اللاعودة – قصة : د. أنور طاهر رضا

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسوعاد صاحبنا بذاكرته إلى الخلف ، إلى سنوات طوال من عمره المديد ، إلى شهر رمضان ما قبل ثلاث وعشرين سنة أو يزيد عن ذلك بقليل . ولقد جاهد كثيرا من أجل وضع  تلك الفترة في طيّ النسيان ، أو إبعاده عن ذاكرته إبعادا كاملا ، إلا أن ذلك لم يكن في المستطاع . فما كل ما يهواه المرء بنائله . وما كان يريد أن يعود إلى الماضي ، لأن تلك الفترة بالذات كانت تطوي ذكريات مؤلمة جدا . واستعادة هذه الذكريات كانت تعني بالنسبة له فتح جرح قديم وقد أندمل إلى درجة كبيرة . فلا فائدة البتّة في فتح مثل هذا الجرح ، وقد مرّت عليه هذه السنوات ، ولكنه فعل ذلك ، نعم ، فعل ذلك لغرض في نفسه أخفاه عن غيره إخفاء مقصودا
عندما تخرج صاحبنا من جامعة أجنبية حاصلا على شهادة الدكتوراه كان المفروض أن يرجع إلى بلده لكي لا يبقى تحت طائل متطلبات كثيرة مختلفة . لقد عاش فترة طويلة هناك ، فذكريات الطفولة الحلوة ببراءتها الساطعة تكمن في كل زاوية من زوايا قريته ومدرسته الابتدائية . ولكن قريته هدمت ، وأجبر أهله على الهجرة إلى مكان آخر بعيد عن تلك البقعة ، فهو لا يستطيع حتى أن يتخيله . عائلته وأصدقاؤه وزملاء الطفولة وأقاربه كلهم هناك ، وقد عاش معهم هذه السنوات الطويلة ، وشاركهم في أفراحهم وأتراحهم . وما طعم الحياة بدون كل هؤلاء ؟ أليست قيمة الحياة كامنة في هذه العلاقات الاجتماعية ؟ ولكن الأهم من ذلك أن بلده احتضنه لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان ، يشرب من مائه الريان ، ويأكل من زاده الوفير . يستفيد من امكاناته كغيره من الناس ، بل أكثر من ذلك بكثير . أليست العودة تنفيذا لايفاء العهد في خدمة بلده وأهله طوال العمر؟ أليس ذلك بقليل بحق الوطن ؟ بلى ، فهذا ولاشك قليل من كثير ، وغيض من فيض . إذن فما الذي يحمله على التراجع من ذلك ؟
كانت الظروف السياسية في البلد سيئة جدا ، وتسيء يوما بعد يوم ، وليس في الأفق من بصيص أمل في التحسن ، وما أضيق العيش بدون هذا البصيص وبدون فسحة الأمل . وإذا ما تسلم الطغاة الحكم في بلد فإنهم يجعلون أعزة أهله أذلة .
ولكن ، ألا يجب أن يرجع رغم هذه الظروف الصعبة ؟ أليس من واجبه أن يتحمل كما يتحمل غيره من الشدائد والضائقات ؟ أليس من الصحيح أن يصارع الصعاب ، ويركب الأهوال كما أنعم بالتسهيلات والمسعدات ؟  أليس من الواجب أن يساهم مساهمة فعلية ، ولو كانت قليلة ، من أجل تعديل اعوجاج أو اكثر وهو يحمل هذه الشهادة العالية ؟ إلا ينبغي له على الأقل ان يكون نموذجا حسنا لطلابه في تحقيق العدل ومطالبة الانصاف وإحقاق الحق ونبذ الباطل ودعم المظلوم وردع الظالم ؟ ولكن كيف ؟ هل هذا ممكن ؟ هل هناك مجال لتحقيق ذلك ؟ الجواب قطعا كلا ، لأن أقل شبهة أو ظن أو تململ أو اعتراض على شيء ، أي شيء في بلده ، قد يودي بحياة الفرد وحياة أهله أجمعين فالانسان ملاحق في كل صغيرة وكبيرة . والأسرار مكشوفة ولاشك ، فالجواسيس في كل مكان ، وفي كل آن وحين . فأفراد العائلة الواحدة قد شتتوا ، ويتجسس بعضهم على بعض ؟ أية مباديْ أو قيم تكمن وراء هذه الأفعال الشنيعة ؟ هل هناك أفضع من تشتيت أفراد عائلة واحدة ؟
وليس الأمر كذلك فحسب ، فإن الطلاب ملاحقون في بلاد أجنبية ، فكيف يكون الأمر مع من يعيشون في داخل البلد ؟ وكتابة التقارير عن كل حركاتهم وسكناتهم سارية المفعول على قدم وساق . فيكلفون بمهام ، والمهام كثيرة لا تنتهي . إحياء مناسبات ، اشتراك في تظاهرات ، اعتداءات على أطراف معينة . والويل لمن يتقاعس من الاشتراك . فمبدأ "من لا يتواجد معنا يتواجد مع عدونا" هو السائد . أية رهبة يمكن أن تكون بأكثر من ذلك ؟ والأمرّ من كل ذلك التأويلات والمبالغات واسناد الاتهامات بلا طائل وبدون أدلة وبكل سهولة ويسر .
وفي أحد الأيام وقبل التخرج بشهور أتى صاحبنا صديق له مكانة في الحزب يضفي له سرّا خطيرا على حساب رقبته فيما لو كشف كما قال . فزعم هذا أنه اطلع على تقرير كتب بحق صاحبنا ، وأضاف :
- أنا احبك وأقدرك يا صاحبي ، لقد كان في التقرير اتهاما كبيرا جدا يكلفك حياتك ولاشك قبل أن يسمع لك أحد بالدفاع عن نفسك فالرحى دائرة في البلد ليل نهار ، وتدهس من تدهس بدون رحمة ، والطوفان قائم على أشده ، ولا أريد أن تكون ضحية هذا الطوفان . اسمعني جيدا يا صاحبي ، ولا ترجع إلى البلد الآن ، علّ الأمن يستتب في القريب العاجل ، وتعود بذلك آمنا .
فشكره صاحبنا ، ووعده بعدم إفضاء هذا السرّ طوال العمر . أهو تحذير أم طرد من البلد ؟ ظل يفكر صاحبنا في هذا الأمر كثيرا . فما كان الوصول إلى نتيجة قاطعة أمرا سهلا أو ميسورا . وتوصل في النتيجة إلى أن كليهما سواء ، لأن العاقبة في كلتا الحالتين ستكون وخيمة ، ووخيمة جدا .
وكان يوم تخرج صاحبنا ، هذا الذي كرس من أجله حياته كلها ، كيوم يفقد فيه المرء أعز الأعزاء . هل تتحول الفرحة بهذا الشكل إلى عزاء ؟ نعم ، وهذا ما حصل بالفعل ، فقد تحولت الفرحة إلى ترحة ، إلى تخوف رهيب من انكشاف سرّ التخرج . فترجى أستاذه بعدم إفضاء السر ، فوعده هذا بذلك . واتفق مع زوجته أن يخفي ذلك من كل فرد . ولكن ما قيمة الشهادة لو لم يشارك الانسان في فرحة نيلها الناس الآخرين ؟ وما قيمة الفرحة إذا كان الانسان لا يستطيع أن يبوح بها لأقرب الناس إليه ؟ فما كان يستطيع أن يبوح بهذا السرّ لأصدقائه ، بل حتى لأولاده خشية انتشار الخبر . ولكن هذا السرّ سوف ينتشر في المستقبل ولا محال . لا ضير في ذلك بعدما يحصل ما يحصل .  
وقرر صاحبنا قراره الصعب جدا في الذهاب إلى بلد عربي شمال أفريقي . والتمس لذلك السبل ، فوفق في مسعاه . وبرّر سلوكه بأنه سيخدم في بلد عربي ، ولا فرق بين بلد عربي وآخر عربي . وخدمته هذه في هذا البلد تعادل الخدمة في الوطن . أليست البلاد العربية كلها أوطاننا ؟  
ورغم هذا التفكير المبرر كان يوم رحلته إلى هذا البلد أصعب يوم في حياته لأنه كان يشعر أنه سيقطع آخر خيط بينه وبين بلده ، إذ ينكشف ذلك عاجلا أو آجلا . ولا مجال للعودة فيما بعد ذلك إلا بعد تغيير جذري في هيكل حكم بلده . وهذا ما يبدو في الوقت الحاضر على الأقل صعبا جدا . وهو في طريقه إلى المطار ظلّ يخابر زوجته بين حين وحين . وهذا ما دفع الشك إلى قلب زوجته فسألته : ما الذي يحصل يا هذا ؟ ألا تسافر إلى مقر عملك الجديد ؟ هل تريد أن ترجع إلى البيت ؟  
- لا لم يكن صاحبنا يقصد ذلك . فقد كان يريد أن يتأكد مما يفكر فيه ويراود خياله . كان يفكر في شيء آخر في ذلك الحين . وكان يسائل نفسه مرارا وتكرارا : هل فعلا لا يستطيع طغيان حاكم بلده أن يصل إلى هذا البلد العربي رغم أنه كان يصل إلى ما هو أبعد منه أحيانا ؟ ولقد قال طاغية بلده يوما ، وصدق فيما قال : أن يديه طويلتان ، فإحداهما تمتد إلى اليابان ، والأخرى تمتد إلى أمريكا . أي طغيان يكمن في هذا ؟ وأية صولة مرهبة يراد من ذاك ؟
وهرب صاحبنا من طغيان ، فوقع في طغيان آخر . وهذا ما يحصل في كثير من الأحيان . وللطغيان أشكال مختلفة ومتباينة . وما أكثر الطغاة حين تعدهم بالأصابع . وطغيان الطغاة في الظلم سواء .
بدأ صاحبنا عمله في الجامعة . وكان كل شيء يبدو في البداية طبيعيا ، بل وأفضل من الطبيعي . ودام ذلك فترة لابأس فيها . ولقد كان صاحبنا غير شاعر بما يحصل في الخفاء لقلة خبرته في هذا البلد . فبدا المخفي إلى العيان شيئا فشيئا . فثمة تغييرات جذرية حصلت في الميدان ، وانقلب كل شيء على عقبه . وفي نهاية أول سنة أو ما يقرب من نهايتها هجم طلاب الجامعة كليته ، وكالوا الطلاب والأساتذة ضربا بالخراطيم ، بدعوى أن الكلية اضحت وكرا للرجعيين . ولكن صاحبنا نجا من كل ذلك . وقفلت الكلية نتيجة لذلك ، وما لقفلها من مفتاح . وما هناك من شخص أو قوة تجرأ على فتح هذا القفل ، لأن القفل حصل بإرادة شعبية . ويعني فتح هذا القفل مواجهة هذه الارادة الشعبية بكل سهولة ويسر طلاب يقررون إغلاق كلية حكومية فلا يستطيع أحد من الاعتراض على ذلك وايقافهم من هذا السبيل .
نقل صاحبنا ضمن من نقل من أعضاء هيئة التدريس القليلين إلى كلية أخرى في مدينة مجاورة . فبدأ يعمل هناك سنة صعبة ، وتلتها سنة أخرى أصعب منها بكثير . فقد كانت اصابع الاتهام الضمنية تلحقهم دائما لكونهم قد أتوا من كلية مقفولة كانت وكرا للرجعيين . ولكن ما علاقة صاحبنا بالرجعيين والمتحررين فهو من بلد آخر غير أهل هذا البلد ، ولا ناقة أو جمل له في هذا الصراع المرير ؟ هذا لا يعني شيئا ، فالرجعيون من أهل البلد هم الذين عينوه .  
الطلاب في الجامعة في هذا البلد المتحرر هم أصحاب الحلّ والربط ، فهم يشتركون في كل الأصعدة بالكمال والتمام ، لا على أساس التمثيل . والتمثيل تدجيل ، ولا يستطيع شخص ابدا ، ولا يحق له ، أن يمثل شخصا آخر غيره . فهم يشتركون جميعا مشاركة جماعية ، وينتخبون رؤساء الأقسام مع أعضاء هيئة التدريس أو يقيلونهم . وتبقى أصوات أعضاء هيئة التدريس مقابل أصواتهم الجماعية أقلية قليلة . ويكون أعضاء هيئة التدريس مضطرين إلى مجاراتهم في أمور كثيرة خوفا على مصائرهم . يجمعون الكتب الأجنبية يوما بدعوى أنها دخيلة على البلد ، ويحرقونها في الحرم الجامعي ، ويكسرون الآلات الموسيقية الأجنبية في يوم آخر بدعوى أنها لا تنتمي إلى ثقافتنا العربية الأصيلة ، ولا يستطيع أحد ، ومهما كان ، ان يعترض على ذلك ، ويقف أمام هذا التيار الجارف ، لأن هذا التيار يمثل الجماهير الهادرة إلى درجة كبيرة بحيث تستطيع أن  تكسر أعناق كل معترض يقف أمامهم .
وفي السنة الثالثة الأخيرة حصل ما حصل ، رُفّع أو صُعّد صاحبنا إلى رئاسة القسم من قبل الطلاب يا للهول !!! فقد تورط صاحبنا أو وُرّط ورطة كبيرة جدا . فهو أستاذ مساعد وينافسه في ذلك أستاذان ، أحدهما من أهل البلد ، وتولى رئاسة القسم فترة من الزمن . وما توانى هذان الأستاذان من فعل أي شيء يحول ونجاحه كرئيس قسم . ومن سوء الحظ فقد توالت الصعوبات تلو الصعوبات في تلك السنة . قررت الجامعة سحب سكرتيرة القسم . ومن سيقوم بمهامها ؟ رئيس القسم طبعا . وقررت الجامعة أيضا سحب الخادم الوحيد في القسم بدعوى أنه لا سيد وخدم في البلد ، الكل سادة ، وكل يخدم نفسه . والبيت ينظفه أهله . ولكن هذه جامعة ، وليست ببيت لا ضير في ذلك . الغرفة ينظفها أهلها . أما الأجزاء المشتركة من صفوف وقاعات ودورات مياه فينظفها الطلاب ، لأنهم هم أهلها . ومن سينظم ذلك ؟ رئيس القسم طبعا !!! فسلمت أدوات التنظيف وملازمه لصاحبنا ، فبدأ يصدر قوائم بأسماء الطلاب الذين يتولون التنظيف في كل أسبوع ، ولكن دون جدوى ، فالطلاب لا يرغبون في فعل كهذا . ولا يستطيع فعل أي شيء وهم أهل الحلّ والربط .
وبعد فترة سحبت كاتبات شؤون الطلبة بدعوى أن القسم سيتولى هذه المهمة ؟ ومن في القسم غير رئيس القسم ؟ فتسلم صاحبنا الملفات الخاصة بالطلبة ، فحملها إلى رئاسة القسم . وهكذا يكون رئيس القسم ، وما أدراك ما رئيس القسم ؟ رئيس قسم ، أو عضو هيئة تدريس ، أم سكرتير ، وخادم أو قل مساعد خادم ، ومسؤول عن شؤون الطلبة . كل هذا يتولاه شخص واحد فقط وبدون مساعد في فترة عصيبة جدا .
وظل صاحبنا يصارع هذه الصعوبات من جهة ، ويصارع مكائد الأستاذين من جهة أخرى . وكان يحاول المستحيل . ومع كل ذلك فقد حصل أمر آخر مختلف طغى على كل ذلك . فقد كان الأمر مريرا جدا . لقد كان هناك تشبث بانقلاب ضد الحاكم الأوحد في هذا البلد . فبدأت المحاكمات والاعدامات تلو الاعدامات . ولكن بيد من ؟ بيد طلاب الثانوية أو الجامعة ، وهم الجماهير الشعبية .
 
واعتقل في تلك الفترة عدد من أعضاء هيئة التدريس في كلية صاحبنا من أهل ذلك البلد . وفي اجتماع مشترك أنعقد للطلاب وأعضاء هيئة التدريس اقترح أحد الطلاب تولي المجتمعين محاكمة هؤلاء المعتقلين . فما استطاع أحد أن يعترض على هذه الفكرة خوفا ورهبة . وساد صمت رهيب كاد أن ينتهي بالموافقة على ذلك . فجمع صاحبنا جأشه لحصانته الجزئية ، لكونه أجنبيا في هذا البلد ، معترضا أن هذه المسألة قانونية صرفة ودقيقة للغاية ، وليست من شؤون أعضاء هيئة التدريس أو الطلاب ، فالمسألة تحتاج إلى دراية خاصة بالقوانين واطلاع كامل بالسوابق وخبرة طويلة بمثل هذه القضايا ، واحتمال الوقوع في أخطاء أكبر من تحقيق الحق ، ومن الأفضل ترك ذلك الأمر للحكام والقضاة والمختصين . ولقيت هذه الفكرة دعما من عضو هيئة تدريس آخر ، وتلاه غيره وغيره . وألغيت الفكرة ، ونقذ هؤلاء الزملاء من إعدام محتوم .
وصادف الانقلاب المزعوم شهر رمضان بما يوافق سنة 1984 م . وكان فعلا رمضانا صعبا ، وصعبا جدا . لا للجوع والعطش والعمل في هذه الظروف الصعبة ، بل للأوضاع السياسية المتدهورة التي ترتبت على الانقلاب المزعوم فالكل خائفون على أنفسهم ، ويعملون على مجاراة طواغيت الحاكم وأزلامه ، ويتحاشون التدخل في أمور معينة خشية التورط بشكل أو بآخر .
لقد كانت المحاكمات على غير المعتاد تجري في الميادين وليست في المحاكم من قبل طلاب الثانوية ، وليست من قبل الحكام . وهل تستطيع المحاكم أن تضم هذه الأعداد الكبيرة من الناس ؟ وتصدر الاعدامات وتنفذ بحق المتهمين بسهولة ويسر . أية جريمة أكبر من تفكير في انقلاب ضد الحاكم الأوحد . وتنفيذ حكم الاعدام يذاع من التلفزيون في كل يوم رمضاني ، وما قبل الافطار بساعة أو أقل من ساعة . ما هو الهدف من ذلك يا ترى ؟ هدية إفطار أم تخويف الصائمين في أضعف لحظاتهم ؟؟؟؟ ولا ينسى صاحبنا محاكمة من المحاكمات حيث وجه إلى المتهم السؤال التالي :
- هل أنت كلب ضال ؟ فأجبر هذا على الاجابة بنعم رغم أنفه . يا للعجب ، كيف يستطيع إنسان أن يحكم على نفسه بأنه كلب ضال ؟ ولماذا ؟ لأنه لم يكن يطبق التعاليم الدينية في بلده إلى أن ذهب إلى الخارج ببعثة ، والتقى هناك بباكستاني تعلم منه هذه التعاليم ، وبدأ ينفذها يا للعار !!! كيف يتعلم العربي تعاليم دينه من باكستاني ؟ ألا ينبغي أن يتعلم الباكستاني تعاليم دينه من العربي وهو المصدر في ذلك ؟ فهو اذن كلب ضال ليس إلا .
وانعكس كل ذلك على العلاقات بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس . وكانت فترة رمضانية عصيبة رهيبة مرت على الجميع بصعوبات بالغة جدا . وفي صباح أحد الأيام سيق جميع أعضاء هيئة التدريس والطلاب إلى ساحة عريضة في الحرم الجامعي كالأغنام ، وهم لا يدرون لذلك سببا ، حتى إذا ما جاؤها وجدوا فيها مشنقة كبيرة رفعت في وسطها ، والناس حولها زحام شديد . والهتافات بحياة الزعيم الأوحد وموت الخونة ترن في الآفاق . فصعد الطلاب على المنصة ، وقرؤا قرار إعدام شخص قيل بأنه محام ، وجرمه أنه انتمى إلى حزب ، ومن تحزب فقد خان ، ووجب الاعدام . فرفع الشخص إلى المشنقة ، وبان بملابسه السوداء من بين الزحام ، وارتفعت الهتافات بحياة الطاغية ، والموت للخونة مرات ومرات ، ونفذ الاعدام خلال دقائق معدودة بكل سهولة ويسر .
لقد كان المشهد رهيبا ، ورهيبا جدا . فاصفرّت الوجوه ، وجفّت الحلوق ، وأخرسّت الألسنة ، وضاقت النفوس ، وساد صمت رهيب لفترة وجيزة جدا كان الموت بعينه ، ثم تعالت أصوات النساء بالعويل والصراخ ، وأغمي من أغمي عليه .
لم يكن أحد ينتظر مثل هذا المنظر ، ولا يستطيع أحد أن يطيق مثل هذه الوحشية اعدام في حرم جامعي في يوم من أيام رمضان بسبب انتماء لحزب . أية وحشية هذه ؟ وأية رهبة هذه ؟ ولقد كانت رهبة رمضانية ، رهبة طاغية في رمضان وقد ارتكب أكبر جرم حرمه الخالق . وما كانت تلك الرهبة من رمضان في أي حال من الأحوال .
 هذه الصورة لا تزال منقوشة في الذاكرة كما ينقش الختم الجمر على اللحم . وهل يمكن أن يزول مثل هذه الصورة من الذاكرة ؟ فثلاث وعشرون سنة ليست بكافية لمحوها . وما تمحوها ولاشك غير الموت .
 وعندما أقلّ صاحبنا الطائرة متوجها إلى بلد آخر غير عربي إلا وشعر بأنه نجا من هذه الضوضاء والغوغائية . فتحسس جسمه فوجد أنه في واقع ، وليس في حلم . فدمدم بينه وبين نفسه : فلا عودة إلى بلاد الطواغيت بعد .


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة