النساء على فهمكم. ولكن لعلّ الجازية سترسم غيابكم حضورا فهي المرأة التي لا ترى نفسها إلاّ من خلال الرجل. ولقد قالت في مستهل الكلام لن أبدأ ما دام الرجال غائبين لعلّ الليل أخذهم لسوادكن ورحّلهم عدم صدق مشاعركن نحوهم. هذه الحكاية ليست إلاّ صوت الإرادتين لا حديث بعد ذلك ما لم يحضر الرجال كي يستعيدوا للمكان والزمان فحولتهما. أمّا نحن فسنرد لهم الأنوثة المجروحة لنفهم أن الصحراء استعادت حمقها وحان الوقت لنهيئ الرحم الذي ينجب الحكماء. لنتعلم تربية الروح على فنّ الكلام الذي يحررنا من صمت المذلة وكلما كان اللسان معدلا على العقل والقلب انساب عذوبة أنتن أرض هذه البلاد لا يهن منكن العزم إلاّ عندما لا تتلحفن بالمعاني كما يتلحف النخيل بالعراجين اسمحن أن أتحرر بإنصاتكن إليّ ودعن النّهار معبأ فيكن حتّى الليل. فما سأقوله ليس إلاّ سنبلات جرح وإرادة وفيض على الدرب يصبح سرابا أو غبارا أن نزعتن عنه لحاف التأويل. سأروي لكنّ قصة ''الحلزون والرماد'' لا يهمّ غموضها بل عليكن بالارتحال في ما وراء ما صرحت به : انظرن يا نساء المحفل إلى شهرزاد الطفلة كم هي رائعة جدّا ثمّ ركزن على قلادتها الجميلة من أين صنعت؟ هكذا كانت النساء تتجملن خاصة الأمازيغات كم هي فاتنة هذه الأصداف كأنّها المرجان أو الياقوت. هنا انسدت شهرزاد وكأنّ كل حدث يقصدها هي بالذات ويرتفع صوت الجازية ألا تلاحظن أن الجمال ليس في الحلزون ذاته وإنّما في فكرة نظمه وفي تلك النجمة التي تتوسط القلادة وهي صورة اللقلق كلّ ذلك أوحى إليّ بقصة ''الحلزون والرماد'' واسمحن لي القول أنّي لا أتحدث عن الرماد لأنّه يرمز إلى الشؤم ونذير خيبة في وقت لا حضور فيها للشمس. فما أفظع أن يذرى الرماد في العيون وما أسوأ رماد الروح والمشاعر والرؤى ثمّ اتجهت الجازية إلى شهرزاد قائلة : هل استعملت كلّ ما جمعت من الحلزون الذي كنت تنوي بيعه؟ ارتعشت شهرزاد واضطربت في الكلام ولم تعلم من أين لأمّ الغريب بهذه المعلومات؟ ولماذا هي الآن بطلة قصة بدأت تتضح معالمها؟ وأجابت: لا أبدا فالبعض صنعت منه هذه القلادة والبعض الآخر ألقيت به في ساحة المنزل الشاسعة لعلّه يبعث حيّا؟ قالت الجازية : هل الحلزون يموت ؟ قالت شهرزاد : لا أبدا وإنّما يختفي ويعود إلى صدفته لا يريد أن يرى ضوء الآخر المظلم ويريد أن يرى ظلّه المضئ .قالت للجازية وهي تخاطب المحفل : نعم هذه القصة لا تستغربن إنّها مستمدة من لحظتنا فحان الوقت الآن لانبعاث أمثولات جديدة من خلال إيحاء هذا الزمن انهضي يا شهرزاد الحبّ وحدثيهن ماذا شاهدت؟ لا تخجلي وتعلمي الكلام فقوّة شخصية الأنثى في عذوبة جاذبية كلامها حيث تحول جسدها كلمة تقول رغبته واشتهاءه وللحلزون أيضا ما يقول رموزه" لقد استغربت النساء هذا الكلام لأنّهن لم يتعودن عليه قامت شهرزاد وتكلمت وكأنّ كلّ حرف تطيّر لها من الخوف أو كأنّما كانت تعتقد أنّها توجهه إلى التاجر الذي نهرها بالأمس. فكم كان للكلام من قوّة وقدرة على علاج القهر الكامن فيها ثمّ قالت: لما كنت أعتقد أن الحلزون ميت وأن القبر هو صدفته لم أكن أعلم أبدا أن المطر سيبعث فيه الحياة من جديد كان مثل حبّة القمح نعم رأيت الحلزون يخرج من صدفته تأملته نشوانا وحده الذي لا يقدر أن ينحر نفسه قلقا من ذاته هنا قاطعتها امرأة لم نتبين ملامحها : إن لهذا لخطأ كم رأيت من حلزون مجرد من صدفته ينزلق على الأرض سكت الطفلة ولم تقدر على الردّ وتلفتت إلى الجازية كأنّما تتطلب منها ذلك. فقالت الجازية : كم هو بشع أن نرى حلزونا مجردا من صدفته يتلوى ككومة من العفونة عند ذلك استطاعت شهرزاد مواصلة كلامها : ولكن هل أن الحلزون تجرد من صدفته باختياره لعلّ ذلك بفعل فاعل إذ هو الإنسان الذي لا يحترم الطبيعة وتوازنها البيئي وبعد أن علمت انفتاح الحلزون وانغلاقه على نفسه رأيته رمزا أحسنت الجازية صنعا لماّ حدثتكن عنه لا مجد لنا إلاّ بالعودة للذات والانفتاح بما يثري ثرانا إنّي فخورة الآن لأنّي منحت لنفسي معاني كنت أنا في حاجة ماسّة إليها ولم أنسق كغيري في بيع الحلزون.
هكذا استفدت من سخاء الطبيعة فتجملت ليحملني التأمّل في حركتها حبلى بيقظة الفكر. قالت الجازية : لو لم تكن الصدفة ذات أسرار وهي مكان آمن وطهر ما عثر على البعض منها معبأ بالعسل ذي نكهة ما هي بالعسل وهكذا تستعيد القرية ذاكرتها ولمثلك يا شهرزاد الطفلة أناشيد المرح . فأنت ستكونين ذاكرة مستقبلنا ما دامت الجازية لها بيداغوجيا في تكوين المخيال الجماعي لذاكرتنا ومحركة للحظات الحالمة في قريتنا. لن نودع الرحيل سنكون نحن الرحيل نفسه واتجهت النساء إلى الولادة بما فيها من معان تتجاوز الولادة نفسها. وبقي في ذاكرته صدى أغنيّة كان متعودا على سماعها حيث كانت تأتيه تخترق الجدار "يا طير يا مسافر لقمرنا. متقولو ينزل ويزورنا". لم ينس تلك اللحظات الساحرة التي حركت مشاعره دون ردّة فعل.
"أجراس الأحزان: البحث في زمن الأعراس الضائعة"
ليلة اكتمال القمر والتحدّي
حينما ينعكس ضوء القمر على زهور شجر اللّوز لن يطول الليل. سيبدأ فيّ شعاع يبدّد الظلام..لم أعد أرى هنا مدى بعيدا بل صرت أراني جذعا نورانيّا طليقا في اللغة وهي تتراقص وتتعانق في الأوراق البيضاء: بالأمس أتيت موجوعا فبشرنى النور الذي بين حروفي والمعنى منفلق. أن محاصرة الشمس مازال مستحيلا.
بعضهم رأيتهم صادقين فأيقظوا فيّ الأمل وبعضهم يكذبون ليلقوا بي في القنوط لذلك لفظهم موجي فقلت لقلمي يكذبون في صدقهم الذي به لا أن تلقاني ذرة من ذرات هذا الكون وإن حاولوا أن يُتفهون.ففي لحظة التأمّل ألقى لذّة المعراج فأراهم في الحضيض ويصارحون
ثمّة في النفس جرس. ثمّة استفاقة تتورّد بين انكساراتي. اشتمّ رحيق حريق انتظاراتي. ستدّق الكلمات رنات انتصاراتي. ثمّة في النفس حسّ. رغم الرحيل. ثمّة تلمّس للعودة يا نفس سأكتبك أفكار إيحاء يتموج في الممكن المنفلت. ثمّة ما أشتاقه كالماء فيأتيني كالنار. وثمّة ما أشتاقه كالزهرة فيأتيني كالشوك.وثمة ما أشتهيه حكما متخفيّة بالغموض يا نفس نبعك لن يجفّ ووهجك لن يخف وشوقك لن يكف مادام الإنصات لجرس الامتلاء بما يثير الحركة. ثمّة ضياع وفوضى في بحثي عن انتظامي ونظامي ثمّة فرح في دموع عيني الحزينة. ثمّة كأس للحنين مهشم. يا نفس يحتاجك عقلي لأنزع عنك الهوس. احتاجك كي تثقلني بالجذب.للعواطف والمشاعر أحتاجك يقظة في مسارب الخراب والتمرد من أجل أن اعيش ودفقة سيّالة نورا في شرايين الظلام. احتاجك ليبقى لدي جرس للعبرة. للرحيل نحو العودة. احتاجك للكتابة فأنت ريشة ذاكرتي وتربة ثماري احتاجك كي لا أساق نحو رماد اغترابي وذوباني في وهم العدم إحساس وخز الإبر ثمّة في النفس عُرس.وأعراس.
فللجرس لغة الاحتراس ونبوءات وإعلان القرار وسلطة لكياني للجرس لغة بدء الحرب أو انتهائها أو موعد للمقدس يفتح الكتاب أو استعداد لاحتفال بالكنائس والمعابد أعيدوا إليّ نوارس الذكريات كلما سمعت الجرس يدّق أحسست بأنّي في عمق الحياة عمال من مناجم أو مصانع خارجون أو داخلون. فتيات المعامل وتلاميذ المدارس أبواب المنازل تفتح للاستقبال. وجرس الساعة يرنّ. استنهاضا وفتحا لإرادة أنت يا نفس مدينتي ثمّة فيك جرس كالقرص إذا لم يوقظك ويفتك .ليست هناك رائحة حياة انظري حتّى القطيع من الخرفان لتندفع في المسيرة ثمّة ما يثيرها.بالجرس. والثور والبقرة تتقدم بالجرس وصد سهام العين.
ثمّة في ما سأكتبه وما كتبته أجراس. ثمّة نداء رنّة للدهشة : أن تستنهض كلماتي رنة المعنى أن أحقق فعلا وحكاية ثمّة ما يدعوني أن أقيم وسط مديني جرس تمثال بإلزام التفكير الراغب والمرغوب جرس يردّ لنا سحر الاستفاقة. احتاجك يا جرس النفس رنّة للعودة والاحتفال أن تستجيب حواسي وتقبض على ما يغذّي نشاطي.
جرس النفس يحدّثني أن الكتابة الأولى لا تكفي صحيح أن اللغة تعجز عن التعبير عن انفعالاتي فاكتب بسيال الروح كما يجيء وأن الأسلوب ما هو في نظري إلاّ تخطف لحظة خاصة قد لا يتمثلها من يشاء ليس لديّ مسودات فالكتابة فيض للامتلاء قد احتاج الجرس لأنهض لتهذيب نصوصي. فقط أخشى قراصنة الأفكار هؤلاء الذين لا يقرؤون إلاّ أنفسهم وما كتبوا سوى ما احطتبوه في الليل. فمن لهم وله بفتنة الكلمات؟ من حقّي أن أعلن الآن لعنتي على قراصنة الأفكار اعترف بأنّي لا أملك كغيري حواس تجسّس على سارق عرق كتاب الهوامش لينثروها في مراكز لها دعايتها سأترك للزمن سلطته.
كلّ نصّ أو حكاية كتبتها تحتاج كتاب بلا نهاية أستطيع التوغل في تفاسير ما تمثلته. هذه الكتابة الجديدة عندي أن أكتب بدفقة سيال الروح أعيد للأشياء والحركات والأسماء مقاصدها. من حقّي أن أدافع عن نصوصي ستحتاجني اللغة وتستعير مني وهج الكتابة بالإحساس والمشاعر. هنا تأتي مشروعية دفاعي عما أكتب وليس هذه الاعترافات إلاّ موجّهة لمن يقرئنني من وراء اللغة فأسلوب يرتجف كارتجاف السفينة في الإعصار كتاباتي جرس وأعراس النفس ثمّة رناتي تتوزع بين الحروف تثبيت ما قد يفلت مني احتاج التوغل في تاريخي عبر ما أنشره.
وحدي أستطيع أن أفهم ما يفهمني به غيري ولكن وحدي أفهم ما يستطيع غيري أن يفسّرني فقط أن أمتلك حريتي بفهم الآخر لبعض اقتباساتي وأن يعرف الناس قيمة ما يحمله كلّ واحد منّا من مستقبل يحتاج للتحقق بما نحتاجه للاعتراف. وبعد هل أنجزت ما يجب أن ينجز؟ هل استحالت الاعترافات؟ وهل جرس النفس لا يرن إلاّ للنفس؟ إنّي ما امتلكت يوما إلاّ المحاولات تسليّة لما يرغبني في متابعة جمال العالم وليس الجرس إلاّ معيار شوق النفس لا طريق مثلى تحرّرنا سوى ما تكتبه بنا اللغة وتفجرّه منا اللغة لا قلم يمتلك سحره ما لم يمتلك حاسة لمس سيال الروح ودفق المشاعر في مسارب الصعوبات الكتابة انتقال وارتحال في جرح الاسم سرد لكائن يريد أن ينفلت من وجودنا لا أستطيع أن أتلمس العالم بذوق وحساسية إلاّ لما أرى للأشياء جذبها زهرة تشتم رحيقها وعيون تكفكف دموعها وأنهار تشرب مياهها وأشجار تضرب بجذورها في الأعماق. هل سبق وأن رأيتم للنصّ جرسا يوقظ النفس وكان منها كالموج؟
لنعانق دوما البياض بحبّ وعطش أكثر لنقيم جرسا لكلّ نفس كي يعلن العودة نحو الرحيل وتستفيق الكامن وتستعيد الأسماء أسماءها ونحتفل على رنّات الأجراس يقظة للضمير والوعي المتأصل في الوجود هنا الجرس كقرص الشفاء أو كأنّه خلق جديد، أي رنّة تجعل الإنسان يستعيد عافيته.

من مخطوط مكتوب منذ سنة 1998 رغم اللامعنى استرجعه كما هو بغموضه كمتاهة الحياة ونبل الضياع يكون بأن نسقط في معنى مشتت

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة