طالب مكتب … !* - مَقِصَّة** : رجب سعد السيد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسأفندم…
أنــــــا، رقم (5558050 ) – رقيب ( هـ. ع. ) مجنَّد رجب ســـعد السيد ؛ تجنيد 10 / 10 / 70 ؛ (رديف) 1 / 9 / 74 – يا افندم – حكمدار ( ف. سطع. كيما. – س. 2 كيما. – قيا. فر. 6 مش. ميكا. )، واحدة من فرق المجهود الرئيسى ، المشاركة فى عمليات أكتوبر 73 .. طالب مكتب يا افندم .. متظلِّم ، وعندي أقوال عمَّا كان، وما هو حاصل، من أحوال الوطن، بعد انقضاء ما يقرب من ثلاثين عامــــا، على أول معـــركة حقيقية (قاتل) فيها الجيش المصري ، في العصر الحديث…
     لم أشارك، من قبل، بمثل هذا الحديث، مكتفياً بما سجلته فى القالب الفني الذي أحبه : القصة القصيرة ؛ فأنا ( كاتب ) يا افندم ؛ والواضح، أن صوت الكتاَّب، وكتاباتهم الأدبية، شديد الخفوت بين بنى وطني، فلم يسمعني أحد. لهذا كان قراري – يا افندم – بأن أرفع صوتى، متخلياً عن القصة القصيرة الجميلة، آملاً أن أستجمع قواي ليكون صوتي عالياً، قدر الإمكان، فلا تغطي عليه جوقة الزاعقين في كل مكان، لعلَّ أحداً يسمعني..
     كنت راضياً بالصمت – يا افندم – حتى رأيت بعينيَّ، في برنامج تلفازى، مواطناً مصرياً، في سِنِّي، ولا بد أنه شاركني موقعة 73 ، وقد يكون من أبطالها، يتحدث إلى مقدِّم البرنامج عن جرَّاح قلب شهير، استنزف قدراته المادية، مستغلاً حاجته لخدمة علاجية، تتوقف عليها حياته، وحياة أسرته؛ ويا ليته أدى الخدمة، وقد حصل على أجره كاملاً، بضمير.. إذ عبث بشرايين قلب المواطن البسيط، الذي أخذ يعبر عن الواقعة بأن الطبيب أجرى لــه الجراحة بأسلوب خاطئ، واستبدل له شرايين قلبه بأخرى، أطول من المطلوب، ويصف المواطن الجراحة بأن الطبيب كأنما ركَّـــــــــب لــه (جــاكمــــان) ســـــيارة، ممتداً للخلف، دون أي حسابات، أو كأنه ركَّب له ( ليَّ) شيشة !!.
     لابد أن بعض مواطنينا – يا افندم – قد ضحكوا، أو ابتسموا،  من طرافة تشبيهات المواطن الضحية المسكين، فشرُّ البلية ما يُضحِك.. ولكن المبكى في الأمر أن المواطن، الذي ذهب يستنجد بزميل له فى (المواطنة)، فأورده هذا مورد الهلاك.. أقول إن المبكى ما أنهى به المواطن المصري المريض حديثه للبرنامج التلفازي الناجح ، قال إن ما جرى له جعله يفقد الثقة في أشياء كثيرة، وأنه فقد – أيضاً - انتماءه للوطن !

     وبالرغم من أن مقدِّم البرنامج – الذكي- حاول أن يخفف وقع هذه الكلمات المؤلمة، إلاَّ أن الرسالة كانت قد وصلت، وأصبحنا، بعد ثلاثين عاماً فقط من ملحمة أكتوبر العظيمة،  نرى مواطناً مصرياً يجاهر – تحت ضغط شديد من الإحساس بالغبن والضياع -  بأنه غير سعيد بانتمائه لهذا الوطن !!.

      وأعترف بأن هذه المجاهرة قد أرعبتني، وجعلتني أقضي ليلتي مسهداً .. شغلني–   أولاً – مظــــهر الرجل وهو يروى مأساته، بانفعال شديد، جعلني أخاف عليه، وهو العليل القلب، ثم وهو يردُّ على سؤال بأنه لم يفكر فى اللجوء إلى نقابة الأطباء، لإدراكه – مقدماً -   بعدم جدوى ذلك، فالمياه – كما قال – لا تجرى في العالي؛ ثم جاء دور وزير الصحة، ليسحب مجموعة أوراق معدَّة سلفاً، يتلو منها أرقاماً باردة، ويبدى أسفه على ما تعرَّض له المواطن، بحيادية يحسد عليها.

     ولمَّا حاولت أن أتمثَّل نفسي بموقع المواطن المسكين، اكتشفت أنني – فعلاً – معه فى نفس الحال، ويمكنني  - افندم – أن أعدد أسباباً تجعلني أشاركه مجاهرته، غير أننى، على مدى سنوات طويلة خلت، كنت أتصوَّر أنني أقوم بما هو إيجابي، وأشارك فى إصلاح شدوخ الوطن، بعد أن شاركت فى تحرير ترابه، فاهتممت بإتقان مهنتى، فأنا مشتغل بالبحث العلمى، وسعيت لتجويد كتابتي، وأعطيت للوطن أكثر من خمسة وعشرين كتاباً؛ وابنين، عنيت بتعليمهما على أفضل وجه، وقد تخرجت ابنتي الكبرى، وأصبحت مؤهَّلة لأن تكون مدرِّسة لغة أجنبية، ولا يزال الآخر يدرس بالجامعة، وهو متعثِّر، برغم قدراته الذهنية التي أعرفها فيه، فلا أمل لديه فى مستقبل. وقد فكَّرت فى تأمين مستقبلهما، فسافرت للعمل بالخارج، ولكنى لم أتحمَّل، إذ أصابني مرض الحنين للوطـــــن، فعدت خائباً، بلا ثروة .. ولم أكن لأحزن على ذلك، غير أن أشدَّ ما آلمني، ما استقبلني به ولدى، وهو يحتج على فشل مشروع السفر والثروة.. قال :

  -  " وهل هذا وطن يستحق الحنين إليه ؟! ".

     صدمتني صراحته ، ولكنى لم أملك أن ألومه – يا افندم – ولا أستطيع أن أثنيه عن السعي الدائب لمغادرتنا إلى ما خلف المحيط، ليلحق بصف طويل، سبقه، من الأهل والأصدقاء. إنني – حتى – لم أعد أحزن لرسوبه المتكرر في الدراسة؛ ولا أملك معالجة الإحباط الذي يكاد يودي بشقيقته، الحاصلة على الليسانس بتفوُّق، إلى دائرة المرض النفسي. إنني أرى البطالة تغتال شخصيتها المتميِّزة؛ وكنت أعتقد أن شبكة علاقاتي العامة كفيلة بأن تفتح لنا فرجة إلى وظيفة تشغلها هذه الفتاة المتفوِّقة، غير أنني فوجئت بأن سطوة (الواسطة) أقوى بكثير، وأن تسهيل الخدمات يجب أن يكون مُتَبَادَلاً، وأنا لا أملك سلطة تجعلني لائقاً لهذه المسائل الحاكمة للعلاقات في مجتمعنا، كما لا أحب – ولا أملك – أن أقدِّم رشوة. وقد امتلأ المجتمع بالذرائعيين، الذين يجيدون تجميل القبائح، لتفويتها، فيسمون الرشوة (إكراميات)، و(هدايا).. وقد أفقت على أهوال يمارسها المرتشون، إذ أصبح للرشوة (تسعيرتها) المعروفة، وهى تصاعدية، أي تقفز عاماً بعد عام، فثمة (ثمن) لكل شيئ - ابتداءً من الوظيفة الحكومية العادية، إلى ضمان مقعد بمجلس الشعب – حتى النجاح في اختبارات القبول للكليات العسكرية، أصبح يباع ويشترى في سوق الرشوة.

     أفندم ..

     لا أنسى ( لمَّة ) أفراد فصيلتي حولي، في ( دشمتي )، أيام القتال.  كانوا يحبون مسامرتي، وأنا – بدوري – كنت أرتشف من عذوبة بكارة رؤاهم للدنيا؛ كانوا يطلبون حديثي، ويقولون : " .. حدثنـا بهذا الحديث الذي يكاد – مثل شعرك – يبكينا ( لم يكونوا، لشدة بساطتهم، يملكون أن يفرقوا بين قصة وشعر ) .. حدثنا عن مصر التي لا نعرفهـا، والتي كنا نظنها تبدأ وتنتهي بميدان باب الحديد، وعربات الدرجة الثالثة، في القطارات المتهالكة، المتجهة من هذه الصحراء إلى قرانا في الجنوب، وفي بطن الدلتا. إنك تتحدث عن حبيبة تراها ماثلةً أمامك؛ وقد أفلحت في أن تجعلنا ننضم إلى قائمة المحبين .. حدثنا بالمزيد عنهــا … ما الذي تخبئه لنا في قميصها الحريري، ونحن نعود إليها، وقد وضعنا السلاح جانباً ؟. هل هي أنثى طيبة ؟. هل هي أمٌ تفيض بالحنان، وتوزع رغيف القلب على أبنائهـا، بالعدل ؟!. هل ستتجمل من أجلنا، وتكون صادقةً في وعودهـا؟! ".

     أصدقائي، معذرةً؛ لم أكن – وقتها – أكذب عليكم؛ كنت ألمح بوادر برعم طيب يشرئب طالعاً في شمس صباح جديد، نتدفَّـــأ جميعاً بأشعتها الذهبية النقية. لم أكن – وقتها – أتصور أن تلك الحبيبة يمكن أن تتحول إلى هذا المسخ الشائه، الذي نكابد معيشته، الآن.
--------------
**  نص يطلق عليه الكاتب صفة ( مقصة )، أي خليط من المقال والقصة؛ ويجده الأنسب لمعالجة واقعنا الحالي.
* طالب مكتب .. اصطلاح عسكرى، يستخدم عند طلب رتبة صغرى مقابلة قائد الوحدة، للتظلُّم، غالباً.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة