لماذا يحوز الإنسان القدرة على الكتابة، والقدرة نوع من الحق، إنه سؤال صعب، تُستنبط معالمه أكثر لو صغناه على شاكلة؛ لماذا يحوز أشخاص القدرة على الكتابة دون آخرين، بيد أنه لن يكون بمقدورنا الحكم بأي الصنفين من الناس تعرض لشر أعظم، أولئك الذين يكتبون أم أولئك الذين لا يفعلون.
يصدر عن الأمر أن الذين يكتبون، يحوزون القدرة على الكتابة، يحملون وزر الذين تعوزهم القدرة، أخلاقيا، ثمة عاقبة أخلاقية واقعة لا محالة بالذين يكتبون، لهذا فالكاتب يكتب بدلا عن ويكتب في دورٍ ما، يكتب بدلاً وليس نيابة عن، إنه لا يكتب بدل بني جنسه فحسب، إنه يكتب بدل كل ما لا يحوز القدرة على الكتابة من الكائنات، بدل القطط والكلاب والأشجار والأحجار والأهم من ذلك عليه أن يكتب بدل الجرذان.
مَن، إذن، سيكتب تأبينا في جرذ ميت على الرصيف؟
إن المريض فقط ببؤس أفضلية الكائن البشري وشرفه سيقول إنه جرذ نافق، ويسرق منه كما يفعل دائما مع باقي الحيوانات حقه ـ حقهم ـ في الموت، ويُعلن أن الإنسان وحده يستطيع أن يموت، أو وحده يموت، أما باقي الحيوانات فهي تنفق.
أي بؤس ومأساة يُظهر هذا المبلغ من الفكر، أن تسرق حق فأر أو قط أو صرصور في الموت.
هذا جرذ ميت على الرصيف، في مدينة لم تعد فيها القطط تفترس الجرذان، والفئران، أصبح في المدينة متاجر لبيع طعام ما للقطط، وتمت تربيتها، وأصبحت رطبة للغاية، وبذلك سرقت المدينة مرح القطط، قطط وافرة الشعر، طغت عليها البطنة، لا تستطيع تسلق الأشجار كما تلك القطط في البوادي.
في البادية لن تجد جرذا ميتا على قارعة الطريق، ولن تجد فأرا، لأن القطط هناك لم تفقد طبيعتها، إنها قطط جميلة ورشيقة غير هذه القطط القبيحة التي في المدينة، التي أنجبتها المدينة.
إن هذه ولا شك عنصرية شديدة اتجاه القطط، وانحياز ظاهر لصف الجرذان، وهذا ليس من شأني
ولكن، من قتل الجرذ الذي على الرصيف، التقيتُ مع هذا الميت على الرصيف كما التقي في يومي مع أي كائن آخر، ذات صبيحة عَجْلى والناس مسرعة، ولست اعرف سبب حثِّي لخطواتي أستعجل أمرا ما، ولست في الواقع إلا أحاول مجاراة إيقاع المدينة الذي لا يشبهني، فلم يكن ورائي أمر ذا أهمية يستحق استعجالي، مجرد عاطل في مدينة مسرعة، لا يعيش صباحاتها إلا عَجْلى، عكس البادية تماما.
أصادف كما قلت هذا الجرذ في هذه الصبيحة العجلى، والممطرة، ميتا على الرصيف، في الأغلب هو حديث العهد بالموت، فالأشياء القديمة العهد به لا اخطئها. بقع الدم ما زال لونها فاقعا، هل صدمته سيارة مسرعة وأبعده مجنون ما من الإسفلت كي لا يموت أكثر، ووضعه على قراميد الرصيف، أم هو ضحية أقدام مسرعة، أم هو قتيل ليلة شديدة البرودة. أقف هنا.
لصبيحتين أخريين أمر من نفس المكان، ما زال الجرذ ميتا على نفس الرصيف، ربما لم يره عمال البلدية، وما عساه يروع عمال البلدية في أمر جرذ صغير فارق ذات ليلة باردة.
بدأت الحياة تجف شيئا فشيئا من جثة الميت، وبعد أسبوعين ظهرت عظامه، وبدت جمجمته، لقد تحلل بشكل شبه كلي، وثمة قدم ما قذفته الى نقطة معينة، لم يعد بالإمكان فيها أن تدوسه الخطى، ألم يكن ليكون في مكان غير هذا وليمة شهية، سهلة للقطط، ألا يتم افتراسه هذا دليل على فساد أحوال القطط، والبشر هم من أفسد طباع القطط، وبذلك هم من مَثَل بجثة الذي فارق على الرصيف، ذات ليلة باردة،
نعم، هذه عنصرية فجة اتجاه القطط، أو هكذا سيبدو عليه الأمر، غير أن الذي يبدي تعاطفه مع قط بالضرورة دهسته سيارة، ولا يبدي نفس الشعور اتجاه جرذ ميت على الرصيف، أو اتجاه الكائن البشري لهو أشد الكائنات عداوة للإنسانية، إنه متواطئ ضد البشر.
الجرذ الذي مات على الرصيف هو مرآة المدينة، لا أكتب نيابة عنه إلا لسبب بسيط، أنه كان بالإمكان أن يموت إنسان على الرصيف، أو هل مع ما هو جلي من بؤس الوضع البشري علينا الانتظار حتى يموت هذا الانسان الذي لا يحمل اسما، ويَحْرُفَ عنه أهل المدينة بأبصارهم، كي نكتب عن المسألة.
في البادية لا تموت الكائنات بهذا الكيف، وإن ماتت فإن عورتها وسوأتها تُوارى، إن المسألة ليست تخليا عن المدينة، إنما طرح السؤال؛ مالذي تبقّى من الإنسان؟
يُعلمنا الجرذ التفكير كما علم أحد أباءنا غراب، أسس الغراب المدينة وإمكانية العيش المشترك لأنه أسس لنوع من التسامح مح سوأة الكائن.
الجرذ ـ الانسان، أو جرذية الإنسان، هي ما ننتبه إليه في حالة الذي مات ـ بقي ميتا على الرصيف دون أن تُوارى سوأته.
ذات صبيحة باردة أخرى وقد ذبت في سرعة المدينة، على الرصيف مجددا، كان هناك رجل يفترش قطع الكرتون، ويلتحف السماء، لم يكن ميتا، غير أن الناس، نحن الناس دونه، نمر عليه كما نمر على الجرذ، بنفس الكيف، وقد يحدث أن يُشعرنا ببعض امتعاض، لأننا نحن الناس دونه مظهر الجمال، وهو لا يعدو أن يكون مظهرا من مظاهر القبح، ولا يحوز من الشرف أكثر مما يحوزه ذاك الجرذ، إن رجلا في مجتمع الناس ينام على الرصيف قد أخرجته المدينة من عرف الإنسانية وقد أفقدته كرامته الإنسانية، وبعد أيام لم أعد أجد هذا الرجل على الرصيف، وحوائجه باقية، ربما غادر، ربما فارق، ربما مات كما الجرذ ذات ليلة أكثر برودة.
على هامش الجمال، وعلى هامش عالم الناس ـ نحن ـ الناس كان الرجل الاخر يعيش، في واقع الأمر كان يمتلك عالماً، لكنه مجرد أقلية، إنه منبوذ، وفي ليلة من الليالي الباردة، تحت قنطرة الوادي نفق هذا الإنسان، إنها الحالة الوحيدة التي نستطيع فيها أن نقول إن هذا الكائن نَفَقَ، إنها بحق حالة نُفوق، ينفق الناس حين يدخلون في جرذية الإنسان، وبذلك فاعتقاد المجتمع الرسمي بأنه ما يشرع للجمال وأن الذين يسكنون على هامشه هم مظاهر القبح يؤسس فكرةً اختزالية للإنسان.
كيف ستكون فكرة الإنسانية تحت هذا الشرط؟
ستكون ضربا من العنف، شرًّا، ولا يفكر الناس في المسألة على هذا النحو لأنهم في الأغلب يحتمون بالأغلبية، وليس من حقنا أبدا أن ننصف الأقلية، ولا الوقوف في صفها، إنما الغاية التنبيه الى السؤال؛ كيف خسرت هذه الأقلية الـ ما حقها في الكلام، في إبداء فكرتها والتعبير عن رؤيتها للوضع البشري، كيف حدث وتم هذا الاقصاء لها من الوضع البشري؟
ستفقد هذه الأقلية الحق كل الحق في المشاركة في الساحة العامة فقط لأنها لا تمتلك اسما، لقد خسرت الإسم وخسرت بذلك القضية، وليست الكتابة نيابة عما يكون مظاهر القبح تضامنا، إنما التنبيه الى السؤال السالف.
هذا الشر، هذه المأساة، ابنة القبلية، ابنة نفي الصعلوك خارج البناء القبلي، غير أنه لم يعد في وسع الصعلوك أن يكون صعلوكا، إنه صعلوك بالسلب، إنه كل ما لا يكون صعلوكا، لم يعد في مكنته أن يمارس الرفض، والشعر هو النفي الأكبر الذي نسيه هذا الشكل من الصعلوك، هو الشكل الأكثر ثورية، الصعلوك الأصل لا يتحول الى أقلية بل الى سلطة، ويستطيع أن يُعلن: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ليس الشاعر ـ الصعلوك وهو منفي خارج القبيلة أقلية وليس بالدوور ضعيفا، ليس بحاجة لمن يتضامن معه، كيف أصبح أقلية، إذن ما يصدر عن نفس الشيء؟
إن المسألة تكون إذن تفكيرا مغايرا في الحرية، مفهوم الحرية، ولا يستطيع المؤرخ أن يُفكر في حرية الصعلوك بشكل أصيل، ليست حرية الصعلوك ثورة، وليست ردة فعل على القبيلة، إن حريته ابنة الإقليم ابنة الجغرافيا وليست ابنة التاريخ، نداء الفعل وفق الضرورة الطبيعية لتكوينه، وتحقيق نبوءة الشعر التي تصدح بها دواخله، ولأنه لا يمكن لغير الشاعر ان يكون صعلوكا فالحرية لا تعيش هنا غربةَ ما بين النظرية والممارسة بل تكون واحدة معهما، كلا واحدا، ليس الشاعر ـ الصعلوك رجل نظرية، إنه رجل تجريب.
عودًا. غير أن المنبوذ الآن، الخارج، المنفي من طرف القبيلة سلبي الحرية، يتوسل عطف القبيلة، وتضامن الناس، إنه لا يستطيع أن يمارس النفي لأنه ليس شاعرا، لأنه إنسان قد أُفرغت فاعليته، وسياسيا هو انسان الـ ما بعد، إنسان ما بعد النهاية، لم يتعرض للشر لأنه لا يقتدر على رده، بل هو قابل لأن يتعرض لهذا الشر.
لهذا ليس يجب التضامن مع هذا الانسان الذي يقع في إقليم الـ ما بعد، لا يمكن لفكرة هذا الانسان أن تبني، فهو يؤسس أكثر لمقاربة العبودية، ولا يمكنها أن تنتزع أي اعتراف.
الشاعر ـ الصعلوك سرعان ما يؤسس مجتمع الصعاليك، ويؤسس بذلك المُضاد، والمضاد هو المقولة الرئيسة في الاعتراف، تقع هذه المقولة في الانسراع الذي لا يتوقف، في رحلته المستمرة المسرعة، إنه يتسرب في كل الجهات في كل الأقاليم، إنه ابن التجريب المستمر والرحلة الـ أبدًا. الجغرافيا وليس التاريخ هي ما يعرف حرية الشاعر ـ الصعلوك وهو لا يدخل في جرذية الانسان، لأنه يحافظ على فاعليته، فهو يمارس النفي، ويعلن المُضاد، أما المنسيين المنبوذين فليسوا كذلك، إنهم يدخلون في عرف الجُرذية، والمجتمع الرسمي هو ما يسرق حقهم الإنساني، كذلك.