رحيل أحمد – قصة: أمينة شرادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

رحل الى المدينة التي طالما حلم بها. ترك أهله وقريته يبكون رحيله. رفض أن يلتفت الى الوراء حتى لا يحن الى دموع أمه المريضة ووهن والده.
عند كل ليلة، لما كانوا يتحلقون حول مائدة العشاء، التي لا تعرف من العشاء سوى بعض الزيتون الأسود وكسرة خبز يبست من كثرة الانتظار وصينية شاي. كان عند كل رشفة، يظل مطأطئ الرأس كأنه يحمل مشاكل الدنيا على كتفيه ويطلق آهات متتالية تفر من سجن صدره.
تسأله امه التي اقعدها المرض منذ مدة:
-مالك؟ قل بسم الله وكل. ستفرج ان شاء الله.
رفع اليها بصره وكله حزن وشفقة وحسرة. تنهد وهمس كأنه يخاف أن يسمعه أحد:
-الحل الوحيد هو الرحيل الى المدينة.

كان والده ساكن سكون الليل. استحال جسده الى هيكل عظمي، لا يضفي عليه صفة الآدمية سوى تلك الجلابية الرمادية الواسعة التي توحدت مع لون التراب من كثرة لبسها. وتستر ألام ضلوعه وجوع بطنه.
رفع أحمد بصره التائه والغاضب صوب والده وقال له بصوت حاد وحابل بالدموع:
-الوالد، لن أعيش دقيقة واحدة أخرى هنا. أريد حياة أخرى.
خرج كثور هائج، لا يدري أين المفر. رحل واهل قريته وبيته نيام. عندما وصل الى المدينة، أول ما فكر فيه هو زيارة صديق قديم له كان قد هاجر في يوم من الأيام ولم يعد. يعمل بإحدى شركات البناء.
أحمد لم ينل نصيبه من التعليم. لكنه يفقه بعض الكلمات التي تساعده على كتابة اسمه ورقم هاتفه وعنوان صديقه القديم.
اضطر والده إخراجه من المدرسة ليساعده في أعمال الأرض التي لا يمتلكها ورعي الأغنام التي لا يحق له أكل لحمها. كان يمتلك قوة جسده ورغبة جامحة في التغيير.
قال لصديقه القديم:
-سأبقى معك بعض الشهور ريثما أجد أية غرفة في أي مكان وأنتقل اليها.
-البيت بيتك يا صديقي. فقط أنبهك ان لا تتأخر عن موعد العمل في الوقت المحدد. لأن "المعلم "لا يحب من يتأخر.
انتفض فرحا وقبل رأس صديقه كأنه يعلن عن بداية جديدة في حياته وقال له:
-يعني قبلوني. سأعمل الى جانبك.
لن يعيش أحمد ابتداء من الآن حياة والده البئيسة المليئة بالاستغلال من طرف المشغل في الأرض. لن يصير عبدا لأي أحد. سيعمل وسيحرر نفسه من كل ضعف وخوف.
لم يستحمل احمد يوما لما رأى والده يقوم بكل الأشغال في بيت المشغل من كنس ومسح السيارة الى جانب الاشتغال بالأرض. لولا تدخل ونباهة والده لكان من ذوي السوابق. لأنه هدد مالك الأرض و البيت و الأغنام و الأرزاق وتوعده لما أهان والده أمامه. قال له والده يومها:
-لا دخل لك. هذه الإهانة هي التي جعلت منك رجلا طويلا عريضا.
التحق أحمد بعمله الجديد، يعمل بالبناء وساعدته في ذلك بنية جسده القوية. كان يحمل نشاطا غير عاديا مدفوعا بالانتقام من سنوات البؤس والاستغلال. كان يشتغل أكثر من الساعات المحددة طمعا في الزيادة في الأجر.
لاحظ رئيسه في الشركة ذلك، فأصبح يكلفه بمهام أخرى إضافية وهو لا يرفض. بما أنها ستدفع به الى الأمام، وسيحقق أحلامه المكبوتة والمؤجلة منذ كان في قريته.
يوم رحل عن قريته، كان والده يعيش لحظات عصيبة من العوز والوهن والمرض. كان يتمنى أن يظل ابنه الى جانبه ويحل محله. سمعه يغادر كسارق يحتمي بعباية الليل، خائفا أن تفضحه أشعة الشمس ووضح النهار. يومها امتلأت مقلتيه بالدموع وانهارت كشلال في صمت رهيب وأحدثت جداول حفرت عذاب وصبر السنين على ملامح وجهه.
مر شهر بسرعة شديدة، لا يعرف فمه سوى "حاضر المعلم". آخر الأسبوع سينال اول أجرة كافح من أجلها وضحى من أجلها. كان دائما يقول لصديقه القديم:
أكيد أن "المعلم "راضي عني.
أجابه صديقه بنوع من الاستفهام:
-لماذا؟
-لقد كنت أشتغل طول اليوم وحتى ساعة متأخرة من الليل. وأقوم بأشغال ليست من اختصاصي.
ابتسم صديقه كأنه عارف بقانون اللعبة:
-كان بإمكانك أن ترفض.
-أرفض؟ رزق هبط من السماء وأرفضه. إنك أبله ولم تتعلم شيئا رغم مكوثك بالمدينة مدة طويلة.
-اسمع يا صاحبي العزيز، أنت على نيتك. "المعلم" لا يعطي سوى ما وعدك به في البداية وما تقدمه له يعتبره تطوعا منك.
-انها فقط الغيرة يا صاحبي. أنت تغار لأنني في مدة قصيرة استطعت أن أصير اليد اليمنى "للمعلم". موعدنا غدا.
نام أحمد كطفل يحلم بلعبة العيد التي وعده بها والده. ابتسامة استوطنت ملامحه القاسية كأنها تجمل قساوة سنين خلت.
وقف العمال صفا طويلا ينتظرون أجرتهم. تقدم أحمد وحصل على أجرته. وقع بالاستلام وانطلق يسابق الريح حاضنا ظرفه بين ضلوعه خوفا من عيون متلصصة.
جاء المساء، حل ليل بارد ممزوج بنسمات صيفية. رمى أحمد بجسده على احدى الكراسي. مهموما، حزينا، باكيا. ينتظر صديقه القديم:
-ما بك أحمد. سأله بعينين جاحظتين.
- سأعود للقرية، هناك استغلال وهنا استغلال. لكن هناك سأريح والدي من استغلال دام دهرا من الزمن حتى يعيش قليلا من الحرية.
وهو يهم بمغادرة بيت صديقه القديم، التفت ورسم ابتسامة ساخرة على شفتيه وقال له:
- أجرتي لم تتغير. أنت بالفعل صديقي القديم. على الأقل انت لم تستغلني.
أمينة شرادي

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة