نَقْدُ البيداغوجيا التَّلْقِينِيَّةِ لدى أوليفيي روبول - محمد فرَّاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تشير البيداغوجيا التلقينية إلى تربية وتلقين المتعلمين مجموعة من المعارف والعلوم والفنون والقيم والمعلومات في سياق ضبطهم إياها، حيث تجعل من ضبط محتوى ومضامين المعرفة الغاية الأسمى من كل تعليم، حيث يركز الأستاذ المدرس على الجانب/البعد المعرفي في المتعلم ويقصي الجوانب الأخرى، ومن هنا تنطلق البيداغوجيا التلقينية أو كما عرفت في الأدبيات التربوية ببيداغوجيا المضامين أو المحتوى، وهي بالمناسبة بيداغوجيا تقليدية تلقينية، لأنها تنطلق من مسلمة/فرضية أساسية وهي أن عقل التلميذ صفحة بيضاء ومن ثم وجب ملؤه وشحذه بكمية من المعارف والعلوم الجاهزة، بدون مراعاة لتمثلاته الشخصية التي يكتسيها من المحيط الإجتماعي الذي يندرج منه، ومن ثم فهي تؤكد على قيمة وأهمية التلقين على حساب الإبداع، وذلك من خلال محاكاة المتعلم لسلطة النموذج السلوكي والتشبع بالعديد من القيم والمعايير والسنن والأعراف السائدة، بدون فحصها وتمحيصها لهذا يتم نعتها بالمقاربة التلقينية.

 وتجدر الإشارة هنا إلى أنه توجد العديد من الممارسات المهنية لبعض المدرسين -في جميع المواد التعليمية- لازالت تركز لنا على الجانب المعرفي والفكري للمتعلم، ويتم التركيز بالخصوص على المضامين والمحتويات المعرفية، وكأن رهان تدريس الفلسفة بالثانوي التأهيلي هو شحذ ذهن المتعلم بمنظومة من المعارف والأفكار والنظريات والمقاربات الفلسفية -التي أصبحت متجاوزة وتعرضت للكثير من النقود- فيركز الأستاذ /المدرس على سيرورتي إفهام تصور الفيلسوف وتذكير المتعلمين بحفظه وضبطه جيداً، من أجل استرجاعه أثناء المراقبة المستمرة أو الامتحان النهائي، وهكذا يتم ضمان نقطة كاملة في مادة الفلسفة وغيرها من المواد.

ما نلحظه هنا هو أن ما يميز المقاربة التلقينية هو أنها مقاربة تقليدية تركز على أسلوبي التلقين والاجترار والتكرار والاسترجاع، كما تركز على ملكة الذاكرة، بدل ملكة الفهم والإدراك والعقل، كما أن ما يميزها هو رفضها لكل إبداع وخلق وابتكار وتجديد وبحث ...

فماذا سننتظر من مادة الفلسفة في ضوء هذه البيداغوجيا التلقينية؟ سوى أن تتحول هذه المادة الفكرية والنقدية والإبداعية والتساؤلية إلى منظومة من الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات الفلسفية الغارقة في التجريد والغموض، والتي يكررها المتعلمون كالببغاوات، فتجدهم يكررون قولة أو كوجيطو رونيه ديكارت الشهير:  "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، دون إدراك عمقها الفكري والفلسفي، بل وكيف أسست للفلسفة الحديثة، وركن الحداثة، وأن هذه المقولة ما هي سوى صَدَى وَرَدُّ فِعْلٍ للثّوْرَةِ الكُوبِّيرْنِيكِيّةِ الشهيرة لسنة 1543م.

وما يهمنا هنا في حقيقة الأمر هو سعي الأستاذ /المدرس الحثيث إلى تلقين المتعلمين المنظومة المعرفية المثقلة التي تنتمي لتاريخ الفلسفة الضخم، وهي معارف ترنسندنتالية بمعناها المتعالي والعاجي، لم يساهم المتعلم في تكوينها وتكونها نتيجة هذه البيداغوجيا التي تعتمد التلقين.

هكذا يعتمد تعريف التلقين على تلك العقيدة المرتبطة به، أو المذهب الذي يتمّ تعليمه. لهذا تهدف البيداغوجيا الحقيقية إلى تكوين أفراد مسؤولين وواعين يفكرون بأنفسهم لأنفسهم مهما حدث ويحترمون الآخرين. بالنسبة إلى أوليفيي روبول، " فإن أي تعليم ينحرف عن هذه الأهداف هو "تعليم مضاد". ويضيف أن المدرس يواجه دائمًا خطر التأثير على طلابه إما لأنه ينخرط في الدعاية أو، على العكس من ذلك، لأنه يُشْعِرُهُمْ بالمَلَلِ من تَعْلِيمِهِم. " [1].

ولهذا نلحظ العديد من المتعلمين الذين يخلق لديهم هذا الأسلوب التلقيني العقيم في التدريس، الملل والرتابة والضَّجَرِ، لهذا تجدهم يعبرون عن تذمرهم وسوء فهمهم للمعارف الفلسفية بل وكيفية تطبيقها وتنزيلها على أرض الواقع.

التلقين: انحراف خطير عن التعليم.

يُمثّل التلقين انحرافًا خطيرًا عن مبادئ البيداغوجيا السليمة، حيث يتلاعب بالمعتقدات الراسخة لدى الأفراد ويستغلّها لتحقيق غاياته. ويتبدى ذلك جليًا في نوعين مُنْحَلَّيْنِ من التلقين:

التلقين الطائفي: يتّسم هذا النوع باستبدال تحيزات الفرد بأخرى جديدة، غالبًا ما تكون مُستوحاة من أيديولوجية القائد أو جماعة معينة. ويُستخدم العنف السيكولوجي بكثرة لتحقيق هذه الغاية، ممّا يُخضع الفرد ويُفقده القدرة على التفكير النقدي الذاتي.

" التلقين المُتفق مع الأيديولوجية السائدة: يُركّز هذا النوع على تعزيز التَّحَيُّزَاتِ الموجودة لدى الفرد بشكلٍ تدريجيّ وغير مُباشر، ممّا يجعله [أي المتعلم] أكثر عرضة للتأثر بالأفكار الأيديولوجية المغلوطة دون أن يُدرك ذلك." [2].

يسيء هذا النمط من التلقين إلى تدريس مادة الفلسفة، حيث قد يجعل منها مادة حَمَّالَةً لنزعة أيديولوجية معينة، بينما وما هو معلوم على هذه المادة الفكرية والنقدية والإبداعية، أنها مادة حيادية بإمتياز، ولا يمكن التركيز على فلسفة معينة وإهمال الأخرى، بل قد يؤدي سوء الفهم هذا إلى تقديم تصور مغلوط للفكرة الفلسفية دون أن يدرك المتعلم ذلك.

كما تؤدي البيداغوجيا التلقينية إلى تعريض الكثير من المعارف والأفكار والتصورات والآراء الفلسفية للإهمال والنسيان من طرف المتعلمين، وذلك نظراً لعدم وضوح معناها والفائدة المتوخاة منها.

" يُثير مصطلح "التلقين" تفكيراً غامضاً، حيث غالباً ما يقترن بالدعاية والتكييف السيكولوجي. لكن يجب أن نُدرك أن التلقين، هو قبل كل شيء،  شكل من أشكال التعليم. فما الذي يُميّز التعليم عن التلقين؟ هل هو القصدية؟ المحتوى؟ أم الطريقة؟ يتناول الكاتب هذه الأسئلة الثلاثة تباعاً، مُبيّناً نقاط القوة والضعف في كل إجابة. وتُتيح له هذه التحليلات فرصة مناقشة بعض المفاهيم الأساسية مثل: البروبغاندا، الحياد المدرسي، العلمانية، البيداغوجيا اللا توجيهية، إلى آخره، في الفقرة الثانية، نركز على دراسة التلقين من خلال ثلاث حالات جزئية ملموسة:

1-غسل الدماغ،

2-التربية الكلية في النظام الهتليري،

3-التعليم الراهن..." [3].

وما خلص إليه أوليفيي روبول من خلال هذه الدراسة الفلسفية التربوية العميقة هو أن من أسس ومرتكزات البيداغوجيا التلقينية هناك المفاهيم الأساسية الآتية:  

  • الدعاية: والغرض منها إستعمال المعارف بشكل مُغرض لغاية التأثير على آراء وتصورات المتعلمين ومعتقداتهم.
  • الحياد المدرسي: وهو مبدأ يُفيد بأنّ المؤسسات التعليمية يجب ألا تُروّج لأيّ عقيدة أو أيديولوجية أو نزعة معينة.
  • العلمانية: وهي تشير إلى مبدأ فصل الدين عن الدولة، بما في ذلك فصل التعليم الديني عن التعليم العام.
  • الأيديولوجية: منظومة من الأفكار والمبادئ والقيم والمعايير التي تُشكّل بنى النظام السياسي أو الإجتماعي أو التربوي المعين.
  • البيداغوجيا اللا توجيهية: نهج تربوي معاصر يُتيح للمتعلمين حرية التعلّم واكتشاف المعرفة بأنفسهم ولأنفسهم من خلال التعلم الذاتي، دون توجيه مُباشر من المدرس.

يخصص الجزء الثاني من النص لدراسة التلقين من خلال ثلاثة أمثلة ملموسة:

  • غسل الدماغ: عبر إستعمال مجموعة من التقنيات السيكولوجية المُضطربة لإجبار متعلم ما على تبني مجموعة ثم تحديدها مسبقاً من المعارف والمعتقدات أو السلوكيات والأفكار والنظريات المعينة.
  • "التعليم الكلي" في النظام النازي: وهو نظام تعليمي كان هدفه هو غرس الأيديولوجية النازية في المتعلمين الألمان منذ سِنِّ مُبَكِّرَةٍ، وذلك باستعمال مزيج من التلقين والدعاية والتدريب الرياضي، حيث كانت الغاية منه هو تجنيد المتعلمين مستقبلا من أجل الالتحاق بالثكنات العسكرية.
  • التعليم الراهن: وهو الآن مثار للنقاش حول إمكانية وجود التلقين في أنظمة التعليم الراهنة وكيفية تجاوزه، مُستكشفاً كيف يمكن لبعض الممارسات البيداغوجية وخيارات المناهج الدراسية والمقررات المدرسية أن تُعزّز بشكل غير مُباشر الأيديولوجيات السائدة، وهذا ما ينتقده وبشدة أوليفيي روبول.

            هكذا إذن، نفهم خطورة المقاربة التلقينية، التي قد تقدم لنا ترسانة من الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات الفلسفية الغارقة في التجريد والغموض، والتي قد لا تراعي بل ولا تخدم قدرات وكفايات المتعلمين، كما لا تستجيب لحاجاتهم، بل هناك بعض المدرسين/الأساتذة من يضفون القداسة على الأفكار المُجردة الفلسفية، ويعتبرونها أفكاراً مقدسة ويقينية غير قابلة لا للنقد والفحص والتمحيص والمساءلة والمراجعة والتجاوز، حيث نجد أن هذه الأفكار قد تتحول إلى سلطة أيديولوجية تطبق على المدرس ويطبقها على المتعلمين، ولهذا يجب على المدرس أن يتجاوز سلطة المقرر الدراسي، بل ويتجاوز المعارف الفلسفية والعلوم والنظريات والفنون والقيم والمعلومات الجاهزة.

      على سبيل الختم؛ ما كنا نتوخاه هنا هو النقود الموجهة للمقاربة التلقينية التي تحولت من شكل من أشكال التعليم السلبي إلى سلطة قاهرة تقتضي الامتثال والرضوخ، والتي تنعكس سلبا على السيرورة التعليمية التعلمية، حيث نركز على نموذج المتعلم المستوعب للمعارف السائدة والقابلة للحفظ والاسترجاع، كما يتم اعتبار أن هذه المحتويات والمضامين المعرفية عبارة عن حقائق ويقينيات مطلقة، فنسقط في هالة التقديس للمعارف، كما يصبح بموجبها المدرس هو المحتكر ويملك سلطة معرفية، إضافة إلى سيادة التلقين والدعاية والتدريب والأيديولوجيا والهيمنة والنمذجة وسيادة مشاعر التوتر والقلق والملل، وغياب التفكير النقدي الذاتي والحر والمبدع والمستقل، كما رفض تحليل ومناقشة وفحص وتمحيص هذه الأفكار، ولهذا فبيداغوجيا التلقين هي ضد كل نقد وإبداع لهذا فهي مرفوضة من قبل أوليفيي روبول.

Bibliographie:

[1]-Reboul (olivier.), l'endoctrinement, puf, 1977, p. 7.    Voir en plus :

Pour Olivier Reboul, tout enseignement qui se détourne de ces buts est un « contre-enseignement » ; il ajoute qu'un professeur risque toujours d'influencer ses élèves soit parce qu'il verse dans la propagande soit, à l'inverse, parce qu'il les lasse .

[2]- Ibid, p. 12. Voir en plus :

L'endoctrinement est une perversion de l'enseignement qui joue sur les préjugés profonds. À ses deux extrêmes, l'endoctrinement sectaire remplace les préjugés d'un individu par d'autres (l'idéologie du gourou) en passant par la violence psychologique, et l'endoctrinement dit conformiste qui se contente de les renforcer de manière imperceptible .

[3]- Ibid, p. 197. Voir en plus :

" L'endoctrinement fait penser à la propagande, au conditionnement ; mais il est surtout et d'abord une forme d'enseignement. Qu'est-ce qui fait donc de l'enseignement un endoctrinement : l'intention? le contenu? la méthode? L'auteur envisage successivement ces trois réponses, pour montrer ce qu'elles ont à la fois de nécessaire et d'insuffisant. Son analyse l'amène à discuter certaines notions clefs, comme la propagande, la neutralité scolaire, la laïcité, l'idéologie, les pédagogies non directives, etc. Une seconde partie étudie l'endoctrinement à partir de trois cas concrets :

1. le lavage de cerveau ;

 2. l'"éducation totale" de l'hitlérisme ;

3. l'enseignement actuel ..."

 

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟