الورم – قصة : محمد أوبالاك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسالأستاذ عبد القادر الدردوري، محام معروف و يملك مكتب محاماة كبير يطل على أهم شـــــوارع المدينة، له من الكاتبات سبعة و من الكتاب ستة و من المحامين المساعدين ستة كذلك، لا يـــتوانى أن يقول بزهو أنه أبقى على مكتبه مفتـوحا لأغراض اجتماعية تصب في عدم حرمان فريق العـــــمل الذي يشتغل معه من موارد قوته اليومي، خاصة و أن مكتبه يدفع أجورا سخية و محترمة، هي مــــــوضوع الساعة لمجموعة من مكاتب المحاماة الأخرى ... فهــو حسب قوله يملك من المال الكثير و له مشاريع ناجحة تعفيه من انـتظار عائدات الأتـــــــعاب و النـسب المئوية التي يستفيد منها جراء توليــــــــه لقضايا ونزاعات بعـــــــض الشركات...بالرغم من كونه لا يبرح مكتبه منذ دخوله على الساعة التاسعة صباحا إلى حدود الساعة السابعة مســـــــاء دون احتساب ساعة تناول وجبة الغذاء، سواء بــــمنزله أو بأحد المطاعم الفاخرة... فهو يجد متعة كبـــــــرى في الجلوس لمكتبه لساعات طـــــويلة، لكتابة المقالات و المذكرات و استدعاء كاتباته و كتابه و محاميه المساعدين، لأغراض شتى تـــــتراوح بين إصدار الأوامــــر و التعليمات قد تصل أحيانا من مجرد تأنيب إلى درجة السب و الشتم ، متى رأى أنه من الضروري التعامل بهذه الصيغة ردعا و تحسـيسا  للمؤنب أو المشتوم بمغبة تماديه في الــخطأ، و أن عليه تجنب ذلك في المرات المقبلة... يتعامل بذكاء مع كل مستخدم لديه على حدا، تمــاشيا مع التكوين النفسي لكل منهم استنادا لخبرته الطويلة في التعـامل مع المستخدمين المتعاقبين على مكتبه لمدة تجاوزت الثلاثين سنة...

الأستاذ الدردوري، متزوج و له أكثر من سكن فاخر داخل أرض الوطن وخارجه ، و أكثر مــــن سيارة فارهة... أبناؤه الأربعة أكبرهم يدرس بجامعة من جامعات كندا و البنت الـوسطى في جــــامعة باريس و بنتيه الأخريين يدرسن في المستوى الابتدائي في مدرسة للنخبة داخـل الوطن، باختصار يلزمه شهريا من المصاريف المالية الشخصية و المهنية و العائلية ما يكفي لشراء شقة اقتصادية لمحام مسـاعد مبتدئ صـغير مثلي،  لا زال يعانى الأمرين لجمع ربع المبلغ الـــــذي يدفعه الأستاذ الدردوري كمصاريف...
الأستاذ الدردوري سكير و لا يمتنع عن شرب الخمر المخلوط بالصودا، إلا مع اقتراب دخول شـــهر رمضان، و السيجارة الكوبية لا تبرح شفتيه، دخانها يحدث ما يشبه ضبابا كثيفا داخل مكتبه الشخصي  و رائحته القوية تثير الاشمئزاز و الغثيان لغير المدخنين من أمثالي....

دخل الأستاذ الدردوري هذا اليوم إلى مكتبه الخاص شريدا، مهموما، لم يمر بالمكتب الســـــفلي على عادته للسلام على كاتبته رقم واحد، قبل الصعود للمكتب العلوي حيث يتواجد مكتبه الخاص كما أنه لم يكلم  كاتبته الخاصة، التي تتولى فتح باب المكتب الشخصي بالطابق العلوي، بالموازاة مع وظيفــــتها الأسـاسية المتعلقة بفك أرقام الحسابات المهنية و الشخصية، و الاهتمام بصرامة و تفان بمـراسلة الموكلين من الشركات، بجداول آخر المستجدات المتعلقة بقضاياهم،  كما أنه  لا يفوتها إرفاق الجداول بفواتير الأتعــــاب التي تلتمس منهم بكل احترام توقيع شيكات بالمبالغ المطالب بها...
فتحت الكاتبة الباب دون التجرؤ على استفساره أو حثه عن إخباره بمزاجه السيئ لهذا اليوم، نظرا للود و الاحترام المتبادل بينهما، فهي من بين الأشخاص القدامى الموثوق بهم داخل المــــكتب...
جلس الأستاذ الدردوري و أخذ يسترجع ما قاله طبيبه الخاص بالأمس...
- بعد الكشف بالمنظار الداخلي، تبين أن لديك ما يشبه الورم في المعدة، و التحليلات التي ستـــــجريها هي التي ستتكفل بالجواب عن مجموعة من التساؤلات... حالتك مــــستقرة
و لا داعي لاسـتباق الأمور و إبداء القلق...
   - لا يهم كل شيء بأجل، و لله ما قدر وما قدر قد كان ( قالها الأستاذ الدردوري بـصوت خـــــــافت منهزم)...
قاطع جرس الهاتف من المكتب السفلي التابع للمكتب العلوي حيث يتواجد مكتب الأستاذ الدردوري، خط تذكره.. كانت الكاتبة رقم واحد بالمكتب.. سيدة قاربت الخمسين من العمر،و تفتخر دائما بكونها اشتغلت مع الأستاذ الدردوري و هو في بداياته و أنها تعرف كل كبــــيرة
 و صغيرة في هذا المـــــــكان، فهي حسب كلامها الأذن و العين التي يسمع بهما الأستاذ، لـــــذا فبقية فريق العمل يــــأخذ حـــذره منها و يحتاط  لما يقوم به من سلوكيات و ما قد يتفوه بـه من تصريحات داخل المكتب...
 سألته عن سر مزاجه العكر اليوم، و هل يستطيع إخبارها بما ألم به ؟
أجابها، أنها مجرد  مشاكل عائلية عادية تحتاج لبعض الوقت لتحل نفسها بنفسها.
لم تقتنع بما قاله عبر الهاتف، و فضلت الصعود، إليه فتحت الباب على عادتها دون استئـذان و أخــــــذت تحدق إليه بحنان و تستفسره عن حاله بصوت أقرب منه إلى الهمس، عن سبب كآبته...
نظر إليها مطولا و قد أخرج من فمه هالة دخان سيجاره الكوبي و يداه ترتعشان، أخبرها بما قاله  طبيبه الخاص، بخصوص وجود ورم يعشش في معدته منذ مدة، و أن عليه إجراءات تـــــــحاليل مكثفة لمعرفة مدى خطورة الوضع...
لم تصدق الكاتبة ما تسمع، و استرسلت في سؤاله حول إذا ما كان يحس بألم معين، قـــبل أن تقـــترح عليه بقلق زائد و مصطنع، انه يتوجب عليه استشارة طبيب آخر أو السفر بأقـــــصى سرعة إلى  فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريــــــكية لاستكمال الكشوف الطبية هناك...
أخبرها، أن صديقه الطبيب من أمهر الأطباء بالوطن و أشهرهم، فلا حاجة لـــــــلذهاب إلى طبيب آخر أو السفر خارج أرض الوطن...
طأطأت رأسها و همت بالخروج و هي تدعو للأستاذ بالشفاء و طول العمر...
نظر إليها مبتسما قبل أن يشكرها و يؤمن على دعواتها له...
استغرق في شروده، و أخذ يستعرض شريط حياته من أوله إلى آخره، و تساءل فـي قرارة نفسه في حيرة و ألم : " أيمكن أن أكون مصابا بهذا المرض الخبيث القاتل، أيمــــــــكن أن تكون هذه هي نهايتي و نهاية هيلماني و ثروتي و تجوالي في كل أنحاء العالم؟ أؤمن بالقدر و بأن الأجل هو الذي يقتل صاحبه و أنه لا راد لقضاء الله، لكن كيف باغتني هذا المرض وأنا  لم أحس به  قط قبل الأمس، ولم أشعر أبدا بأي ألم أو مجرد وخز خفيف على صعيد المعدة، اللــــــهم بعض الأوجـاع العادية على مستوى الأمعاء نتيجة إفراطي في شرب الخمر أو تناولي لبعــــــــض الأغذية غير الصحية؟ كيف سينتهي بي الأمر على فراش الموت و آلام السرطان يمزق أحشـائي، لم يشعر إلا و دمعة ساخنة تنهمر من إحدى عينيه...."
             ************************************
انتشر الخبر بسرعة عن طريق الكاتبتين، و علم كل طاقم المكتب حسب ترتيب و أقدمية كل فرد فيه، ابتداء بالمحامي المساعد رقم واحد و انتهاء عندي أنا، كآخر محام مساعد التــــحق للعمل هنــــا...
 وقد أخذ كل منهم، الخبر من زاويته الشخصية... المحامي المساعد رقم واحد، أضـــــحى يفكر في حالة صحة مرض الأستاذ، فــمن سيتكلف بالمكتب من بعده، و قد رأى في نفسه أهلا لذلك...
بينما الكتاب أخذوا يفكرون في مصيرهم، لو استوفى الأستاذ أجله، فهم مــــجرد أشخــاص عاديين و ليسوا بمحامين مساعدين، فهم يعولون عائلاتهم من وراء الأجــــــرة الشهرية التي تمنح لهم مقابل عملهم بهذا المكتب... في حين أن أي محام مساعد هنا يمكن تدبــر أمره بفتح مكتبه الـخاص أو التعيش مؤقتا بما ادخروه من مال ناتج عن عائدات ملفاتهم الخاصة التي وكلوا فيها سرا و دون علم الأستاذ صاحب المكتب...
مرض الأستاذ غير عادات طاقم المكتب بل أقام الدنيا و أقعدها و قلب موازين الأمــــــور... جعل المكتب بمن فيه، يستغرق في صمت مريب ، و جعل لكل منا جزيرة خاصة من التفــــكير في مدى مواكبة مشاريعه و آماله و أطماعه مع القدر المحتوم هذا... قلت  في قرارة نفسي  حســــنا فعلت حينما فكرت بإنشاء مكتبي الخاص سرا و دون علم أحد من الطــاقم ، و قد أجلــــــــت  مصارحة الأستاذ الدردوري بأمر ما أقدمت عليه سرا، إلى حين تحسن  الظروف و مجيء الــوقت الــمناسب لاستئذانه و شكره و مغادرة المكتب، بعد أن أكون قد جمعت نصيبا مهما من المال الذي أدخره من اجري كمحام مساعد، يجعلني أسير مكتبي الخاص دون عوائق تذكر، ريثما تتحـــــسن الظروف و أنمي رصيدي الخاص من الموكلين و القضايا، و بعد أن أكون قد قمت بمهام تصـــفية ما بعـهدتي  من إجــراءات ومـلفات، أوكلت بها منذ التحاقي بمكتبه... لكن مـرض الأستاذ الدردوري المفاجئ غير جميع الاتجاهات و جمد جميع المشاريع...الورم الذي لم يحدد جنسه بعد، أهو حميد أم خبيث؟ أصبح يتحكم الآن، في مصير عشرين فردا داخل المكتب...
 
 
                                    محمد أوبالاك

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة