طنجة أيتها المدينة المَهْر[1]. ها أنا أحلق فوق سمائك وأشاهد مبانيك وأزقتك وأتطلع إلى أسرارك من علٍ، وأنت كما أنت فاتحة ذراعيك تستقبلين الوافدين بفرح وتودعين المغادرين بدموع، وبين الضحكة والدمعة تاهت مشاعرك واضطربت فظللتِ محافظة على ابتسامتك مثل أم حنون لا تريد تشييع أبنائها بالبكاء ولا استقبالهم بالبكاء.
أزت عجلات الطائرة على إسفلت المطار بعد رحلة دامت ما يناهز الساعتين، دنونا خلالهما أكثر من النجوم والسماء. شعرنا براحة نفسية عميقة ونحن ندنو من الأرض، أمّنا الحبيبة. ما إن توقفت الطائرة واستكان جناحاها حتى ارتفعت موجة من التصفيق العارم اعترافا لقائد الرحلة ببراعته وتقديرا لخبرته وتهنئة له بنجاحه.
عندما لامست أرجلنا التراب انزاح ذلك الخوف الذي استبد بنا ونحن نجوس بين النجوم، هناك عاليا معلقين دون حبال داخل هذا الصندوق الحديدي العجيب. متجاورين فوق مقاعد مرقّمة بنظام ودقة. لم يكن بين الركاب تعارف سابق. هكذا وجدنا أنفسنا في الوقت ذاته وفي المكان ذاته نتجه نحو سلم الطائرة ونطير. أنسى انغماس البعض في تبادل الأحاديث الخوف والرهبة أثناء الإقلاع والهبوط. ونام البعض الآخر كي لا يعيش تلك اللحظات الرهيبة التي تشعر أثناءها أن قلبك يكاد ينفصل.
وأخيرا زال توترنا واضطرابنا ونحن نتحسس أصلنا الطيني بأقدامنا، فالإنسان يحنّ دوما للأصل. نزلنا تباعا عبر السلم الذي جيء به. ابتعدت قليلا والتفت خلفي لأنظر إلى هذا الهيكل الضخم الجاثم الذي كنا في جوفه. جناحاه ممتدان يمينا ويسارا مثل طائر يصل إلى الضفة الثانية بعد أن هدّه الترحال وهو يكابد ليعبر بحرا عظيما في رحلة هجرة موسمية شاقة.
كان المطار فسيحا، تناثرت في أرجائه الطائرات القادمة من كل بقاع الدنيا، وعلى جوانبها رُسِمت شعارات شركات الطيران التي تملكها وأسماؤها.
عبرنا الباب فاستقبلنا رجال الجمارك بأزيائهم الرسمية وابتساماتهم المرحبة. وبسلاسة تدفقت أمواج الوافدين، فلم أر تدافعا ولا تزاحما، ولم أسمع لغطا ولا هرجا. أتممنا الإجراءات وعبرنا البوابات الديوانية، ومضى كل منا إلى غايته. استقبلتنا هذه المدينة المستلقية في وداعة يحضنها من الشرق البحر الأبيض المتوسط بصفحة مياهه الرقراقة اللامعة تحت أشعة شمس أفريل المعتدلة. ومن الشمال دسّت هامتها في حضن المحيط الأطلسي الهدار دوما بأمواجه الصاخبة وأمواهه المضطربة. ترتمي في حضن بحرين، كأن بحرا واحدا لا يكفيها.
أنشئ المطار الذي يخلد اسم أشهر رحالة مغربي بعيدا عن المدينة، وكان عليَّ أن أستقل سيارة تاكسي.
كان سائق سيارة التاكسي الذي سيقلّني من المطار إلى الفندق بشوشا مرحا، رحّب بي بابتسامة أحسستها صادقة أنبأت عنها كلمات الترحيب التي لفّني بها. اختلفت لهجتانا، فبدا التواصل بيننا صعبا في البداية، لكننا تجاوزنا ذلك عبر لغة نزلت من السماء ووحّدتنا. مضت بنا السيارة في سرعة معتدلة. على حافات الطريق طالعتني الخضرة الدائمة التي لم تنقطع طوال الرحلة من المطار إلى قلب المدينة النابض بالحياة والفرح. دخلناها من الجنوب فطالعتنا عماراتها الشاهقة بنوافذها المشرعة تستقبل أشعة شمس أفريل الهادئة. ألوانها البيضاء والزرقاء تأسرك تطوح بك بين زرقة السماء وبياض الثلج، لونا المحبة والطهر. تتعانق تلك الألوان في انسجام وتناسق فتبعد عن النفس كل ما ألمّ بها من كدر وهمٍّ. وتريح البصر فيتغلغل قي التفاصيل الصغيرة، الستائر المهفهفة تتراقص على إيقاع النسمات البحرية العذبة، وأصص الأزهار الموضوعة فوق حافات الشرفات تغازل العابرين بأريجها، تسحرك بألوانها وجمالها وخضرة أوراقها إنها الحدائق المعلقة تنتقل من قصور بغداد إلى ديار طنجيس متحدية بُعْد المكان وناموس الزمان.
ينحدر النظر سريعا إلى واجهات الأدوار الأرضية فلا تكاد العين تستقر على لوحة إشهارية حتى تطالعها أخرى فأخرى على امتداد الشارع. كل على ليلاه يغني كما قيل. دكاكين ومغازات فاخرة بأضوائها مختلفة الألوان التي ينبعث منها ضوء يبدأ خافت يسطع تدريجيا حتى بلغ منتهاه كاد يبهر الأبصار ثم يعود فيخفت من جديد، وبواجهاتها البلورية المنسقة خلفها المعروضات بذوق رفيع ينبئ عن رهافة حس أصحابه. الشوارع والواجهات نظيفة، فلا أعقاب سجائر ولا أوراق متناثرة ولا بقايا مأكولات ولا خربشات على الجدران ولا....ولا....أنّى التفتَّ طالعتك تلك البهجة وذلك البذخ. فيض من الفرح يغمرك وأنت تشق وسط هذه المدينة التي تعاقبت عليها حضارات كثيرة ما بث فيها روحا فريدة تميزها عن غيرها من المدن في العالم. تراها مرة مدينة عربية موغلة في عروبتها محافظة على تراثها وأمجاد فاتحيها، وتراها مرة اخرى منفتحة على دور الموضة في العالم ومواكبة للتطور الذي يهبها كل جديد.
قلب المدينة نابض بالحياة، زاخر بالدكاكين والمغازات، حافل بالمعروضات ملابس جاهزة ولعب أطفال وعطورات ومواد تجميل ومواد تنظيف وتجهيزات كهرومنزلية. محلات حلاقة وخياطة وقاعات ألعاب ونواد رياضية. معروضات تفليدية حافظ أصحابها على الأصالة والتراث، وأخرى واكبت التطور واستجاب مديروها لهذا الغزو الاتصالي المثير، فترى الفضاءات المبهرة المخصصة لعرض وبيع أحدث التكنولوجيات والشرائح والهواتف وما يتعلق بها من إكسسوارات ولوازم.
على جافتي الطريق انتصب باعة جوالون يعرضون سلعهم، ملابس داخلية للأطفال والنساء، لعبٌ بلاستيكية أغلبه مهترئ، سجائر مهربة، ولاعات، طلاء أظافر، أحمر شفاه، أربطة أحزمة يدعون أنها جلدية، حواسيب مستعملة، أحذية رياضية، مجلات وكتب قديمة، إكسسوارات للزينة، هواتف ذكية ونظارات شمسية بماركات عالمية وساعات يدوية من أحسن طراز، لكن تلك الهواتف والنظارات والساعات كانت كلها مقلدة، حسْب عارضيها كسب بعض المال والتحايل على البسطاء من العابرين بلغتهم التجارية الأنيقة لإعمائهم عن عيوبها. قال السائق معلقا على ما رآه أن وبضاعتهم هؤلاء تتغير حسب المناسبات، فللأعياد بضاعتها ولفصل الصيف بضاعته وللعودة المدرسية بضاعتها...
كلما توغلنا في المدينة أكثر ازداد الاكتظاظ أكثر وبدا على السائق التذمر من هذه الفوضى التي بدأت تعم المدينة وتزداد كلما تقدم النهار لتبلغ أوجها مع الساعة العاشرة صباحا.
سرحت ببصري يمينا فاخترقت الحجب وفُتِحَتْ أمام عيني كوة صغيرة فوجدتني أعبر باب مبنى برزت في تصميمه البصمة الاسبانية بما حواه من زخارف وتزاويق، فرأيتني أتجول بين قصور غرناطة وأروقة قرطبة ممسكا بتلابيب ابن زيدون وهو يتجول بين الرياض مرددا قصائد العشق والشوق والحنين. وهاهو الجنرال فرانكو يقتّل ويشرّد ويستبيح الأعراض والأرزاق دون أن يقدر قائد على كبح جماحه. وها هوبوتاوس يتجول بين الأزقة والأسواق آمرا ناهيا. وهناك لاحت لي الكنيسة التي شيدها الإنجليز واتخذوها موطنا لممارسة شعائرهم الدينية ولإدارة شأن المدينة.. وفي المقابل يقف الفرنسي جوزيف لو فير بدباباته وجيوشه مخترقا الأنهج والشوارع متحديا العالم ليعلن اشتعال نيران حرب زج في أتونها المتأجج جل مدن العالم وأغلب عواصم الدنيا في اقتتال همجي يصور حالة الفوضى في أجل تجلياتها. إنه الإنسان التواق منذ نشأ إلى سفك الدماء وفصل الرؤوس عن الأجساد.
عبرت بنا السيارة من شارع إلى شارع حتى وجدنا أنفسنا في طريق موازية للبحر، كان يمتد على يميننا أزرق هادئا ونحن نتجه شمالا. الرمال الذهبية المشعة والمياه الصافية الرقراقة هدَّأت من فورة الغضب التي ألمّت منذ حين إلى السائق، وطالعتنا السفن المتمايلة في عرض البحر وحملت النسائم أهازيج البحارة وهم يلقون شباكهم طامعين في جود هذا المدى المائي الأزرق الرحيب وكرمه. وحملت الرياح دمدمة السفن الحربية وصخب الأعماق وأزيز الغواصات القادمة من الشمال فارّة من موجات البرد والثلوج وباحثة عن دفء الجنوب وشمسه الساطعة.
أزّت فرامل السيارة بعد أن انحاز السائق إلى أقصى اليمين إيذانا بانتهاء الرحلة. نقدته أجرته وأضفت لها بقشيشا اعترافا له بفضله عليَّ فالتقطها وهو يبتسم ومضى ملوحا بيده، وسبابته تشير إلى الضفة الآخر من الطريق أين لاحت لافتة الفندق الذي طلبت منه أن يوصلني إليه.
------------------------------------------------------
[1]- يُذكر أن الملك الإنجليزي تشارلز الثاني قدم مدينة طنجة مهرا للأميرة البرتغالية كاثرين براغانزا عندما طلب يدها للزواج.