آلام الوداع تفتّق ملذّات المعاني - د.الحبيب النّهدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ذات آخر نهار، سبق الليل المغيب إليّ. فكنت ألمح السحب سوداء، دكناء، تراقصها الريح، فتعبث بها في اتجاهات شتّى منذرة بهطول المطر. كنت قد نزلت للتّو من مكتبتي الخاصة إلى الشارع اقتنص لحظة امتلاء وتوهج بعد أن كنت منكبا على مواجهة هول الورقات البيضاء ورعبها. محاولا حلّ اشكالية التوفيق بين وجوديّة متعالية وروحانيّة محايثة، ذلك أني عندما أصاب بدوار لولبيّ وأشعر بغثيان تفاهة اليومي الروتيني الذي كان يصادفني بين الفينة والأخرى.
اشتاق إليك صديقي ، فأقصدك، اطلب منك المواساة والجلوس في ورشتك، أراقبك عن قرب وأنت تلاطف الحديد أو آخذك في نزهة قصيرة كما كنّا قد تعودنا على ذلك، فتقبل دوما رغم ارهاق العمل الذي كان باديا على وجهك. كنت لا تطيل معي التجوال وبسرعة تودعني لتتركني للضياع الذي يؤول بي دوما لأجدد التأمّل لعلي أجد فيّ مسالك ملغمة هداي.

أيّها الرجل، أتيتك فوجدتك كما عهدتك، مختفيا في ورشتك، توقيا من رّيح قويّة، كادت تقتلع النوافذ. كنت تصهر الحديد وأمامك آلة قد أتلفت ولا مجال لإعادة صنعها من جديد، إذ لا يمكن ان نجد مثيلا لها في السوق. ثم حدّثتني عن رجائك في مطر يغسل نجاسة قد عمّت شوارعنا.
كان الملل يتطاير شذى في لغة هذياني، وغصّة في الحلق وانتظارات قاسية عطشى، عصيّة على الإنجاز. كنت أسعى أن ألطف من آلامك فتخبرني بأنك تقاوم مرضك بالتفاؤل والعمل وأنّك ستحتاج سفينة روحية ماردة، تشق عباب محيط مقدس نحو مملكة الله العلية، حيث لا وجع ولا ألم ولا حقد ولا ضغينة. وكنت لا تنفك تسألني وتعيد عليّ السؤال: متى سترتوي من حوض حكم الله الذوقية التي لا تزول؟ متى تستضيء بنور بركات شجرة الله القدسيّة؟ متى تعود إليك كلماتك البهيّة التي أخذوها يوم أن سرقوا كراساتك وكتبك قبل أسبوعين من الامتحان فأحبطت، واستصرخت الصواعق كي تسمّم سوادي كقطع الليل لتزول الظلمة وتنقشع الغمة؟ وكنت لا تتوقف يوما على أن تحدثني: كيف تصطدم طموحاتك بجهل مقيت. فأجيبك وأنا أتعالى على الجرح، وأتجاهل الخيبة: لا تيأسنّ وكن من ذوي العزم من الرسل. ولتعلمنّ يوما أيّ منقلب سينقلبون؟
هكذا أنت أيّها الرجل، أشدّ إليك الرحال، فإذا أنت تستقبلني دوما بعطفك وحنانك وتقول: حلّلت أهلا وسهلا، نحن نتعلم حبّ الله بمحبة عباده.

* * *
هنا قريتي جاثمة على عروشها، ضاربة عروقها في عمق الأرض. تشرق عند المغيب شموسنا وتغيب قطع الليل عند الشروق فكم رجّات عشنا! وكم حسرات اكتوينا! ولكن في المقابل، كم ابتهجنا بقوس قزح في يوم كئيب! هل يحقّ لي أيها الرجل أن احدثك عن مغامرتي الوجودية أو أن أروي لك حكاية حبّ متوحش. ألمّ بي. أو لم تر رقصاتي البهلوانية تحت سيول المطر لا تبق ولا تذر؟ وأنت كنت في هستيرية الضحك مني. وأنا اعلم أنّ ذاك بلسم شاف من وجع الحياة؟ فتخبرني دون تردّد أنك تجد متعة في كلامي وأنا أروي لك معزوفاتي الحزينة وتقول: ما تكسّرت الأحجار إلاّ من قسوة القلوب. فالفخار تحت الشمس قطرة ماء كافية لتفجره.
قلت لك بأني في قريتي أقاوم كلّ يوم سموما تتخلّل أحاسيسي الخمسة. وتشلّ إبداعاتي. حينها آتيك سائلا: أليس هو بدء نوح غريب وغرائب لم آخذ منها حذري؟ كنت هشا أمامك كالفراشة أمام لهيب النار فأصرخ يا روح البوح، فتقول واثقا مما اكتب: "ما الشهادة سوى أن نغمس دمائك في كتاباتك."
يا خفقة الروعة في أحرفي السيّالة. أفكلما طوقتني السخافات، وألم بي العبث، دعوتني أتتطهّر في الحريق؟ فتقول:" النار عدوّة الأقذار وتقضي على الصديد في الحديد".
يا سفن العزم. إنّي لا أقدر على العمل. ولا أستطيع فتح نوافذ اليقظة المشحونة بالشجاعة فتقول:" اضرب الحديد وهو ساخن. ولتشرع أشرعتك معانقا زرقة السماء".
يا أيام قريتي كم احتاج ظلال الزياتين كي استظل تحتها! وأية ذكرى أستطيع أن أسترجعها فأحيا بقوّة الحدس المبثوث في أثير الوجود! يا مرآة صبحي. هأنذا جئت على صفحات غدير مياه خريف أطلب ورقات صفراء ميتة، تحتاج دموعي، وشجرة عالية جرداء تسافر في أمواج حروفي.
يا أجدادي الرحّل كنتم تتقنون فلسفة الوداع، وتمنحون العزاء للمودّعين. فجعلكم أثناء الرحيل خزان الوحشة لأيام الفراق والحنين لنبع العشرة الحميمية التي لا تنقطع أواصلها في الغياب! لماذا تركتني قوافلكم وتركتموني أعدّ أنفاسي التي بقيت؟ فكيف أستطيع أن استردّ قول حقائقي الأزلية. وأمرّر كالتيار الجذّاب خيالاتي. وأستقبل الفجر. وتستقبلني الأمطار بماء الحياة لتغسل ما تبقى من أدران علقت بي. عسى الرّحيل يرجّني. والتحق بفرسانكم. وكنتم قد أخذتم معكم الأغاني البدوية المنعشة للروح؟
يا صدى الرعود تردّده الجبال. فيستجيب صدى قولك:" لا تأخذنك نشوة الرحيل. فالبداوة الفطرية حالة متأصّلة فيك. بل هي رجع صدى لتأمّلاتك وشكّك وحيرتك، وهذا الطقس السحريّ الذي همّ بك. امكث على النار، لإشعال فتيل ما لا يفسّر في أعماقك بما يفهم. ولا تركن لتفسر ما لا يفسر، ولكنّه يعاش، ولا يعبّر عنه، وهنا وفي عبراتك البليغة، أقول لك:" يا صديقي هنا سأمرّ. وسأحمل إليك من هذا القلب دواء للطيب الذي يضوع بحبّ الحياة. وليكن الرحيل قدرا والحنين عودا.

* * *
ها أنذا أيها الرجل، بعد أن ابتعدت عنك، وكنت أشق وحدي بطحاء الحيّ الشاسعة وقد ازدحمت بتموّجات أطفال كانوا يمرحون ركضا كأنّما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. ولم يمنعهم ذلك عن الرغبة في اللعب. فكنت تراهم مأخوذين بحركات منتظمة، منتشين في اندفاعاتهم. فكان لصراخهم صقلا لحناجرهم. ولكن أشلاء الفوضى التي كانت تبعثر أفكاري. جعلت صبري على التفكير يغوص في التربة كالجذوع. فكنت ترى انجذابي لتأمّل بلا أفق، مستفزا نفسي:" أنّى لي أن أتجدّد في صولاتي المكتنزة بالقلق الجاثم على دماغي. أو استطيع أن أجدث من الورقات البيضاء حلّ ينه مخاوفي كما كنت دوما تدفعني للكتابة؟
كلّ حركة من حركات الصبيان تحدث تفاعلا عجيبا بين أجسادهم. وتنساب ذبذبات طاقات أرواحهم في نظام عفوي يسيّرهم. فيحصل لهم مباشرة فهم سريع عبر سعيهم الدائم إلى تفكيك علاقاتهم حسب قانون اللعبة، بما فيها من براءة ماكرة، تشبه المبارزة في إتقان معاول صنعة الذكاء. وذلك بغاية تجنب تسلطيّة الكبار الذين يترصّدونهم.
وهنا استفاقت فيّ نشوة روحي. واستمتعت بفيض الأنوار وهي تنبعث من بين كثبان السحاب. وقد بدأت تتلألأ. وتخترق جدار صمتي. ولكن ما للكلمات تريد أن تصرخ فيّ، عندما أريد عقالها. وتهجرني حتى لا استطيع التعبير عنها؟ لا شكّ أنّها كانت بمثابة حقائق كالسّوط تجلد حلمي المثقل بتوق الرحيل نحو المجهول.

الآن وقد تبدّد المغيب. ولم تعد الشمس قرصا من النار. ها نحن نسير نحو انطفاء الضوء. فيعود الصبية إلى بيوتهم ويتركونني في مكان استوحش عليّ. حينئذ تداهمني ظلمة منبعثة من باطن الغرابة في هذه القرية التي أضاعت مفاتيحها. وتركت أبواب البيوت مفتوحة للغربان واللصوص والخفافيش ومصاصي دماء هم كما تقول أيها الرجل يتسللون إلينا عبر الشاشات التي أغلبها تفسد الحرث والنسل!
أيها الأطفال البؤساء. هل تركتمونني للمجهول، لأنّي لم أكن أعطي أهمية لحضوركم؟ فما شأني أنا بمن لم يتقنوا فنّ الحضور؟. ها هو القلق ينفلت من حبر القلم ويرفض أن يعطي هويته. ها هو يرفض أن يدلي باعترافاته. نعم له الحقّ في ذلك ما دمنا في قلب عاصفة لا تبشر بخير!
لقد تركتموني كي يتعالى بي التأمل في أبراج السماء. وأعرج من أجل أن أفتح مقاطع جديدة للكشف والإبداع. واشتاق في هذه اللحظة أن أدوّن بلغة الكون بعضا من لغة الأطفال، بما حدست. وما استبقيت شيئا. ومن خلف الغموض انفلت للعودة. فإذا المكان يتفقد الزمان. ويلفني الغموض. فادخل في ثنايا وأدغال، كأني كنت في حلم. حيث صادفني شخص غريب كان لا يوضح هويته في القرية. ولكنه فضوليّ. كان يريد أن يتحدث معي. فقلت له:" أنا مستعجل فلي ما أكتبه". توقف. وقال:" ما تكتب؟ ما لا أريد أن أكتبه." فقلت:" كيف؟ ثم سألني –الغريب- ولكن أيها الرجل المنفلت ما هي لغتك وما منطقها؟ لتسمح لنا أن نكشف عن رموز أسرار ما دونت. ولا تجعلها طيّ النسيان. فنحن نعرف أنّك لن ترسلها إلى أحد. هنا قلت :
- تابع ما كتبت. ولكن أعلمك أن أعزّ لحظة هي التي تسبق الكتابة. هي لحظة التوليد والارهاصات والصمت والتركيز.
- يقول الغريب: هل تسمح لي بورقاتك لأقرأها قلت له لترافقني حتى بيتي. أسلمك بعضا منها. ولما همّ يتبعني. كنت مجبرا أن أدخل لأخذ الأوراق. وأسلمها له دون تردّد قائلا:
- تفضل هذه ورقات اودعت فيها ما لا استطيع أن اكتمه هي هديّة مني إليك.
- هل تسمح بنشرها؟
- لك الحريّة في ذلك افعل بها ما تشاء. مزّقها أن شئت.
- هل تسمح لي بقراءتها عليك الآن
- ولم ذلك؟
- لعلك تعدل عما كتبته بخافية روحك التي قد تجعل منك كائنا غير ما أنت عليه. ثم شرع الغريب في القراءة، وأنا استمع له في اندهاش. ولكم كنت سعيدا بذلك لأنّه بالفعل كان وقعها عليّ أعظم مما كان حين كنت أكتبها. وتجلّى صوته، كأنّما يخرج من غياهب الأرض:
" أيّها الساكنون في العتمة. أكتب إليكم رسالة الخروج من العقبة. أكتب إليكم بطاقة روحي لأجمع فيها ما أرجو أن أبلغه. ومبلغ طموحي أن تفهموا أن ما تواصلتم به مع أنفسكم هو ما يمكن أن تتواصلوا به مع نفسي. هي رسالة لمواعيد فتق قيود الأسر وفتح لمملكة البيان.
لا الريح تمحو خطواتي. ولا الليل يطفئ شمعاتي. ولا الزمن يغتال الطفولة فيّ. هي التي تملؤني بمباهج ما رأيت.
أكتب إليكم بحرّ أشواقي. فأذهبوا عميقا في محيط عجائبي. ستشعرون بالأمان. هذه طريقة جديدة في أشكال الكتابة. أكتب فيها إليكم بحميميّة المحبّ، كي تكتشفوا ألوان الحياة في عيون الكلمات. فتقتلعون الكره من جذوره. فلا تجتثوا من كلماتي لبّها، كي تطمسوا رمزها فهي تحبّ الإبصار. وتناهض العمى. حقّا سأكون جذّابا بفن قراءتكم. وإنّي لا أريد أن أظلّ وحيدا في نصوصي. ولا أن أقيم داعيا لنفسي ونفسي تدعو الآخر كي ترى فيه صورتها.
يا عطاشى لا يرويكم إلاّ الضمأ، كي تزدادوا دوما رغبة في الارتواء! فماذا سأضيف في سجل الكلمات لو اكتفيتم بما يرويكم؟ هذه الرسالة تبوح لكم بأنّ هوس السؤال عرس نحتفل فيه بحداثة الجواب. وبأنّ الكمال محال. وبأن ما كتبته سابقا يجب أن يحضر حتّى لا نفصل عن الآتي وبأني أقترب من مصاحبتكم.
أكتب إليكم في هذه اللحظة لأنظم فوضاي. وأنزع الستائر عن روعة طين لغتي. فلا تسلبوا عن لغتي اللغة. أو تغتالوا حارس مملكة تخيّلاتي. إنّي أنمو في لغة الديناميت. وتتدّفق مسيلات الروح وقد دقّ جرس الهوس أن أظلّ في عرس الدهشة، وسبق النفس سيكون في الغوص لعلّي اختلس معنى على الورق ورسالتي أنّي لن أتنازل عن أسبقيّة البزوغ في أول النهار، لأحرق أجمل طاقة أملكها، كيّ أذوّب رصاص المعاني في أسطرها. وتتفجّر المشاعر زئبقا لمحرار قوّتكم في الفهم وإعادة التفسير.
أكتب إليكم عن مشاهد من سيرة مولع بعذوبة البحث عن الذات المختبئة في سموم الملل والضجر وفواجع الزّعزعات. ماذا ستفهمون مني عندما تقرؤون رسالتي؟ هل ستضحكون على آخر السخافات أم ستحملون الرسالة كالجمرة وتزيلون عنها الرماد؟
هذه رسالة استغاثة وفتق للمعاني قابلة أن تظلّ بلا قراءة. ولكن ستظل تدوّي في أعماقي وسأملك القوّة كي تبحث في مسيلات روحي. وستقتحم عليكم قلعة اعترافاتكم وفتق المعنى تواصلا وتواصي وسلوى من الأحزان وثقل تحمل الوجود.
أكتب إليكم لأمجد البساطة والتلقائيّة. وأحفظ تواصلي معكم. وأن بلغت المقصد رأيت للقول عمق الوصف وروعة التوق المشدود للمستقبل. وإنّها الرسالة التي تهب الهدوء لنفسي. وتخلق الحقّ للخلق وقد احترقت لهم طاقة تحقيقاتي من سيّالات الروح.
هيّا أيّها المتلقي تماسك. واجعل رغبتك تخترق ما تراه مسلوب المعنى. ونقّب عن صوتي بمعاول التفسير فلا شيء أدوم من الصبر على مغالبة نصّ يتكلم بحماس صاحبه وتطلعه إلى شكل من الكتابة. لا سبق لها. لعلها مغامرة تدشّن حداثتها بنفسها. فعد أيها المتلقي لنصوصي وشرّح جثتها. لتفهم أنّ سبب موتها أن ثبتت. أو مكنتها من الحياة بالبحث عن طرافتها وفرادتها ومجاهلها وقتها تفتق معانيها وتفتنك.
أكتب إليك أيها المتلقي، لنحاسب أنفسنا: هل انجلى غموض الوجود؟ هل عرفنا أنفسنا في العمق؟ هل وجدنا الدّواء في الدّاء، أم تداخل علينا الأعداء والسبل؟ هل طريق النفاذ لا يكون إلاّ بأن نحيا في الكتابة؟
أريد اليوم أن نضيف أنّ أكثر اللحظات قبضا على الحياة هي لحظات الإبداع. هذه هي رسالتي الإبداع وسيلة لتلاشي الخراب فاقتنص من سيالات الروح مقاطع لإبداع. ودع سخريّة من هم بلا إبداع. انهض في لبّ الليل وفي لهيب الجمر. ورتل أناشيد المشاعر ونضوج ثمار الصمود في عواصف التحطيم. هذه الرسالة انتهت وما أنهيت. سأخزّن لكم سيالات أخرى وسأبثها في مواعيدها ومع حبّي تقوى كلماتي. تعالوا لأحدثكم يا أصحاب الكلمة. لا يهمّ إن لم تفهموا هذه اللغة الواهمة الراجفة التي تأتي كما لو لم تكن سوى بقايا ريح لا تقدر على أن تقدر. تعالوا لأحدثكم عن لغة الصمت وكلّ أنواع الموت الخفيّ بين مشاعري التي لا يحتويها العالم وما فيه. معاني بداخلي مثل سنبلات مغروسة في تربة تحتاج إلى لغة الدم، سنة بعد سنة والمشاتل لا تخضرّ إلاّ على مخبرات القلب الذي يحتاج إلى النار والعبور إلى العبوة الناسفة لقلقي. تمر عبر العودة إلى ماء الروح الهادئ الذي تبعثه أمطار الذكريات الحميمية في ما رأيته كالسحر والوحي.
* * *
يا ضيق أفقي الرحب، ها أنّي أرسم الحروف أشكالا لسيّالات الروح. يا نوح الغربة عن ألمي يا موج الوجع ينتاب حركاتي. يا حميمية ما تعلقّ بما أوثقته ذاكرتي. يا كلّ ما أحتاجه تطهيرا بعد أن أوقف تذوّقي للمعاني حياتي. يا مسافرا في تفاصيل الرؤى لا تتكسّر على صخور البحر، فلا ربّان رأيت، ولا ريح يمكن أن تهيء لك انتصاراتي. لا أستطيع أن لا أقرّ ببداية ولع الحبّ بمكنوناتي ودفعي للكتابة دون سابق اعلام. كلّ ما في الأمر دعوتك إلى السفر في تفاصيل الحقيقة. كان كنافذة تطلّ على شرفة انتظاراتي وهو يسأل عن بداية انطلاقة حياتي الفعلية.
من أين جاءت العزيمة الآن؟ انّها لا تنبع سوى من إيمان بأن الذات تختزل قوّة الفعل منذ فتحت عينيها على زرقة السماء وشوقها إلى ما وراء الآفاق. ولنعلم جميعا أن كلّ نفس تحتاج أن تكتب سيرتها الذاتية. أن تؤرخ لسيّالاتها الروحية، كأنّما هي لغة وحي متأصلّة في عمق الحياة النابضة بالصفاء. وتنطلق الشرارة من نفسي، من هذه الحيرة المقلقة والطوق إلى الضوء والزرقة. كان هذا فرط مشاعري المتذبذة بين التشبث بالحياة بحكمة والضياع الموغّل في التنصّل من المسؤولية. وفي نومي تسبك الاحلام كأنّما أراها في الحقيقة. فكلما استفقت انتصرت عليها. لا أدري لماذا أنا دوما بهذه الطريقة وكيف سأنشد راحتي الروحية العميقة؟
* * *
وكذلك الحكايات لا تنتهي. وبداية الولوج في تفاصيلها ما زال وقته. ولا حديث عمّا حدث بل عمّا أجهض قبل حدوثه قصص مبتورة وصور باهتة وعاصفة لا تعصف. كم هي عقيمة تلك التي تهتزّ لها الأغصان ولا تطرب. ولا أدري بالضبط هل أنّ السنوات التي تمرّ تحتاج لقليل من الألم كي تثبت جدارتنا بالحياة. وأنّ الحروف تحتاج إلى البرق كي ترسم شامخة في السماوات. يا أيّها الإنسان العودة إلى درجة الصفر للبدايات الأولى أمر يثير فيّ فضول التجريب فلتسكت النبضات لنجرب من جديد الانطلاقة .
ماذا سأقول لمن تركته الأيام من غير أن يكتشف نفسه؟ انهض من أنقاض الرّدم. تعال. وصن شمسك. ولا تتمهل في إقامة عرس الكلمة التي تنبع من أعماقك وصولتك في الوجود.
ماذا سأقوله لمن ترك صفحات الكتب لسوس النسيان وأطفأ مصابيح القراءة وتاه في مزارات الضياع؟ لا تتردّد في العودة إلى نشيد الذكريات. هذه مزاميري وأقوالي إليك فيها ما في طعم الأتربة والسواد الذي يشعل ضوء الليل. لا شئ صالح لكي أراك في الحق لا تؤسس شأنك.
لو حادثتك يا نفس وأنت الآن على مشارف ضوء التجربة المريرة ماذا تستطيعين القول للسفينة التي تشقّ عباب بحر يترامى في أتون العمر. أنا روعة الآتي، وما غمست حقيقته في رغباتي. وهذه الانفعالات التي شرعت أشرعتها وتوغلت في سفر الحلم. ثمّ للكأس أمامك ندى ما، توهجّ الروح. ولكن لماذا هذه الألغاز تكتب وتتعيّن حروفا؟ لماذا تركت في الجرح جرحا وتهت مطوّقا بالسعد والحنين؟ وحتّى لو كانت سيرتي لا تحتويها العبارة فلماذا إذن تدّعي أنّ تكتبيها؟ وماذا أسست لمستقبل ما لا رأيت حاضرا. أين الرياضة الجسديّة الروحيّة ؟ وأين محيطات السباحة في ملكوت السماوات؟ أي هي عصافير حلمك التي لا تدع المساء حتّى تودع الشمس وتهيئ نفسها للرقص على تموّجات ضوء النجوم والقمر؟ أين الرحيل المشبع بحبّ الإطلاع والاكتشاف؟
لا تأسفي على ما فاتك وابدئي الآن اليقظة الأبدية والإصرار على الفعل بما في الذاكرة من نشوة الحياة. أنا مصممّ على النهضة بنفسي حركة تقلب الذات على الذات. لن ندع السفينة تتوقف عن المسير فأنا سفينة المستحيلات التي تحتاج لبركان حلم يتجسّد كرامات.
أمام مرايا البياض هنا رأيت وقرأت اعترافات في العينين وما أعظم ما يشعّان منهما كالرجّات. لنبدأ القصّة ونتهيء. لنستمع لمن سيقول وما يرجو سوى الصمت وإلاّ انفضّوا من حوله. ستستمع إليه السماء وستحبل الأرض أسراره. فالولادة لن تكون إلاّ من رحم التراب وأنا كما رأيتم أحتاج أن تصرخوا أن تثرثروا فلا احتاجكم وكم احتاجكم. كم للحبّ من سحر يحتاج إلى الحرقة كي يخضر. ماذا فعلت لنفسي؟
البحر يردّد ما يخالج الأعماق. وتجفلّ كلّ المعاني. وتقاوم البدايات. لا أرى سوى ذكرياتي الحيّة. عندما بدأت أحلم، كنت أريد أن أخيّل الواقع وأجمّله بما تشتهي نفسي. وها أنّي اليوم استفيق على ما فيّ من عطش للإبداع، وها أنّي متجه صوب عين الخلق والحق. فلا شئ يصارح عمقي سوى كلمات ردّدتها وأنا أغمس قلمي في حبر مصنوع من شقائق النعمان وأوشح على اللوح آيات الوهج الروحي المقدّس الذي يحنّ لأولى ما استقر فيّ من حكم. ها أنّي عائد إلى معبدي بين شجيرات معرّشة على ماء ينزّ من حكايات كنت أسمعها من أناس لم أكن أتبيّن ملامحهم ولكن كنت أدرك أن الليل منحهم بوح الكلام وطهّرتهم النار من أقذار الأشباح و قد جعل ما يتقوّل فيه ينسى بالنهار.كنت أحتاج للريح كي أنثر حبات الكلام في الآفاق الرحبة وأخضب النهار.
نظام الأشياء لا يستقيم وحيرتي لا تجود عليّ إلاّ بما يفسّر، فتزيد آلامي، وكآبة ترسم على وجه ما لا يفسّر فتزيد من آمالي. فمن يخلصّني من ضيق أنفاسي وأتعابي، فأنا محتاجك ولا أقدر على أن أمدّ خطواتي إلاّ بنظرة مغناطيسك المطهّر من أدراني وتمكيني على وجه هذه الأرض ثماري الفعل المنجز لمقاصدي.
أنظري يا ذاتي كلّ هائم في مخيّلتي، والعزم فاتر في عزمي، والإرادة مكبلة بما أطلبه من مستحيل، والبخل كأنّما زرع في شراييني. لماذا لا تبكي يا نفسي حتّى يصعّد مني القلق كجرح مؤلم. فيحسّسني بوجودي الذي ما وجد وجوده."
* * *
وعلى ضوء خافت آت من العمود الكهربائي بالشارع لم يتوقف الغريب، وهو يقرأ علي الورقات لقد كان للغريب في آخر هذا النهار موعدا مع الرسالة الخلاقة في فتق المعاني وقد ملأني روعة للتّسامي. ولا أعرف بعدها احساس الغريب، وهو يتمتم "نحن نعيش من الأموات أكثر مما نعيش مع الأحياء" وهو يودعني على آمل أن يلقاني غدا. ويعيد إليّ ورقاته حينها خطر في ذهني أن الغريب مثل الأطفال الذين أخذهم الحلم، وهو يعقل.فينسابون في القراءة تلذّذا وليس تعقلا وأما أنا فسأمنح العقل طلاقة الحلم حتّى يهيم في سماء الإبداع، استجابة لما رأيت من غموض. وعلمت بأن النجوم والكواكب فقط، يحدثان تأثيرا عميقا على مشاعرنا. وما أصعب البحث عن الاستقرار في قلب التحوّل. ألا فلتنهض فينا الحقائق ولا نخرسها. ولتتجرّح أعيننا بوهج الحقيقة حتّى تغدو عصيّة على النّسيان.
كتب هذا النصّ في جملته منذ 1998 وأعيد تحيينه
د.الحبيب النهدي
تونس

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة