وساوس الحب ـ عمر قرطاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ABSTRAIT-5الوجه الجميل لا يحتاج إلى كثير من الأصباغ، بل الموقف نفسه لا يستدعي كل هذه الاستعدادات وكل هذه الزينة..كانت مقتنعة..ولكنها كانت مع ذلك مضطرة..هو عند حبه لها مهما جرى وكيفما كان لون وجهها وشكل تسريحة شعرها وهي رغم حبه كانت مرغمة على التزيّن ليس له فقط بل للناس جميعا..هو مضمون بحبه أما الناس فنظراتهم ينبغي أن تكون راضية بل ومعجبة..كان استعدادها استثنائيا في ذلك اليوم لأنه اليوم الذي سيحدد مصيرها معه..ورغم أنها كانت متأكدة من حبه وجديته أحست بارتباك يهز قلبها هزا..لم تعرف لذلك سببا واضحا، لكنها فسرت الأمر على أنه فعلا يوم مصيري ولا بد للقلب من الارتباك في الأيام المصيرية..

قضت معه شهورا ممتعة جدا وحان الوقت لتطلب منه الزواج والاستقرار بعدما حصل على عمل...كانت دعواتها مفيدة..هكذا قال لها وهو يبشرها عبر الهاتف أنه اشتغل أخيرا..لم يلمّح لها بأنه يريدها لأمر هام أو شيء من هذا القبيل بل فقط طلب منها اللقاء كالعادة.. لكنه قال أن دعواتها كانت سببا أو من بين الأسباب التي أعانته ليحصل على عمل..كان صوته..ازداد ارتباك قلبها وهي تتذكر كيف كان صوته على الهاتف..كان..هل أنت مريض؟ صوتك..  !سألته فأكد لها أنه ليس مريضا بل على العكس من ذلك هو في غاية الحماس والسعادة..هي تعرفه جيدا لذلك شعرت أن في الأمر سرا، فقد كان وقع صوته في أذنيها مختلفا..كان صوته باردا..عليها أن تعترف..قال لها أنه متحمس لكن صوته لم يعكس حماسه بالمطلق..غريب هذا الأمر..أن يكون الإنسان سعيدا وصوته بارد وحزين.. فإما أنه يدعي السعادة أو أنه قرر أن يكتم حماسه وفرحته لسبب لا تعرفه..هذا هو سبب ارتباكها ربما.." لا أنا واهمة.." قالتها ثم دندنت بها وهي تخرج من البيت راضية على زينتها وعلى حكمها على نفسها بأنها مجرد واهمة..وعلى كل حال هي لن تخسر شيئا إذا ما أجل موضوع زواجهما إلى أن يستقر في عمله..وفي غمرة تفكيرها هذا تسرب إلى قلبها ، الذي لم يتجاوز عشرين ربيعا، طيف من الارتياح، فهي لم تعطه شيئا تندم عليه..ولا حتى قبلة..وقد عرفت في ذلك اليوم ماذا يعني قرارها ذلك..قد يؤجل أو يلغي لكنها لن تكون الخاسرة الوحيدة ، هو كذلك سيخسر إذا تخلى عنها دون أن يأخذ منها ولو قبلة...ستتحطم رجولته وسمعته لا محالة إذا ما فارقها دون أن يلمسها..سيحرقه الشوق ويذيبه الفشل بالتأكيد..لم تنسى أنها هي الأخرى أحبته ولا زالت..وسيكون تخليه عنها مدمرا لها ولأحلامها، لكنها مع ذلك كانت سعيدة بقرارها بأن تحرمه من جسدها قبل الزواج، كان قرارا حكيما وفي ذلك اليوم فقط عرفت صوابه وحكمته..لم تستسلم أبدا طيلة شهور رغم حبها وإلحاحه، فقد قارنت بين لذة الشهوة ومتعة الاستقرار فوجدت أن استقرارها معه أهم وأبقى..فوجئت حقيقة بثباتها على مبادئها وقوتها في مواجهة غضبه وبعده وتدمره.." لن تلمسني إلا بعد الزواج أفهمت؟ " قرارها كان حاسما وشجاعا وستجني ثماره قريبا عندما سيدفعه الشوق إلى طلب الزواج منها بعدما اشتغل..لا داعي للقلق إذن، لن يكون غبيا لهذه الدرجة..آه.. لكن صوته كان باردا بشكل لا يصدق..لم تعرفه في البداية..كان صوتا مختلفا وكأنه لرجل آخر لا تعرفه..سلم عليها في اقتضاب وجمود وقال لها بأنه اشتغل وأنه يريد لقاءها وقبل أن يقطع الخط قال أن دعواتها ساعدته..كان وكأنه مجبر على مخاطبتها..وهي تتجه نحو المكان الذي سيلتقيان فيه فكرت في اتجاه واحد هو اتجاه الفراق..لم تقف طويلا عند الأفكار الجميلة المتفائلة لأن مجرد توجهها لمقابلته وتحمسها وعزمها على طلب الزواج منه إذا سكت هو عن ذلك كاف لتأكيد تفاؤلها..لكن الفكر كما هي عادته لا ينشغل إلا بالأفكار السيئة ، وأفكارها السيئة قالت لها أن صوته فعلا كان باردا برودا ينذر بأنه سيؤجل أو يلغي..قد يكون وجد فتاة أخرى تلائم حياته الجديدة وقد يكون ملّ من تمنّعها.. أو قد يكون مجرد مخادع صاحبها أيام تسكعه وسيتخلى عنها بعد حصوله على العمل..دوافع كثيرة قد تكون وراء بروده..أما الأصل فهو أنه صادق وليس البرود إلا وساوس وأوهام اجتاحتها لخوفها من تخليه عنها في آخر المطاف..ولسبب ما يجر الحدث السيئ أحداثا أخرى سيئة وتتناسل الوساوس إذا ما بدأت..لم يحضر..مازال لم يحضر..لن يحضر..هكذا...هي ليست واهمة إذن..صوته كان باردا في الهاتف وهاهو لم يحضر في الموعد الذي اتفقا عليه..شعرت بدوار في رأسها وانكماش موجع في معدتها ونظرت بسرعة إلى ساعتها..وعلمت أنها جاءت قبل الموعد..لأول مرة تجيء قبل الموعد وتنتظره، مرّ الوقت ثقيلا مملا وتجاوزت الساعة موعد اللقاء وتأخر مجيئه..تأخر عشر دقائق ثم نصف ساعة ثم ساعة..لم يحضر ولم يتصل..فجأة تراخت أعصاب وجهها واحمرت عيناها وأدمعت أو كادت..فكرت أن ترحل عن المكان..لكن قلبها المضطرب حثها على البقاء، ودعاها فكرها المنفلت لأن تعطيه الفرصة تلو الفرصة..لم تعطه حتى قبلة رغم حبها الكبير له وهاهو ذهب ليبحث عنها عند أخرى بعدما حصل على العمل..لم يهدأ أبدا ارتباكها وغضبها حتى عندما رأته قادما نحوها وفمه يرسم شكل ابتسامة ..أدارت وجهها عنه كتعبير عن تدمرها وكانت تنتظر أن يقول لها شيئا لكنه وقف إلى جانبها صامتا وقد كف عن الابتسام.." تغيّر كثيرا أقسم على أنه عازم على الفراق.." لم تقلها جهارا لكنها أحستها كالخنجر تعبث في أمعائها المنكمشة ، وتأكدت من أنها ليست واهمة ولا متسرعة في حكمها على بروده المفاجئ..لم تشعر بما حولها وهي غارقة في تصوراتها وحزنها حتى أنها لم تسمعه وهو يقول.." أعتذر كان عندي شغل في آخر لحظة.." وبدأت وهي لا تدري ما يقول ، تعبر عن إحباطها بدموع ساخنة.." أنت تعلمين أنني لا أتأخر عليك إلا إذا كان المانع قويا..أنت تعرفين أنني أحبك.." "أحبك !!!!" كلمة اجتاحت قلبها دون أن تمر على أذنيها..أحستها تنسلت من مكان ما من الجسد الحزين إلى القلب مباشرة..لم تسمع ما قبلها ولا ما بعدها فقط هي..كلمة واحدة منقطعة عن كل الكلمات..أحبك..كلمة أحدثت زلزالا في أفكارها وأفقدتها التركيز ومسحت بعضا من وساوسها وأعادت لها الأمل ولو كان أملا متخيلا..سمعتها منه كثيرا..لكنها في ذلك اليوم كانت مختلفة..لا تدري ..لكنها على الأقل مختلفة في استقبالها وطريقة لمسها للعروق..كانت وكأنها أكبر من مجرد كلمة..فوجئت بها وكأنها هواء لذيذ ملأ عروقها أو أمطار دافئة روت فراغ أحشائها وأذهبت أوساخ تصوراتها ، وكأنها آخر يد تمتد نحوها وهي تغرق..نظرت إلى وجهه الذي اتخذ من جديد موقف الابتسام وقالت بصوت دامع كل الأشياء التي لم تفكر فيها.. " مبروك العمل أين ستشتغل...؟ هل نتمشى قليلا ؟ الناس ينظرون إلينا..." لم تعاتبه على تأخره لأنها خشيت أن يُفتح الموضوع من هنا فتنفجر في وجهه بما تخبئه في صدرها من خوف وقلق..سارا جنبا إلى جنب عبر طريق صغير وسط حي مكتظ لكنها شعرت أنها وحيدة معه..هو وهي فقط والناس في نظرها غائبون..أما هو فقد كان يكلمها عن قصته مع العمل كيف حصل عليه وكم تعب للحصول عليه وفي كل مرة كان ينظر إليها نظرة استغراب..نعم..شعرت هي نفسها باستغرابه، لما لا ؟ وهي تبدو مرتبكة أكثر من اللاّزم، واجمة وصامتة على غير عادتها..؟ لا بد أنه يتساءل لماذا لا تعاتبه على التأخر ولماذا هي هكذا تمشي معه ولا تدري إلى أين...أراد إضحاكها بكلماته ونكاته لكنها كانت مصممة على الصمت والتجاهل..حتى إذا فشل في تغيير الجو استسلم هو الآخر لشباك الصمت..صمت قاتل لا يخلو من وساوس وضجيج في الأفكار والنوايا، الاثنين يمشيان في طريق ضيق بلا كلام ويفكران بلا هدف ولا واحد منهما يجرؤ على طرح السؤال لماذا أنت هكذا؟ ليفرج عن ملاحظاته وأعذاره، هو الآخر لديه ما يقوله وله وساوسه مثلها أو أكثر منها، ليست هي فقط من يأكلها القلق، لقد شعر أنها تكتم عليه سرا وقدّر أن السر كبير وأنه يتعلق بعلاقتهما وفسر ارتباكها ودموعها تفسيرا واحدا أنها تريد وضع نهاية لتلك العلاقة لكنها عاجزة عن مصارحته ، عاجزة تماما ويقتلها الارتباك والتردد ، وأنها تبحث عن طريقة مناسبة وسهلة لإعلان الفراق، وهي لا تعلم أنه ليست هناك طريقة سهلة للفراق..لا يمكن أن يكون مجرد تأخره هو السبب..حتى صوتها في الهاتف كان متقطعا وباردا ولم يتحمس أبدا لخبر عمله ، وبدل أن تهنئه سألته هل هو مريض، من يومها وهو محتار، لما ذكرت المرض وهو يبشرها ..؟ هل كانت تطمئن عليه؟ أم أرادت تغيير الموضوع لكي لا يقول لها أن خبر عمله يخصّها هي كذلك، وأخذ يسترجع كل أفعالها وأقوالها..كل شيء في الحقيقة يدل على أنها كانت تتلاعب بمشاعره وأحلامه ولمّا جاء وقت الجد حزنت..وهي تريد أن تنهي العلاقة قبل أن يطلب منها الزواج.. مؤكد..لو كانت تحبه لاستجابت لشوقه إليها ، كانت طول الوقت جامدة وباردة لا تأبه لغضبه ولا لتهديداته بالفراق..حتى تعاملها مع تأخره كان غريبا خاليا من أي عتاب أو لوم، ثم أن انتظارها الطويل له يفسر أنها تريد أن تقول له أمرا يخص الفراق وهو من جهته تأخر لأنه محبط ومتضايق من تعاملها مع أخباره السارة.. كان دائما يظن أن تمنعها وقوتها في مواجهة أشواقه وراءها سر..في ذلك اليوم فقط تأكد أنها لا تعيره أدنى اهتمام.. وعندما كان يخبرها عن قضية عمله كان خائفا من أن يصدق ظنه وتستقبل الخبر بتجاهل، وقد قال لها أن دعواتها أعانته راجيا من ذلك أن تفهم أنه يلمح إلى أن خبر عمله يخصهما معا ، ولكنها خيبت ظنه عندما صمتت ، فقطع الخط ، و الذي زاد من تأكيد ظنونه هو الصمت والعبوس الذي قابلته به..لذلك قرر أن يفعل شيئا ليحفظ كرامته ويروي شوقه قبل أن تعلن الفراق ويكون أكبر الخاسرين.. وبعد أن كان يمشي معها دون تركيز بدأ يهتم بالطريق ويقودها متعمدا إلى أن وصلا إلى أحد الفنادق الصغيرة وعندها قال " لماذا لا ندخل لنرتاح قليلا..؟ ألم تتعبي من المشي؟ " ، نظرت إليه في دهشة وقد وعت كلامه " لا أقصد شيئا.. في الداخل توجد مقهى و..نجلس قليلا ونتكلم.." قالها مرتبكا...لم تمانع وقالت مفسرة قبولها.."نعم لندخل أريد أن أقول لك شيئا مهما.." لقد فكرت أن تقول له ما يستفزه ليعلن نواياه اتجاهها وترتاح...فكرت أن تخبره أن أحدهم يريد خطبتها..كانت طريقة تقليدية ، لكنها الطريقة الوحيدة المتبقية أمامها ليحس بضياعها منه.. اندفعا إلى الداخل وفي رأس كل واحد منهما كلاما يريد قوله..وفي حركة خجولة اقترب من أحد عمال الفندق وتكلم معه قليلا ثم عاد إليها وسار بها حتى توقف بجانب إحدى الغرف وقال لها بأدب مصطنع " لندخل ونتكلم بهدوء وصراحة.." فانفجرت في وجهه "لا..أين المقهى ؟" "في الحقيقة ظننت أن هناك مقهى لكن.." "هيا نخرج.." قالتها وبقيت واقفة لا تدري ما تفعل وقد بدأ بعض قاطني الفندق يراقبون جدالهما.."لا تخافي نتكلم ونخرج ألا تثقين بي؟ لو فعلت لك شيئا اصرخي.." أحست بدوار يملأ رأسها ويضلل تركيزها، لم تدخل بل هو من أدخلها وأقفل الباب دونهما..صدمتها رائحة الغرفة النتنة فجلست على أحد الكراسي وقالت بصوت مبحوح مستعجل "لقد أخبرني أخي أن أحد أصدقائه يريد خطبتي.." ثم انفجرت باكية.. لم يقل شيئا وظل ينظر إليها في وجوم..." هذا هو السبب إذن !".. فكّر..احتضنت وجهها بيديها وقد خرج صوت بكائها من بين الأصابع واهنا مؤثرا، اقترب منها ووضع يده فوق رأسها فأحست بيده ترتعد، حاولت أن تغير من وضعها لكنه قال " أنا أحبك وأنت تريدين تركي..؟" فاستشف تأثرا بكلامه في لحن بكائها..رفعت وجهها تنظر إليه فقرأ في عينيها نداءا له بأن يفعل شيئا يثبت به حبه لها، غير أن النداء حقيقة كان يقول بأن عليه أن يقول أنه لن يتخلى عنها.." أنا لن أتركك أبدا.." قالها بلهفة، وهي الآن تقسم بينها وبين نفسها أنها لم تشعر باقترابه إلا عندما التصق فمه بفمها التصاقا خنق كل الأفكار والكلمات والبكاء.. وأحدث بما يشبه الثقب في صدرها دخل من خلاله عالم جديد غامض ومخيف..لم تستسلم له طبعا فوضعت يدها على صدره في محاولة لدفعه فلم تقدر..يدها فشلت بل شلت.. هي لا تبالغ ومستعدة أن تقسم بكل الأيمان أن يدها عجزت عن دفعه عنها لمّا بدأ وجهه يتسلل إلى عنقها وصدرها وفمه يقتفي أثر أنوثتها الكامنة..آه..لا تستطيع حتى التفكير في ما يحدث فكيف بالصراخ..من تستطيع أن تقاوم جيوشا من القبل والأنفاس الملتهبة وقد اتخذ جسدها موقف الخيانة ؟ فكان راضيا وهو يحمل إلى سرير الغرفة المتهرئ ، وتحولت نيته في المقاومة تدريجيا إلى انقلاب على الذات و تنافس على اللذة..وتحولت وساوسه ومخاوفه إلى خصال ايجابية تفوح بالدلال واستحالت آلامه بلسما..وفجأة همست.." أحبك ولن أتركك.." قالتها وفي خاطرها انهزام وخوف من انفلاته، فرد عليها بآخر رنة في صوته.. "وأنا كذلك.." وفي خاطره شك وتردد.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة