الواجب. الواجب الذي يلزمني، هو تعلم الكتابة، إعادة تعلم الكتابة، الذي يلزمني هو نسيان كل النصوص، كل أشكال الرسم، وأن أعيد اكتشاف الرسم من جديد. قَلَّتِ، نَدُرت الأشياء التي تقتدر على خلق الدهشة فيّ، جَفَّ نهري، ومد توقفت السماء، مد سكتت، مد انقطع المددُ، نسيت، والنسيان مرض الرجال.
حدثٌ. حدثَ لثواني قصيرة، ما قبضتُ عليها إلا كما يُقبض على الماء، حدثَ أن نسيت اسمي، لقد أدهشني الأمر، أسعدني، خلق فيَّ نوعا من الانتشاء، ونوعا من العزاء وعبرت من خلالي في تلك اللحظة التي استحال القبض عليها، عبرت من خلالي انهار من الحرية، من التحرر، الوجود نفسه، عينه، الفكر، عبر من خلالي، لأكتب حكاية تلك اللحظة اللامتناهية من الوجود، عليّ أن اجلس أزلا، ويلزم لرسمها بالألفاظ مددا. أخذت اللحظة رغم قصرها تتسع، تتسع، تتسع، وكلما اتسعت تقازمت الالفاظ، أعياها إمساكها، ببهت الرسوم، والحروف، والحروف يتعذر عليها حمل الفكرة، الوجود.
تلك اللحظة القصيرة، حررتني من ثقل الإسم، من ثقل الذاكرة، من صخرة الآراء، من هول ما يقض الراحة، يلسع المضاجع، لقد كانت لحظة فرح خالص، لحظة دهشة تساوي عمرًا، من أجلها أستطيع، وفقط من أجلها، أن أسامح، أن أغفر للعالم.
لماذا أرسم. لماذا أرسم بأحرف من مداد، لماذا أكتب على ورقٍ، لماذا أكتب عن لحظة الحرية تلك، لماذا اسجنها في هذه الرسوم الباهتة، وكم أكره خط يدي، كم أكره الشكل الذي به أرسم الكلمات.
لماذا. إن اللحظة القصيرة من الحرية، اللحظة الواسعة من الفكر، اللحظة من اشراق الوجود بداخلي، حدثُ نسيان الإسم، التحرر من الذاكرة، من التاريخ، ومن الزمن، ليست شأنا خاصا، ليست شأنا شخصيا.
إني أكتب، إذن، نيابةً، أكتب بالنيابة عن الناسي، عن المتحررين إطلاقا من الذاكرة، بالنيابة عن المنسيين، المجانين، الناسين، المجهولين، والذين لا يملكون إلى رسم أفكارهم حروفًا سبيلا.
التحرر. التحرر من ثقل الوجود، من صخرة الإسم لوهلة قصيرة، الدخول في عرف هؤلاء الأحرار، ثم العودة إلى جبة الإسم، إلى ظلِّه، تحت ظل جاثوم الإسم، هذه العودة، هي ما يعطيني حق الكتابة، يكتب الذين يعيش الحدث، يكتب الذي ليس معنيا بالحياة، يكتب الذي لا يجيد القبض على العيش، والحر من هذه الاثقال لا يكتب أبدا، وأيُّ وما حاجته بالكتابة، الكتابة بهتان يحاول القبض على النور، أو فانوس صدءٌ يحاول امساك الضّيْ، يبرع الكُتاب يا رفيق في وصف الشيء الذي يسكن هناك، لكنهم ابدا لم يذهبوا، لم يعبروا، الى هذا، ذاك، الـ هناك.
إختبرتُ، افترضتُ إني فعلت، شعور الذي لا يحمل اسما، أو الذي نسي اسمه، لكني عدت، عدت إلى ما نسميه العادي، وكم هو بائس هذا العادي، كم هو ثقيل، فيه القبيلة والمناجل والبنادق، وثأرٌ لا يُسترجع، لا يعود، وحقد دفين، فيه مطالبة بكرم قديم، مأساة فكر الجميل، رد الجميل، الجميل المستحيل، هذا العادي مليء بعبء الخطيئة، فيه السر المازوشي القديم، وهل جن جنون الرجال إلا من عدم اقتدارهم على حمل هذا العادي الذي يحبل بكل هذه الاشياء، وهل جن جنونهم إلا طلبا للحرية.
العادي. العادي، يقبر، يقتل، ما يمكن أن يكون الإنسان في الإنسان، ما يمكن أن يكون الحياة الأصل، تجربة الرجل الأول أمام الشمس الأولى، أو أنه ليس بؤس الإنسان إلا من افتراضه هذه التجربة، إنها فكرة لها وجاهتها، لكن العادي هو الذي يقتل كل شيء، إنه التاريخ، الذاكرة، الزمن، العادي أب العادة، والعادة مفسدة بالإطلاق، وهذا شيء عرفه الرجال.
قد يكون النسيان، نعم، أعظم مرض يصيب الرجال، أعظم شر، قد يكون هذا تشخيص افلاطون، أن ينسى الرجل، معناه أن يجهل وقدر الرجال أنوار المعرفة، والنسيان خروج من هذا القدر، وحين ينسى الرجل يعاني، يألم، ذلك انه يتعلق بالعارض من الاشياء. قد تكون الحياة، تسكن العارض، لكنها بذلك تصبح هي نفسها عارضا، وهذا بؤس ما بعده بؤس، حين يتصرف الرجل إزاء الحياة باعتبارها عارضا، فإنه ينسى الحياة نفسها، إنها فكرة ضد نسيان افلاطون، ولكن، يظل النسيان هو مرض الرجال.
الحلم. الحلم المستحيل، الحلم الشعري، الرغبة المحزنة التي تراود الشعراء، في أن يكونوا منسيين، أن يكونوا بلا ذاكرة. يحمل الشعراء بين ضلوعهم أرواحا لطيفة، كقيثارة، ما يمسها الوجود إلا أخرجت الحانا، ما يمسها الفكر حتى تعزف الحان الحزن، تجد فيهم هذه الرغبة المستحيلة، والذي يغفل عنه الشاعر، انه لا يستطيع أن يعيش شاعراً ومنسيا، لن يستطيع أن يقول ما يقول، لأنه يفترض أن يكون بلا ذاكرة، منسيا ويحافظ عن قدرة التصريح بحمله المستحيل، وليس يتحقق له الأمر.
عودًا. الإسم وطن، إن الرغبة في امتلاك اسم، هي الرغبة نفسها في امتلاك وطن، إلى الإسم يسكن الشخص حين تتقاذفه أهوال الحياة ونوائب الدهر، آنذاك لا يبقى في صفه إلا اسمه، الإسم الوطن، المسكن، يقع امتلاك، الحصول، على اسم في عمق الداعي إلى الإجتماع البشري، الاسم يا رفيقُ قضية مدنية محضة، الإسم قضية سياسية في غاية الخطورة، ليس هذا فقط، قد تكون، بل هي كذلك، قضية لاهوتية-سياسية، السلطة هي امتلاك سلطة التسمية، إنها قضية، نكون أو لا نكون، بدءً من اسماء الشوارع والمدن، واسماء المحلات والمباني، ثم الأخطر اسماء الاشخاص.
ان تمتلك العائلة سلطة تسمية مولودها الجديد، تلك كل سلطة العائلة، ومن امتلاك، حيازة، هذا الحق، هذه القدرة، تنبع كل سلطتها، ووراء كل سلطة اسم، اسم أَوَلٌ تستمد منه السلطة مشروعيتها، ولاهوتيا، القدرة، على حيازة الأسماء، هي أفضلية الكائن، هي نفسها حيازة الشرف في مقابل باقي الكائنات، الموجودات، وحده الكائن البشري يستطيع أن يُسمي.
إن الإسم الذي يحمله شارع ما في مدينة ما هو الحقيقة التي يراد لها أن تكون ما يؤس المكان والإنسان على حد سواء، فكرة كل سلطة لتشرعن لنفسها عن طريق حقيقة يمثلها الإسم، بطريقة مسالمة، وعن طريق قوة ناعمة هي قوة ايمان الإنسان باسم المكان، والانخراط في الدفاع عن الفكرة التي يمثلها، إن كل سلطة في أساسها تقوم على امتلاك اسم ما، حيازته، وهو من شواغل ميكروفزياء السلطة، بدءً من سلطة العائلة في التسمية، وسلطة القبيلة في امتلاك اسم ما _ وفي حضارة القول الشعري فامتلاك القبيلة للسان شاعر هو نسه امتلاك اسم ينطق بقوة القبيلة وانتصارها الشعري، فترى مثل هذه الحضارة تجهد نفسها في استعراض فحولتها الشعرية، ان الطريق الأخرى التي لم تسلكها حضارة القول الشعري هي أن يقول امرؤ القيس اليوم أمر وغدا خمرا، عوض اليوم خمر وغدا أمر _ من هذه الاشكال البسيطة من السلطة إلى أي سلطة سلطة.
تحمل السلطة الناس على الإيمان بالاسم، والاعتقاد بحقيقته، فينخرط الكائن البشري البئيس في الدفاع عن حقيقة لا تمثله، وتنجح السلطة في هذا من عدة أبواب؛ باب المقدس وباب الخطيئة وباب القدر.
وكل سلطة اقتدرت على امتلاك المقدس فقد امتلكت بذلك وحازت أعظم قدرة، وامتلاك اسم المقدس هو امتلاك الوجود نفسه، والأكثر امتلاك المآل كذلك، ومتى انفلت المقدس حدث العنف، ومتى بدأت حقيقته في التفتت بدأت مظاهر العنف التي كانت باطنة تظهر وتطفو، وليس هذا الظهور سوى شكلا من اشكال عودة المكبوت، وتشد السلطة عضض المقدس بموضوعة الخطيئة، وجعل الناس يرزحون تحت عبء الخطيئة هو نفسه حاجتهم إلى المقدس الذي يحميهم ويطهرهم من الرجس وبالتالي حاجتهم الى السلطة التي يكون هذا المقدس ما يشرعن حقيقتها، وتحفظ كل سلطة مصالحها انطلاقا من فكرة القدر التي تصدر مباشرة عن الموضوعتين السابقتين، وتقضي بجعل الإنسان يؤمن أن قدر سيزيف هو إبلاغ الصخرة قمة الجبل لتتدحرج من جديد، بله وجوب تخيله سعيدا بقدره، وأنه يتحمله بشجاعة، وإذا كان سيزيف هو فكرة القدر التي تستخدمها السلطة فإن فكرة الخطيئة هي أوديب، إن أي كائن يرزح تحت الخطيئة، هو كائن ينخرط في الدفاع على حقائق ليست في مصلحته، إنه كما أوديب يفقأ عينه، ويحتمي بعماه، ويتنازل عن مصالحه الحقيقية، يتنازل عن حريته في الاختيار، ويقنع بصخرته التي أقسمت له ويقنع بعماه.
لا وجود لاسم موضوعيا، لا اسم موضوعي، كل اسم هو لبوس سلطة وحقيقة ما، وسؤال الإسم هو سؤال المكانة، سؤال العنف، قضية الأقليات، ومحرك السياسة، ووحده آدم وحده الانسان يمتلك حق التسمية، ومن يسمي الوجود يملكه، وأحلام سيطرة الانسان على الطبيعة، وليدة القدرة على إطلاق الأسماء، وسعيُ الإنسان إلى قلب الانطولوجيا، كذلك، وليد هذه القدرة، فما الفرق إذن بين القدرة على الخلق وبين القدرة على التسمية.
[...]
والهروب من الإسم، هروب من ثقل سلطة ما، سلطة القبيلة، سلطة التاريخ، الزمن، من سلطة اللاهوت، السياسة، هروب من تعب هذا الثقل، إن الإسم يكبر، يتسع، ويفرض صفاته على الكائن، الأكثر، يفرض ثقله كذلك على المكان، إن الإسم هو قضية الأقليات، قضية سكان الهامش، المنسيين، المغمورين، كل حرب تقوم من أجل، بسبب، إسم، يا رفيقُ، إن سلطة الإسم هي التي تحكم الوضع البشري، في مدنيته، وفي وجوده.