كان بالإمكان أن يكون - هشام حراك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسكان بإمكان احميدة أن يكون الدكتور احميدة لو أنه حقق أمنيته التي أفصح عنها للمدرسة، حين سألته عنها ذات يوم، وهو ما يزال تلميذا في قسم الشهادة الابتدائية.. كان بإمكان احميدة أن يكون الدكتور احميدة لو أنه لم يطرد، عامها، من المدرسة، ولو أنه تابع دراساته، وتخرج من كلية طب العيون، أو كلية طب الأفواه، أو كلية طب البهائم، أو كلية الطب، هكذا، حافية.. وكان بإمكان احميدة لو أنه خرج (أو تخرج) من بطن منتفخة –بفعل مرور تسعة أشهر- لامرأة متزوجة من رجل ذي بطن منتفخة.. على أية حال، كتب لاحميدة أن يكون، هكذا، حافيا، بدون "دكتور"، ولا "سي"، ولا هما معا: "السي الدكتور".. وما دامت القاعدة تقول إن كل الأبناء لا بد وأنهم من والديهم يرثون، فإن كل ما ورث احميدة، بشرة بيضاء من والدته، وجسدا نحيفا وقنينة حريق من والده، ثم كوخا من طوب وقصدير وحصيرا وفانوسا غازيا منهما معا.
***
يدخل احميدة إلى مقهى الدرب، مترنحا كالمعتاد، وفي يده قنينة حريق.. يتوقف، أسفل جهاز التلفاز المعلق على الحائط، بعد طول مقاومة لأجل إعادة التوازن إلى جسده المتمايل.. يقول بصوته المخمور، المتقطع، المدندن، والمتثاقل:
ـ أنا العالم، والعالم كله أنا.. أنا لست أنا، ولست أنا، هو أنا.. من أحبني، فهو أخي، ومن كرهني، فهو (منتظرا إجابة) حبيبي.. في رأيكم، من أكون أنا؟

يصمت،  لحظة، منتظرا إجابة من أحد الرواد.. لا أحد يجيبه.. الكل منشغل بلعب الورق أو تلفيف الهاش.. الكل يتحاشى الرد عليه حتى لا يتشجع فيجالس أحدهم عله ينعم عليه بدرهم، أو سيجارة، أو عقب لفيفة هاش.. احميدة، الآن، ينفذ صبره من شدة انتظار إجابة من أحدهم.. يقول، منفعلا، بصوته المخمور، المتقطع، المدندن، والمتثاقل:
ـ أنا (ـكم(*)) يا أبناء ال (ـات(*)).
هنا ينفعل الجميع دفعة واحدة.. كل الرواد يحتجون، الآن، على النادل ويطالبونه بطرده من المقهى.. يقصده النادل ساخطا.. يلكمه، بعنف، لكمتين أسفل عينيه (لكل عين لكمة)، وثالثة أسفل أنفه، ورابعة وخامسة أسفل بطنه، ثم (زدردلاو) ضربة رأسية مدوية، كالرعد، على وجهه برمته.. يسقط احميدة على الأرض متألما ومتأثرا لقوة وهمجية الضربات.. يبدو أنه يغمى عليه.. يجره النادل من كتفه، مثل خروف، ويلقي به خارج المقهى، فتبدأ ردود فعل الرواد تنبعث متتالية:

ـ هذا مسخوط هذا؟

ـ هذا غير مسخوط واسكتي؟ هذا راه مسخوط الشعب هذا.

ـ وبغيتوا ربي يحن بالشتا؟

ـ آسيادنا الله يهديكم.. قولوا الله يهديه، وقولوا الله يستر.

ـ عندك الحق آخاي.. اللي شاف شي مصيبة، يقول الله يستر.

ـ العفو يا مولانا.. العفو يا مولانا..

***

السماء، هذا المساء، ثقيلة بالسحاب والغمام كالرصاص حتى يبدو أنها سوف تنفجر.. تبدو السحب، من خلال نافذة المقهى الوحيدة، تتجه، ببطء السلحفاة، في اتجاه الشمال.. في الواقع، قد تكون تتحرك بسرعة فائقة، وقد يكون بعدها عن المقهى بعد السماء عن الأرض هو الذي جعلها تتراءى للناظرين تتحرك حركة السلحفاة.. يبدو، من خلال نافذة المقهى دائما، أن أمطار الخير والنماء قد اتخذت، بكل جدية، شمال أوروبا وجهة لها هذا العام.. بطء السحب، في السماء، يؤكد أنها لن تنفجر أمطارا إلا حين تصل إلى سماء أرض اسكندنافيا.. هذا المساء هو أحد مساءات أواسط دجنبر.. تصل، إلى داخل المقهى، من حين لآخر، أصوات رعد مدوية، وأطياف برق تشل حركة وصورة مذيع نشرة الأخبار قبل كل ضربة رعد.. يبدو أن اصطدام السحب، في السماء، نعمة كبيرة من الرب على مخلوقاته في الأرض.. ضربة رعد واحدة، في الأرض، كفيلة بأن تجز رؤوس كل البشر والبهائم، وخطفة برق واحدة، في الأرض، كفيلة بأن تعمي أبصارهم جميعا، وإلى الأبد.. (ترى أينك الآن، وفي ظل جو هذا اليوم، يا احميدة؟).. مقهى الحي كلها فوضى.. التلفزة لا تنبعث منها سوى صور متحركة، أما الصوت فقد تلاشى بين أصوات وقهقهات الرواد.. دخان الهاش يملأ كل الفضاء.. وجوه كالحة وعيون احمرت بالهاش.. يقول أحد الرواد القابع في الركن الأمامي الأيسر:

ـ السماء ثقيلة بالغمام كالرصاص، ودوي الرعد يكاد يصدع رؤوسنا، ومع ذلك لا تريد أن تمطر.. إذا ما لم تمطر فإن حقول القمح سوف تموت جفافا.

يجيبه آخر يقبع في الركن الورائي الأيمن:

ـ عندك الحق.. الله يحفظ وخلاص.. هذا ما يقول بنادم.

ينادي ثالث على النادل:

ـ عزيز.. آجي، آجي..

يصل إليه النادل.. يسحب شريط فيديو من داخل معطفه، ويمده به مسترسلا:

ـ استخدم هذا الشريط.. إنه أروع ما شاهدت عيناي.

بالفعل يكون له ما طلب: أزدف أردف، أزدف أردف، أزدف أردف، أزدف، أردف، قرقلاف.. البطل يقتل كل أفراد العصابة، وينقذ المرأة الجميلة، فتغني وترقص له، ويغني ويرقص لها، فرحين بالقضاء على العصابة، وبميلاد قصة حب، على التو، بينهما.. شريط هندي لا يخرج عن المعتااااد.
***
في هذا الوقت، بالذات، الذي يعانق فيه البطل المرأة الجميلة، يدخل بطل قصتنا احميدة، من جديد، إلى مقهى الدرب مترنحا. هذه المرة لا يحمل قنينة حريق، وإنما سكينا حادا وطويلا.. لا أحد من الرواد يستطيع أن يتفوه بكلمة.. يقف أسفل جهاز التلفاز المعلق على الحائط.. يشرع احميدة يقلب الطاولات ويتبول على الكراسي، ولا أحد يجرؤ على أن يتفوه بكلمة سوى النادل الذي يشرع يستلطفه من بعيد:
ـ راه حشومة عليك آحميدة!
ـ ينظر إليه احميدة بسخط:
ـ تضربني يا وجه الطبل؟ لماذا تضربني؟ وهؤلاء الحشاشون لماذا لا تضربهم؟ لو كانت لدي دريهمات أو بنية جسدية قوية لما تطاولت يداك ورأسك على جسدي النحيف؟ لماذا أنت صامت؟ تكلم يا وجه الطبل؟
يصمت.. يجلس القرفصاء على الأرض.. يجهش بالبكاء:
ـ أعرف أنكم لا تطيقونني، لذلك سأخلصكم مني الآن وليس غدا.
يصعد من لهجته:
ـ الآن وليس غدا.. الآن.. الآن.. الآن..
...ويطعن نفسه طعنات متعددة في أماكن مختلفة من جسده.. يحاول النادل اللحاق به وإنقاذه، لكنه لا يصل إلا بعد فوات الأوان.. احميدة، الآن، يتخبط بين دمائه مثل ديك مذبوح، وأنفاسه، بالتدريج، تنقطع.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة