ضيفة المقهى – قصة: الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

انتظرت قدومها طويلا، وحين أتت بسنواتها الأربعين كانت ضاجة بالحياة والأنوثة، مفعمة بالأمل، مقبلة على المرح المتفلت من بين الأصابع، تلهج بالفرح الذي تلحظه عيناها السابحتان في لجج من الخيلاء من وراء الغيوم الداكنة. لم تعد تحفل للحزن واليأس، ولا بمشاهد الدم المتناثر والدمار والخراب.
تحدق في شاشة جوالها، تتصفح الفايسبوك وتكتفي بقراءة العناوين دون الغوص في التفاصيل، مملة صارت تلك الأشياء في حياتها، لا ترغب في الغوص بين تلافيف الأخبار ولا أن تتوه بين ثناياها. تكره التحليل والعمق. حسبها أنها ترمق الصور بعينين طافحتين بالأمل والتفاؤل. تحضن الحياة تماما كما تحضن أم رضيعها حبا وعطفا وخوفا.

تذكر تفاصيل آخر خبر قرأته في ذلك المساء الموحش القاسي القاتم. جاءها النبأ مرفقا بالصور، فليس الخبر كالعيان. صورته، نعم صورته ببذلته العسكرية الأنيقة توشح كتفيه النجوم الثلاث المتلألئة، غاصت يومها في التفاصيل حتى كادت تغرق، تناثرت دموعها لتطفئ لظى روحها. كم ذرفت ذلك المساء الجاف من دموع، ذرفتها حرّى كمدا على هذا المغدور، سكبتها على وطن تنزف جراحاته من كل مسام جسده، ويقف أبناؤه فاغري أفواههم مشدوهين منكسي رؤوسهم عجزا وضعفا وحياء، وطن يواجه بصدره العاري فوهات البنادق المحشوة برمله، لكنه لا يبكي ولا يتألم ولا يتأوه لأنه يعلم أنه لو انتفض لأطبق فكيه على الجميع يطحنهم بلا رحمة، وطن تسيل دماؤه لتروي هذه التربة السخية التي كلما آلمتها أيدي أبنائها أنبتت الزعتر والإكليل لتعطر الأرجاء ولتضوع من بين جنباتها الروائح الزكية.
حين جاءتني بعد أن طال انتظاري لها، كانت قد نزعت أردية الحزن، انتظرتْ حتى تتم عدتها وتخرج مستقبلة الحياة، متعطشة لروائح العطور والمساحيق. ظلت رموشها بلا كحل وأظافرها بلا طلاء أربعة أشهر كاملات، كادت تنسى خلالها واجهات المغازات والطرق المؤدية إليها. عندما خرجت بعد اكتمال عدتها كادت تتوه بين شوارع المدينة وأنهجها، كان وجهها خلالها شاحبا ذابلا. حين جاءتني كانت قد طلقت حياة الوحدة وحطمت الأقفال التي أوصدت الأبواب عليها.
قالت دون أن ترفع عينيها المثبتتين في قعر الفنجان تتأمل خطوط بقايا القهوة مثلما تفعل العرافات وقارئات الفناجين: "في هذا المقهى كنا نلتقي نحلم ونفرح، نتخاصم ونتصالح، نبني من أحلامنا قصورا ونملأ غرفها أثاثا وتحفا، ونسابق الزمن فنسبقه وننجب أبناء وبنات ونحتار لهم الأسماء. لكن كل ذلك امّحى برصاصة مجنونة قصفت عمره وعصفت بأحلامه وأحلامي. ما آلامني حقا أن كل الكاميرات المبثوثة على أبواب المغازات تعطلت حينها، كأن عمى مفاجئا قد أصابها. سكن الكون حينها فلم يعد يصغي إلا لقطرات الدم المتناثرة تصرخ الغوث الغوث، وتنهمر سيلا قانيا تحتضنه أرض هذا الوطن العطشى لترسم على الإسفلت صورة وجه القاتل وتخط اسمه ليراها كل من هب ودب". كانت تتكلم وتتألم وهي تقاوم العبرات التي تحجرت على مآقيها.
كم يلزمها من الصبر والجلد لتقوى على هذه الذكريات، وكم يلزمها من الفرح لتنسى هذا الكم الهائل من الأحزان والهموم، وكم يلزمها من مراهم لتغطي معالم هذا الشرخ المفتوح في روحها وتضمد هذه الجراح الغائرة، وكم يلزمها من الشجاعة لتسحب هذه المدية المغروزة إلى منتهاها في القلب.
حين جاءتني ليحدث هذا اللقاء الذي تأجل مرات عديدة كانت تريد أن تنسى، لكنها كلما حاولت التخلص من الألم وجدت نفسها مثخنة بالجراح، ولكما استفرغت من الحزن امتلأت به من جديد. يا لهذا العمر القائظ الأجرد. ترى إلى أين تسير بنا هذه المركبة المجنونة؟ وإلى أي مدى تطوح بنا هذه الأقدار؟
آلة التسجيل الموضوعة فوق الطاولة إلى جانب هاتفها الجوال وحقيبة يدها تلتقط كل كلمة، كل آهة، كل تنهيدة، تلتقط هفهفة شعرها وصوت ذوبان حبات السكر في الفنجان. ظللت صامتا لم أفه بكلمة، فما جدوى الكلام في مثل هذا المقام؟ وما نفع الكلام في مثل هذه المناسبات؟
ما كان لحديثها أن ينتهي. وقائع مثيرة ذكرتها، وأوجاع عنيفة حدثتني بها، وجراح غائرة فتحتها. باغتني سؤالها "أيقبل عقل سليم أن يكون مرتكب الجريمة معتوها؟". لم أحر جوابا. لم تنتظر مني أن أجيبها. أسعفتني كلماتها التي أضافتها "إذا كان معتوها كما يدّعون فلِمَ لمْ تكن الضحية غير الذي كنت أنتظره؟ ألأنه الوحيد الذي كان يرتدي زيه العسكري خلال ذلك المساء الذي تواعدنا فيه على اللقاء في هذا المكان؟"
صمتَتْ كأن صمما مفاجئا أصابها، وألقت ما بقي من قهوة في جوفها، وتلمظت وهي تجمع ما تناثر من دموعها وأحزانها واعترافاتها، ووقفت مادة يدها إليّ مودعة، ودنت مني وقالت في ما يشبه الهمس "لا تنسى متابعة نشرات الأخبار هذا المساء". وغادرتْ.
أحسست أنها أفرغت ما جعبتها ونزعت رداء الحزن وأَلْبَسَتْنِيهِ.
ظللت في ذلك المقهى أستلهم من حكايتها ما سيكون افتتاحية الجريدة التي أشتغل مراسلا لها إلى أن حل المساء.
وفجأة عم الصمت أرجاء المكان ليعلو صوت المذيع المنبعث من جهاز التلفزة وهو يتلو ما يلي "امرأة أربعينية تدهس بسيارتها أربعة معتوهين وتلوذ بالفرار، ومازال رجال الأمن يواصلون البحث عنها. ومازالت أسباب الحادث مجهولة".
مزقت الورقة التي حبرتها، ونهضت متثاقلا ثم نقدت النادل ثمن ما تناولنا وغادرت المقهى وخلفي ترتفع الأصوات بين مهلل ومستنكر، ليحتويني الشارع الطويل، وتلفني الظلمة التي بدأت تسري، وتصافح وجهي الكالح حبات مطر شهر سبتمبر المنعشة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة