كـان صــديقـي … - قصة : رجب سعد السيد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس " … أكتب لك هذه الرسالة على أنغام أغنية ( في يوم من الأيام )، تأتيني من إذاعة القاهرة؛ وذلك لأنني اشتريت مذياعاً به 9 موجات قصيرة .. أسمع مصر باستمرار، يعني أخباركم عندي .. ومبروك على المدرب الأجنبي للزمالك؛ ولكن، لا فائدة .. الأهلي هو الأول !… ".
          كان صـــديقــــي .. ظــلَّ – طول الوقت – نقيـــاً كطفـــل …
     " … أهم أخباري، أنني انتقلت إلى مسكن خاص، وتركت الفندق .. شقة صغيرة، مكونة من حجرة ومطبخ ( الحقيقة، واســع )؛ والحجرة بها تليفزيون، وهو يفيدني كثيراً في اللغة؛ والإيجار 100 فرنك، شهرياً، فقط. المهم، أنا الآن مستريح جداً عن أيام الفندق، وأطبخ الأطباق المصرية ( مسـقَّعة – ملوخية – بامية .. أحمدك يارب ! )؛ وأيضاً، الفول المدمَّــس !. عثرت هنا، في ( فيشي ) على بقَّـال يهودي؛ وطبعاً، هو يعرف أن العرب في طريقهم لاحتلال ( فيشي )، ثم فرنسا بأسرها، لذا، فقد جلب في دكانه كل ما قد يطلبه العرب !
     أما حديثك عن ( صدمة الانتقال )، فأنا أتعجب منه؛ إذ لم أشعر بأي صدمة، بل بالعكس، وجدت أنه من السهل جداً التأقلم على الحياة هنا. قد أكون أحسست بالغربة في أول أسبوع، حتى أنني اتصلت بمصر تليفونياً أكثر من مرة، ولكني اعتدت الحيــاة هنا .. ".
          كان صـديقـــي .. وكان – على الدوام – بسيطاً، كنبتة ترى الشمس لأول مرة
     " …  والنهار هنـا طويل جداً؛ يعني الساعة الآن 10 وربع مساءً، والظلام غير كثيف، إذ أن المغرب لم يؤذَن له إلاَّ منذ حوالي 20 دقيقة؛ لذا، فعندما يعمل الناس هنا حتى الساعة الرابعة أو الخامسة، مثلاً، فهو أمر طبيعي. والعجيب، أن الإنسان لا يحـس بالتعب، مع انتشار ضوء النهار كل هذا الوقت، فالإجهاد والحاجة للنوم لا يأتيان – كما تعرف – إلاَّ مع الظلام. أرجو أن أكون استطعت أن أنقل إليك ما أقصد، فأنا لست كاتباً كبيراً مثلك !
     والحقيقة، أن أخلاقيات الناس هنا ممتازة؛ يعني – مثلاً – إذا خالفت إشارة المرور، فإن السيارات تتوقف، ولا تجد من يلعن ( سنسفيل ) جدودك، بل بالعكس، يبتسمون لك، برغم أنك أنت المخطئ .. ".
          كان صديقــي .. تقـود التلقائيــة خطـــاه …
     " .. احتفلوا، هنا، بالأمس بالعيد القومي لفرنسا. وفي اليوم السابق، مساءً، جري احتفال جميل، وسهرت ( فيشي ) حتى بعد 12 مساءً؛ مع إنهم – عادةً – ينامون ( زي الفراخ ) من الساعة 9، والشمس طالعة !. وفي ذلك الاحتفال، شاهدت فرقة فولكلورية فرنسية، تمشي في الشوارع، وهي مقسمة لمجموعات، وكل مجموعة تلبس ملابس، وترقص رقصات، أهل مقاطعة من مقاطعات فرنسا، أيام الثورة الفرنسية؛ وهي ملابس في منتهى الجمال؛ وأشكال قبعات النساء غريبة. وبصراحة، الاحتفال كان يحتاج لكاميرا، وأنا ندمت على أنني لا أعرف التصوير وليس عندي كاميرا؛ وإنشاء الله، في العام القادم، سيكون عندي كاميرا.
     وفي اليوم التالي، صباحاً، أعيد نفس الاستعراض؛ ثم تجمعوا عند مبنى البلدية، وأخذت كل فرقة ترقص. وفي المساء، كانت الألعاب النارية الجميلة. ولكن – تصـــوَّر ! – لم تتغير برامج التليفزيون، كما نفعل نحن في ( أعيادنا ) القومية؛ فقد كانت البرامج كما هـي؛ فقط، نقلت القناة الثالثة العرض العسكري، بعد أن أعلنت عن ذلك مســـبقاً ".
          كـان صديقــــي .. لم أســمعه، مرةً، يدَّعـــي ما ليـــس فيــه …
     "  … وأنــا قلبي معك، في مســــــألة شـــقتك؛ وربنــــــا يوفقك، وينصـــرك على هـــذا المحتــــــال المشـــاكس، بالرغم من أنك ( زملكـــاوي )، ومن ( غيـــط العنــــب )! ".
          اخترته صـــــديقاً، وكنت أرتاح إليه، وأفتح قلبــــي وبيتي لــه، في زمن يعلمنا أن بيوتنا هي آخر خطوط دفاعاتنــا، التي ينبغي ألاَّ نأمن للغرباء، أن يقتربوا منها  !.
     " … ذهبت، منذ أيام قليلة، إلى ( فيل فرانش )، وقابلت الدكتور نيفال. يا أخي .. هؤلاء الناس، في بعض النواحي، لديهم أخلاقيات ليست عندنا؛ وإن كنت – إجمالاً – أرى أن بلادنا أحســـن !. تأثرت كثيراً عندما فوجئت بأن الرجل قد حجز لــي غرفة بفندق في ( فيل فرانش ). والمعهد قريب من الفندق. وهو معهد كبير، ويهتم – أساساً – بالدراسات البيولوجية؛ وقد اصطحبني الدكتور نيفال في جولة بالمعهد، وشرح لي كل أقسامه.  وبالرغم من أنه أضخم من معهدنا في الإسكندرية، فإنني لم أجده مكدســـاً بالعاملين، مثل الحال عندنـا ! "
          كان يعزف عن الصراعات مع الخطَّـافيـــن والانتهـازيين. كنت، أحياناً، أتعـــــارك من أجله. كان يقول لي : ليست مهمتي أن أقاتلهم .. هذه مهمة الجهاز الإداري، الذي يرســــم الحدود والعلاقات. وعلى أي حال، دعهم يأخذون ما يشاؤون .. تأكد أن نصيبي بانتظاري !
     " … وضع أمامي الدكتور نيفال ثلاثة موضوعات للدراسة، وطلب مني أن أفكر وأختار موضوعاً، وأرسل له، بعد عودتي إلى ( فيشي )، بما استقر عليه اختياري. وقد أعجبني موضوع لمسح المنطقة بين ( الكوت دازور ) و جزيرة كورسيكا، من خلال عينات نجمعها في فترة وجيزة، في شهري أبريل ومايو، فقط. وقد اقترحت، من جانبي، أن نقارن النتائج التي سأتوصل إليها، من دراسة الأسماك الهلامية بهذه المنطقة، بما تحصلت عليه في دراستي للماجستير بجامعة الإسكندرية. وأعتقد أنها ستكون مقارنة لطيفة ومفيدة، بين شرق البحر المتوسط وغربه .. يهمني رأيك .. ".
          كنت الوحيد الذي أطلعه على كل تفاصيل اتصالاته للدراسة بفرنسا. كنَّــــا واثقيْـــن من أنهم سيرحبون به .. وفي أيام قليلة، غادرنا إلى الشمال ..
     " .. ولكي أثبت لك أنني أفكر فيك، أيضاً، سألت الدكتور نيفال – وأنا أتجول معه في المعهد – إن كان ثمة من يهتم بدراسة الطيور البحرية، لأن لي صديقاً، بالإسكندرية، مجنون بها؛ فأخبرني بأن في باريس معهداً للطيور عامة، بما فيها الطيور البحرية. وأعدك، في أول زيارة لباريس، أن أتحسس لك الأمور، لعلك تشاركني رحلة الهجرة إلى الشمال، وتأتي ممتطياً ظهر رُخٍ ! ".
          كنت أداعبه، وأدعوه لأن يترك دراسة هذه الكائنات المفزعة السامة، ويشاركني دراسة الطيور، ويتخصص في إناثهـا، ويترك لي ذكورها، لعله يجد بينها نورســـاً أنثى مســـحورة، ترضي بالزواج منه .. ليته فعل وتخلى عن تلك الكائنات القاتلة .. ليته فعل  .. ليته فعل !
     " .. بعد ذلك، أحب أن أحكي لك عن مرسيليا، فقد نزلت بها وأنا في طريق عودتي إلى " فيشي "؛ وبقيت فيها – سائحاً – يومين. وهي ميناء كبيرة، شديدة الشبه بالإسكندرية؛ ويمكنك أن تصـادف بها بعض الفرنسيين، الذين يعيشون مع أغلبية عربية !. وبيني وبينك – وليس للإذاعة بين الزملاء والأصدقاء – رأيت في مرسيليا، ولأول مرة في حياتي، رجلاً يواجه الحائط، ويبول !. كأنني ذهبت إلى فرنسا – خصيصـــاً – من أجل هذا المشهد !. وطبعاً، لا لزوم لأن أقول لك أنه كان – كما تقولون أنتم معشر فقهــاء اللغة – من أبنـــاء جلدتنـــا !
     هل يكفيك هذا، أم تريد مزيداً من الحكايات ؟. يا أخي .. بما أنك تزعم بأنك أديب، فيجب أن ترسل لي خطابات حقيقية، وليس مجرد تليغرافات، كما تفعل .. يا أخي .. إحك .. إحك أي حاجـــة ! ".
          كان يكتب لي كثيراً. كان يسترسل في خطاباته، كما كنت أتركه يفعل حين كنا نلتقي، في مختبري، لنتناول الشاي. كنت أحب الاستماع إليه. كان يحب الإفضـــاء إليَّ. وفي كل مرة أكتب له، كانت خطاباتي تأتي مختصرة مبتسَـــرةً. فماذا أحكي له ؟ .. لم تكن لديَّ ســـوى ســــيرة الهمــــوم .. همــوم القلـــب، وهمــوم الوطــــن ….

      
                                ( انتهــت )
رجب سعد السيد
عضو اتحاد كتّاب مصر
عضو أتيلييه الإسكندرية (جماعة الفناين والكتّاب(
عضو نادي القصة بالقاهرة


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة