شاعر ممنوع من الصرف – قصة : مصطفى سهيل

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسكان مستغرقا في عالمه المغلق على ذاته..يستلهم تجربته ويستوحي تأثيراتها العميقة على نفسه..يلفه الهدوء وتغشاه السكينة..ثم سرعان ما يضطرب في حركات لاإرادية وتصدر عنه أصوات كالهمهمة حينا وكالهذيان حينا آخر..كان كأنه في حالة مخاض استعصى فيها الطلق وامتزج فيها الألم باللذة..ألم انفصال كائن جديد عن ذاته ، ولذة إعطاء الحياة لهذا الكائن الجديد..أصبحت هذه الحالة مألوفة لديه ، فاستأنس بها واستأنست به..أصبحت تلازمه كلما خلا إلى نفسه وشرع في كتابة قصيدة شعرية جديدة..لم يعد يذكر كم من الوقت مر عليه وهو على هذه الحال..ولا يريد أن يذكر.. فكل همه الآن هم اكتمال شروط الوضع وحلول لحظة قطع الحبل السري بينه وبين مولوده الجديد ، ليخلد إلى الراحة بعض الوقت قبل أن تعاوده الحالة من جديد..
كان منقطعا إلى عالمه السحري هذا عندما سمع طرقا على الباب..بدأ الطرق خافتا وهادئا ، ثم أخذ يعلو ويشتد مع مرور الوقت..أحس وكأن ماء مثلجا قد صُبَّ عليه من رأسه حتى قدميه..خمَّن أن يكون الطارق صاحب البيت جاء كالعادة يطالبه بالمتأخر من مستحقات الكراء..ظل يماطله لعدة شهور، ويَعِده بقصيدة مدح عصماء ترفع قدره بين المُلاك المنافسين له ، وتحقق له نوعا من الدعاية ليتهافت على دُوره الراغبون في الكراء..وهو يضمر له في قرارة نفسه قصيدة هجاء مذقع تفضح جشعَه وتكالبَه على جمع المال وقلة صبره على ذوي العسرة من أمثاله..

أو هو ربما صاحب الدكان القريب ، والذي راكم عليه مبالغ مهمة من الديون ، فجاء يطالبه بتسديدها..والحقيقة أنه تحمله كثيرا..إذ لو كان له زبونان أو ثلاثة من صنفه لكان أعلن إفلاسه من زمان..وما حمله على الصبر إلا استحضاره لما بقي في ذهنه من سنوات الدراسة الأولى عن فقر الشعراء وشظف عيشهم وسوء أحوالهم المادية ، فرقَّ لحاله وآمن بالوعد الذي ظل يُمَنـِّيه به عن صدور ديوانه الأول وما سيُدِرُّه عليه من أرباح طائلة ستغير من وضعه ، وتجعل جميع أهل الحي يخطبون وده ، ويتقربون إليه ، ويرغبون في صداقته ، ويطمعون في صلاته..

تحامل على نفسه وسار بخطى وئيدة نحو الباب..يقدم رجلا نحو الاستعطاف والمزيد من المماطلة والتسويف ، ويؤخر الأخرى نحو التملص والهروب والاختفاء..ثم قرر المواجهة ، وليكن ما يكون..فتح الباب الذي ما زالت طرقاته تتوالى دون انقطاع ، وكأن الطارق صاحِبُ حاجة لا يرى إلا قضاءها..فإذا برجل رث الهيئة ، أشعث ، أغبر ، علا وجهَه شحوب فاقع ، وسرى في جسده هزال شديد..وبقدر سعادته لأنه لم يجد صاحب البيت أو صاحب الدكان كان استياؤه من هذا الغريب الملحاح ، الذي أخرجه من عالمه الجميل وقطع عليه لحظة إبداعه وأعاده إلى همومه اليومية ، وما تحدثه في نفسه من رعب متواصل ، كأنه الموت البطئ..أطلق الرجلُ الشبَحُ صوتا متهدجا هو أقرب إلى البكاء منه إلى التوسل: أعطني صدقة من فضلك..ارحم عزيز قوم ذل.. هاله الصوت ، وأذهله مضمونه وما انطوى عليه من انكسار وتحطم..وآلمه أنه لا يملك في بيته ما يسد به رمق هذا المحتاج..انتبه إلى أنه ما زال يمسك القلم بيده ، فأوشك أن يشرح للرجل أن كل ما يملكه هو هذا القلم ، وما يجود به من أفكار ومعان ، لم تعد تسمن ولا تغني من جوع…ولكنه ارتدى قناع الحزم والصرامة فخاطبه في جفاء ، وبلهجة من يريد أن يحسم الأمر نهائيا: انصرف يا أخي..فليس لدي فضل مال أتصدق منه عليك..بل ليس لدي مال أصلا ، فكيف تريدني أن أتصدق عليك..هيا انصرف..انصرف..وهمَّ بإغلاق الباب ، لولا أن الرجل رفع يده ـ وقد بدا عليها تعب السنين وشدة الحاجة ـ مشيرا عليه بالانتظار: يا هذا.. كيف تريدني أن أنصرف وأنا اسمي أحمد..وأحمد لا ينصرف..لقد علمونا أن أحمد ممنوع من الصرف لأنه دال على العلمية من جهة ، ولأنه جاء على وزن الفعل من جهة أخرى..فكيف تريدني أن أنصرف؟..

استهواه هذا الرد ووجد في نفسه هوىً..فأدرك أن الرجل كما قال فعلا عزيز قوم ذل..ولكنه لا يملك من الأمر شيئا..فمن أين له بما يتصدق عليه غير هذا القلم وبضع وريقات متناثرة هنا وهناك..حتى الكتب التي كانت كل رأسماله الذي يمكن أن يفخر به باعها جملة وتقسيطا ، وأسكت بثمنها جوعَ أيام معدودات..لا مجال إذن للمكابرة ، ولا سبيل إلى الإيثار..قال وهو يتصنع المزيد من الحزم والصرامة: اسمع يا رجل..إن كان اسمك أحمد فأنا شاعر.. والشاعر يصرف ما لا ينصرف..انصرف إذن واتركني لشأني..ظن أنه أنهى الموضوع بانتصار غير مشهود..همَّ من جديد بإغلاق الباب ولكن ذات اليد المعروقة والشاهدة على قساوة الناس والزمن منعته من ذلك..فقال الرجل بصوت شحنه بكل ما تيسر له من نبرات الحسرة والانكسار والإحباط: اسمع أيها الشاعر..أنا أيضا كنتُ شاعرا مثلك..ولطالما صرفتُ ما لا ينصرف ومن لا ينصرف..ولطالما منعتُ من الصرف ما ينصرف ومن ينصرف..وها أنت ترى ما انتهى إليه حالي من بؤس وشدة حاجة..ألم أقل لك ارحم عزيز قوم ذل؟ فمن في القوم أكثر عزة من الشاعر الذي يحمل بين جوانحه نبض الناس وهمو مهم ، ويبني أحلامهم ، ويخلد أمجادهم ، ويعطي لحياتهم معنى..؟ ولكنهم لا يدركون قيمته ويعتبرونه مجنونا ومجرد فضلة ، فيفردونه إفراد البعير الأجرب ، ويعيش بينهم ذليلا فاقدا لكل اعتبار..وما آلمني حقا أنني اليوم ألقى نفس المعاملة ممن يزعم لنفسه أنه هو أيضا شاعر..إذن هوِّن عليك..أغلق عليك بابك..وعد إلى شعرك ، وعش في خلوتك..احترق ببطء لتنير لغيرك السبيل..اكتب مأساتك ومأساة الناس من حولك..لكنهم عنك وعنها لاهون..

بُهـِتَ الشاعر كأنما ضُرب على قفاه..وفغر فاه من الدهشة..ثم لم يتمالك نفسه ، فانقض على الرجل الواقف أمامه يضمه إلى صدره ويقبل رأسه وما بين عينيه وكأنه عزيز ظل يفتقده من زمان..أمسكه من ذات اليد المعروقة والموشومة بجَوْر الناس والزمن ، وأدخله برفق إلى البيت قائلا فيما يشبه الاعتذار: ادخل يا أخي..فلا عاش من يصرفك في هذا الزمن الردئ..لقد كنتُ منشغلا بقصيدة بدأتُ بعض أبياتها عندما طرقتَ الباب..فما رأيك أن نكملها معا؟..وأن نصدر معا الديوان الذي ما زال عصيا؟..وأن نؤسس معا ناديا للشعر يُشيع بين الناس قيم الخير والحق والجمال؟..وأن ننشئ معا رابطة للشعراء تحفظ ماء وجههم في الحياة ، وتصون حقوقهم بعد الوفاة؟..وأن…وأن.. .وأن…

وتلاحقت في ذهنه صور لأحلام جميلة ظلت تداعب خياله زمنا طويلا..ثم سرعان ما اختلطت بها صور صاحب البيت ، وصاحب الدكان ، والقلم اليتيم الذي لا يجود سوى بأفكار ومعان لا تسمن ولا تغني من جوع..
 
مصطفى سهيل - سلا الجديدة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة