طاب ليلك يا قمر – قصة : طارق مراد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasse.orgها هو القمر يطل بوجهه النحاسي من خلف الجبال الداكنات. قرص كبير يشق السماء بسلاسة ليعتلي كبدها. لا غيم يعكر صفوه الليلة. سيضيء ويضيء حتى آخر رمق في ليلته هذه.
صوت إغلاق باب حديدي يصدر من مكان قريب. إنه "وسام" خرج من منزله ليستنشق هواء هذه الليلة القمرية المنعش، وليخفف شيئا من ثقل الحرارة على جسمه. إنه فصل الصيف، فصل الحرارة والبعوض الفاقد للحياء، والذباب الذي ينام ليستعد ليوم جديد من الشغب والمغامرات مع الأواني المتسخة ببقايا الطعام، وزجاج النوافذ، وفخاخ العناكب المثبتة في زوايا المنزل.
خطوات حثيثة على الرصيف تصاحبها فرقعة الأصابع كعادة "وسام"؛ فهو يحب أن يمشي ببطء كي يستمتع بمحيا السماء تعلوه حبيبات النجوم اللامعة ويتوسطه القمر الساطع. وما فرقعة الأصابع سوى عادة لا تفارق " وسام" فحسب. سار هذا الأخير في خط مستقيم إلى أن بلغ جدار حديقة لمنزل كان يسكنه أحد أصدقائه القدامى أيام الدراسة، إلا أنه الآن غير مأهول، ومالكه وضعه تحت رحمة البيع.
أسند ظهره للجدار متكأ رافعا رأسه قبالة السماء، قائلا للقمر « طاب ليلك يا قمر ». هذا الأخير قد تقلص حجمه في مشواره كي يتوسط قبة السماء. كأنه كان في حمية لينقص وزنه. ومن يدري.. ربما كان يود أن يكون وسيما وهو وسط السماء. محياه لم يعد نحاسيا كما كان. لقد صار ذا لون فضي مشع. أكان القمر يضع مساحيق وأقنعة كي تكتمل وسامته ! ؟ لا أظن.. فالقمر صريح مع عشاقه..
على كل "وسام" لا يمل من تصفح هذا المحيا الفضي؛ فهو يأخذه بعيدا صحبة خياله الواسع، يغرقه ثم يغرقه في أحلام وأحلام، وبين الفينة والأخرى يحيله على ذكريات يتصارع فيها الحزن والفرح، فتراه وقد بدت عليه ابتسامة غير مكتملة المعالم، لتسكتها قطرات دمع متراكمة تنتظر قطرة الدمع التي ستفيض بكأس مقلتيه. هو "وسام" مع القمر في تأمل حد التخمة.
       فرقعة الأصابع من جديد كأنها موسيقى هذا اللقاء. على وقعها خطى وسام خطوات متناسقة كي لا يفقد وصاله مع القمر. ليجلس أخيرا وبهدوء على رصيف الشارع، باسطا رجليه إلى الأمام واضعا إحداهما على الأخرى دافعا يداه نحو الخلف، مطأطأ الرأس يستجمع شظايا أحلامه على إيقاع زفرات منتظمة يصدرها من أنفه، ونظرات شاردة يعكسها أحيانا على علبة لأعواد الثقاب ملقاة وسط الشارع وأحيانا على أصابع قدميه. لكأنما يبحث عن حلم أكثر واقعية ليستعرضه تحت ابتسامة القمر.
       وهو على تلك الحال من الشرود، إذ بمصباح الشارع المنتصب على يمينه ينير فجأة ويرسم بقعة ضوء دائرية تنافس ضوء القمر. «  مصباح مجنون ». بصوت يكاد لا يسمع يصف "وسام" مصباح الشارع ذاك، فهو المصباح الوحيد في هذا الشارع الصغير. وفي الحقيقة كأن المصباح مجنونا فهو ينير لدقائق معدودة ثم ينطفئ لساعات.
بعثرت طلة هذا المصباح البهي بعضا من أفكار "وسام" فانزعج وهم بمغادرة المكان إلى مكان آخر لا إضاءة فيه سوى شعاع القمر. لكن المصباح انطفأ ليمتص جميع خيوط النور التي أرسلها من جوفه. « إنطفاءة إلى الأبد.. آمين ».
ساخطا وهو ينظر إلى المصباح مقطبا جبينه، كأنما سلبه المصباح أحلامه.. وأية أحلام.. أحلام لا تكاد تتضح صورها في مخيلته حتى يمزقها واقعه الكئيب ويلقي بها في سلة المستحيل. رغم هذا يظل يلملم أجزاء الصور لأحلامه القمرية،لعل صورة من بين تلك الصور ترى النور في يوم من الأيام.
وببطء شديد رفع رأسه نحو السماء لتستقر نظراته الثاقبة على ذاك القرص الفضي اللامع في سكون.. ذاك القمر.
وببطء شديد أيضا تمدد على بساط الرصيف فاتحا ذراعيه وكأنه يود معانقة واحتواء ضياء القمر الممتد. يقلب نظره ذات اليمين وذات الشمال في جولات بين النجوم، وبين كل جولة وأخرى يغربل أحلامه على وهج القمر. دون ملل أو كلل..
  أبى النعاس إلا أن يكون له دور في سيرورة الأحداث فألقى بستارته على "وسام" فأرٍداه نائما يشخر شخيرا متقطعا..
 ترى أيكون   قد حقق أحلامه جميعها في نومه ذا، أم أن الكوابيس قد تحالفت مع واقعه المهترئ على إلجامه كلما أراد المضي قدما.. ربما.
بعد مضي ثلث ساعة على سطوة النوم.. أفاق "وسام" فنظر تلقائيا إلى الأعلى وتمتم قائلا:
            « ربما أزعجك شخيري أيها القمر.. آسف ». طفت على وجهه ابتسامة بلهاء حاول أن ينمقها لكن النعاس أخمدها،ليسكت تدريجيا أنفاس جفنيه. فيقع صريع النوم مرة أخرى.. كانت الساعة تشير حينها إلى الثالثة وبضع دقائق ليلا، ليبدأ القمر في عده التنازلي وشحوبه البطيء..
 أفاق "وسام" فجأة وبدا عليه الفزع، وجعل يلتفت يمينا ويسارا، ويتحسس من حوله كأنما فقد شيئا.. وإذا بعينيه تقعان على قرص القمر المسافر في درب السماء. لتسكن حركاته والتفاتاته. بينما أصابع من قبضة النوم ما تزال ممسكة بتلابيب وعيه. ليهدر قائلا: « خذني معك أيها القمر .. ».

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة