العبير - قصة: يسري الغول

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

evettes-anfasse"إليها وحيدة تغادر أصقاع المدينة،
لروح الشهيدة عبير يوسف سكافي، التي رحلت وفي قلبها شوق لحضن أبيها الدافئ"
***
"هــي"
جاءها المخاض عند جذع نخلة...
النخلة سامقة، الجذع طويل، والألم يفترش الوجه المغبر بالتراب. تتشبث المرأة بالهواء، تتأوه. آلام الطلق تفجعها. العينان تغوران في البعيد، وصورة الزوج خلف قضبان الفقد تراوحها، تلوح كطيف ملون. تواسي نفسها مع كل طلقة. تزفر الخوف، الجوع، الألم. تتمتم للريح: "ليته لم يخرج للبكاء على وجه القمر" ثم تذوب.
*****
"يوسـف"
أشرقت صورة أبيه في الحلم، وفي الحلم راوده حلم آخر. فقال مرتجفاً: "أهذا أنت يا أبي؟!"، سأل نفسه مرات عدة: "أبعثت من رقادك؟!" ابتسم له العجوز، ثم أشار بيده أن اتبعني فتبعه، وحين وصلا مقبرة المدينة، كان خيط النور يعانق جوف السماء.

وقف الأب برهة. أخرج من جيبه بذره. صارت وردة، صارت طفلة، وقبل أن تنضح روحها بالحياة أمسكها يوسف برفق، فابتسم الأب وقال بانكسار:" أخشى أن يلقي بها يهوذا في البئر يا ولدي." صمتا معاً كأن على رؤوسهم البنادق، والدمعة المجروحة خرجت من رحم العين التي اغتصبت البسمة، همس يوسف للريح:" لا تقلق يا أبي، فيهوذا أخي". ثم امسكها، احتضنها حتى كاد أن يلصقها بجسده، والوردة تذبل من فرط اللذة. وحين يحاصره الجند بأصواتهم النزقة، وملابسهم المتخمة بقاذورات الجبن يستيقظ من حلمه الأول، يغلق الأرض على جسد أبيه، وشعاع النور يغادر سريعاً، تاركاً خلفه حبات لؤلؤ منسية. يصرخ الجند بصوت يهوذا الذي يعرفه:" نريد الوردة/ العبير." والوردة تئن من الفقد، تموت. يسقط يوسف في البئر من جديد/ صوته يعلو، يصرخ، أنجدني يا أخي، يا أبي، ويهوذا يضحك، يضحك، "لقد بات أبوك أعمى لا يبصر الأنواء".  يستيقظ يوسف من حلمه الثاني، يمسح عينيه. يدفن الوردة بقلبه ثم يتسلق البئر بحبل الرعاة، وقبل أن يغادر سور المقبرة، تتهادى الوردة بين كفيه، تناديه بصوت خافت: "ما زلت أنتظرك يا قلبي المعبأ بالحنين".
***
"هــي"
كجثة هامدة تسقط، ويسقط الجنين على الأرض المغمسة بالظمأ.
.. في الصباح تستيقظ (بهية)، والناي يعزف أرق الليالي الغابرة. تفتح عيناها بجهد، تبحث حولها عن "عبير الروح"، لكنها غائبة.. "لربما تلهو مع القمر" هكذا تراودها الظنون، تتمتم:" أين ذهبت بك الريح يا يوسف"، "أين ساقتك قلاع اليباب"، وفي قلبها غصة لحلم لم يتركها حتى ولغت رمال الصحاري، فقد روادها أحد عشر جندياً، انقضوا عليها كفريسة تائهة، ويوسف يلهو في البئر مع الضباع.
(بهية) التي بحثت من جديد، وتاهت في الدروب. عادت بغير الوردة. صوتها يعلو في الصحراء. ورجع الصدى يحمل الرسالة، فتقرر العودة حاملة خطيئتها بين عينيها، تسافر عشرات الأعوام، وحين تعود لحضن المدينة تبتسم، فالطفلة نبتت من جديد بين قدميها، وخرجت تلهو في الأزقة المعتمة، وفي يدها صورة الأب المسافر مع الضباب.
***

 

"يوسف"
حين أخبروه بأنه سيمكث هناك حتى يموت، ابتسم.
تجهمت وجوههم فقالوا له بغيظ بأنه سيظل حتى يتعفن. لم يعبأ بهم/ لم يعد يبال بشيء، ثم علت على وجهة ابتسامة ساخرة. وأخبرهم بينابيع الرجولة في الأزقة المتسعة للهواء، وبأن الذين ولدوا من رحم الموت سيأتون، سيكسرون الزجاج الذي حال دون عناق "العبير". و... وقبل أن يتم حديثه، يأتيه الخبر كوقع الصدمة عليه.
لقد ماتت عبير.
***
"هــــي"
الأم التي بكت كثيراً، فتمردت على الرؤية، ولم تسجد للشمس أو القمر، خرجت عن حكايتها، ووزعت الحلوى في طرقات المخيم. وحين راودها الجنون، هتفت:
ستأتيني عبير من جديد، في الصباحات الباكرة.
ستزور أبيها هذه المرة، رغم أنف يهوذا، وستحتضنه كيفما تشاء، ثم تعود به إلينا مع النسيم.
***
تذييــل:
الطفلة التي صفعت الموت بوجهها، ركبت بساط السندباد وارتجلت تمخر عباب السماء، وفي قلبها صورة الأب المعلق بين الأرض والأرض داخل لوحة زيتية كالحة السواد.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة