لا أحد يعرف سرّ شجرة الحنّاء إلا ّ أمّي ...تلك الشجرة الواقفة في بيتنا بخيلاء الفاتنات و صمت الملائكة!
لا أحد في قريتنا له شجرة حنّاء مثل أمّي ..كل الناس كان لديهم الكثير منها و لكن ليس في مثل حجم شجرتها ..لأنهم كانوا يُشذبونها لتنتج ورقًا أكثر فتدرّ عليهم أرباحًا لابأس بها حين يبيعونها في سوق القرية الأسبوعي... لكن المال كان آخر ما تفكر فيه أمّي إذ كان لديها واحدة فقط تتعهّدها بعناية فائقة فتسقيها الماء و تمسح جذعها الصغير و تنظّف أغصانها و تنزع الحشائش من حولها و لكن لا تقصّ أغصانها أبدا و تجد متعة كبيرة حين تقف ويداها ملطّختان بالطين تتأمّلها وهي تكبر و تزداد طولا ... سرّ أمي الغائر كان غافيا في تلك الشجرة.... ترويه أوراقها للرياح مع كل حفيف!... فإذا كانت سعيدة تجلس على سجّاد صغير تحت تلك الشجرة و أمامها أواني الشاي الأحمر و إبريقها الأزرق نائم على جمر الكانون في دعة و اطمئنان ، أمّا إذا كانت حزينة فإنك تراها تقعد على كرسي خشبي قديم و قد غطّتْ وجهها براحتيْها لتكتم نشيجها ثم و ما تلبث حين تراني أن تقوم من مكانها باحثة عن بسمة كاذبة ...
كنت أرى ذلك مع إخوتي الذكور ونحن صغار و لا أحد يعرف سرّ هذا الاهتمام الغريب ...كانت لا تقصّ أوراقها إلا مرة واحدة وهي أواخر شهر رمضان ، قبيْل عيد الفطر كان منظرها بديعا وهي تقصّ الأوراق بمِشْذب خاص أوصت ابن خالي ليشتريه من العاصمة....من يراها بتلك الحركات الدقيقة المتمهّلة يخالها جرَّاحا يعالج مريضا أو رسّاما يضع لمساته الأخيرة على لوحته و كانت تصرّ دائما على أن تترك بعض الأوراق حتى لا تبدو جرداء ميّتة ... بعد ذلك تضع الأوراق في سلّة من السّعف و تعرّضها للشمس يوما كاملا ثم حين تجفّ تأخذها إلى طاحون القرية و ليلة العيد تعجنها على مهل كنت أراها تقلّبها بكل حنان و كأنها تقلّب رضيعًا أو تُلبس وليدًا .. وليلة العيد بعد أن تنظّف البيت وتفرش الزرابي وسط بيتنا و تشتري التفاح الفرنسي الفاخر لتخفيه في خزانة غرفة نومها لتقدّمه صباح العيد و تضع الكعك في مكانه ...عند ذاك ترتسم ابتسامة أخاذة على وجهها الطفولي المتناثر في البيت كرَقْص السّحر في الذاكرة ... فتضع حشيّة على الأرض في غرفتها مع قليل من الماء و منشفة و مذياعها الرمادي ينبعث منه صوت المطربة " صليحة " الذي يتناثر في أرجاء البيت كالذبيح أو كقرطاج الحريقة ..!! عند ذاك فقط يبدأ عرس الحنّاء فتأخذ في تخضيب حوافّ قدميْها الاثنتين والبسمة لا تفارق محيّاها ...بعد ذلك تضع قدميْها على وسادة و تتّكئ على أخرى مسنودة إلى الحائط ثم تطلب مني أن أذهب لأدعو عمّتي من بيتها المجاور لتتمّ تخضيب باطنيْ قدميها و كانت عمتي لا تتأخر لحظة في الحضور بل إنها ما إن تدخل بيتنا حتى تطلق زغرودة ترفرف في أنحاء بيتنا كالملائكة ثم تحطّ على أغصان شجرة الحناء ....كانت تلك الأحداث تزيد من غموض الأسرار التي ترتبط بأمي وشجرتها العجيبة ...وليلة كل عيد فطر أتأكّد أن عمتي تشاركها أسرارها أو ربما هي متواطئة معها ...لأن عمّتي مبروكة ترافقها إلى المقبرة عند كلّ صباح عيد ...
لم تُردْ أمي أن تكشف لنا سرّ الشجرة وحتى حين كبرنا لم نلحّ نحن في طلب ذلك..كبرت شجرة الحناء إلى درجة أنها أصبحت تطلّ على بيت عمتي ...احتفلتْ أمي بذلك مع عمتي و اشترت المشروبات و بعض البسكويت ..غير أنّي منذ تلك اللحظة أصبحت خائفا عليْها لأن حالتها النفسية تزداد سوءا فقد أصبحتُ وإخوتي نخاف عليها حقاّ ...!
ظلت أمي على تلك الحال إلى أن جاء ذلك اليوم و كنّا في أواخر شهر رمضان ، عدت فيه من المعهد الثانوي إلى البيت فوجدتُها جالسة على كرسيّها تحت الشجرة و قد وضعتْ وجهها بين راحتيْها تكتم نشيجا صامتا ..اقتربتُ منها ..لم تنهضْ هذه المرة ...ربتُّ على كتفيها و اقتربتُ منها ، عانقتُها مثل طفلة صغيرة ونظرت إليها في حيرة ...مسحتْ دموعها ، قالت : " عمتك مريضة طوال الشهر الكريم، قاطعتها : ولكني أعرف فأنا من يحمل إليها طعامها قبل كلّ غروب شمس و أنت تذهبين للسهر عندها كل ليلة .. واصلتْ في همس : " عمتك قوية ستشفى بإذن الله ليست هذه مشكلتي ....مشكلتي أنني و لا أدري ماذا سأفعل ليلة العيد ؟!..فهي لا تستطيع أن تأتي لتُتمَّ تخضيب قدميّ ؟؟ ثمّ واصلتْ في أسًى:
" لو كانت عندي صبيّة لما كنت في هذه الحال ..."
مسحتُ برفق على شعرها الليليّ وقلت لها : "لا تفكري في شيء فهذا العيد أنا من سيقوم بتخضيب قدميك ...
رفعتْ إليّ عينيْ طفلةٍ وعانقتْني بذراعيْ أمْ ... وقد لمع بريق ناعم على وجهها ..بريق أميرة نائمة منذ آلاف السنين ..!
ليلة العيد أعدَّت أمّي كلّ شيء و بدأت بتخضيب قدميها و مذياعها يهذي بلا هوادة و حين أتمَّتْ عملها بكلّ إتقان وضعتْ قدميها على الوسادة ، اتكأت على الجدار ثم طلبت مني أن أذهب إلى عمتي لأخبرها بأنني سأبدأ عملي .. سألتُها عن السبب فقالت لي بصرامة " افعلْ ما أقول لك دون نقاش " ..ذهبتُ إلى عمتي وقد استحال السرّ إلى أسئلة موجعة ترهق كياني ... عدتُ إلى أمي ، جلستُ عند قدميها و أخذتُ أحنّئُ باطن قدميها وهي تُملي علي َّ التعليمات و أنا أنفّذها بحذافيرها ، في تلك اللحظة شقَّتْ ظلمة البيت زغرودة عمَّتي ..رفعتُ رأسي إلى أمي مستغربا فرسمتْ ابتسامة عريضة على وجهها و قالت لي :
" مبروكة ...أختي ..أختي " دعت لي أمي بالخير و الصلاح ثم أردفتْ : جائزتك ..أنك غدا أنت من سيرافقني إلى المقبرة .." بينما كنتُ أنا أسرع بغسل أصابعي خوفا من ضحكات رفاقي صبيحة العيد إذا بقي شيء من لونها على يديّ !!!
كانت تعرف أنّ أسئلة كثيرة تعصف برأسي و أن الوقت قد أزِف ...!
لم تعجبني الجائزة و لن أعرف قيمتها إلا بعد وقت طويل ...من الغد لبست مع إخوتي ملابس العيد في سعادة ...كانت فرحة أمي لا توصف فقد لفّتْ جسمها في مِلحفة حمراء داكنة شدَّتْها إلى وسطها بحزام ناصع البياض ووضعت على رأسها بُخْنُقًا بلوْن الثلج لا تلبسه إلا في المناسبات .. أمسكتني من يدي وتوجهنا إلى المقبرة التي لم تكن بعيدة ، على طول الطريق بدت خطواتها خفيفة ووجهها فيضٌ من مرْجْ ...وحين دخلنا باب المقبرة ازدادت التصاقا بي و أغمضتْ عينيها و استنشقتْ نفَسا طويلا ..خفَّت خطواتها أكثر حتى كادت تتوقّف ثمّ سألتني : ألا تشمّ رائحة حنّاء؟؟ استغربت سؤالها ...ولكنها شدَّت على يدي في رفق و واصلت : يا بنيّ إنها رائحة حنّاء ...رائحة حنّاء.. إنها رائحة ...رائحة أختك ... إنها تناديني و تدعوني إلى قبرها ..أختك ساكنة في قلبي لم أنسها يوما ....رائحتها لا أشمّها إلاّ في المقبرة " وأخذت تمشي بين القبور مغمضة العينين ...و أنا ممسك بيدها مندهشًا من كلامها وحركاتها خائفا عليها من السقوط أو التعثّر بالحشائش اليابسة المتناثرة ..إلى أن وصلتْ قبرا صغيرا ، فتحتْ عينيها ، تهلّل وجهها حين رأته ، مسحتْ على القبر بيمناها ، ظلّتْ تتأمّله ، متّشحة بخشوع النسّاك .. و أخذت تكلّمني بصوت خافت و كأنها تناجي نفسها : " إنها أختك ...أختك أخذها مني العيد ذات شتاء ...إنها أختك ...إنها حياتي ..." و بهدوء شامخ وقفت بعد ذلك مدت يديها و قرأت الفاتحة عليها ثم مسحت على وجهها و الدموع تسيل على خديْها بصمت ، ثم وبسرعة مرّت على قبور أبي وجدّي و جدّتي .. قفلنا بعد ذلك راجعين إلى البيت ..في الطريق قالت لي :" يا بنيّ يجب أن تعرف أن شجرة الحناء التي في بيتنا نبتت أيام توفيت أختك ...كدت أجنّ يوم دفنها ..كانت ابنتي الوحيدة ، أنجبتها بعد ثلاثة أولاد.... لم أتحمّل الصدمة ...لا أنسى ذلك اليوم ما حييت ..كان الناس يتوافدون على بيتنا وأبوك المنكسر ومن معه من الرجال يُعدّون لدفنها حين أظلمت الدنيا في عيني و رأيت السقيفة قد بدأ يتكاثر فيها الرجال لأخذها إلى المقبرة، أحسست بدوار ينفذ إليّ.... وانقلبت الدنيا على رأسها. .خانتني ركبتاي فانهرتُ على الأرض كالإثم ... أخذت أصرخ ، أندب خديّ و أشدّ شعري و أهمّ بوضع التراب على رأسي.. كل قريباتي كنّ يتفرجن ، حتّى أخواتي وقفن تماثيل من الحزن كالراهبات ..و حدها عمّتك لم تتحمّلْ أن تراني هكذا ....فلعلعتْ بزغرودة اهتزّ لها كل من في البيت... ساد صمت حزين أبله ...تجمّدت الحركة في البيت كله الرجال في السقيفة والنساء في وسط المنزل ثم اقتربت عمتك مني بسرعة ..جثتْ على ركبتيها وأخذت تهزّني من كتفيّ بعنف و تصيح في وجهي : " عائشة اسمعيني ...عائشة ابنتك لم تمت ..لم تمت ْ لقد استرجع الله أمانته ..هي ملاك عند الله الآن " وزغردتْ مرّة ثانية و عندما أنزلت يدها من على فمها رأيت دموعها تنحدر على خدّها خرساء صامتة ثم عانقتني مثل ابنتها ، غرستْ رأسي في صدرها و أخذت تغنّي بصوت خافت رقيق و تمسح على شعري ...أخذتْ بيدي و أوقفتني ثم أخذتني إلى غرفتي بخطوات وئيدة و غارت الدنيا بما فيها و لم أعدْ أتذكر شيئا ...في تلك الأيام و رياح الخريف تكنس ما بقي من رائحة الموت و قد أصبحت الحياة في البيت عطِنَةً كالقحط ، استرعى انتباهي برعُمٌ أخضر يكبر بسرعة في الحديقة الصغيرة غير بعيد عن شجرة البرقوق ، عمتك هي من أدخلت الفكرة في عقلي حين سألتها عن نوع الشجرة ، يومها جاءت وفحصتْها ، قالت لي و السعادة تغمر وجهها : " هذه ستكون شجرة مباركة...إنّ الله قد منحك إياها عوضا عن ابنتك ستكبر يا عائشة و تتزيّنِين بأوراقها و تزورينها و أنت كالعروس ...إنها شجرة حناء يا عائشة هل ترضين أن تُغضبي ملاكا نائما...ملاكا سيدخلك الجنة ..لا رادّ لقضاء الله ..استغفري ربك و انزعي السواد.... لديك أولاد سيجعلونك ملكة ...استغفري ربك واحمدي الله " ....نفذ كلامها إلى قلبي ، سيطرت عليّ فكرة عمتك ففرحت بها و أنا أرى حنّائي تكبر واقتنعتُ بقضاء الله خاصة بعد أن أنجبتك وأخاك لم يعد لي أملٌ في إنجاب بُنيّة تملأ عينيّ بحرير البحر و ترفع عني صخب الرجالْ !...اقتنعتُ أن الله يحبني و لذلك أخذ مني ابنتي و ترك لي رائحتها ..هل شممتَها إنها تنبعث من قبرها !!
وجدت صعوبة في الرّبط بين قبر أختي المنغرس في تلّة المقبرة كآهة مكتومة وبين تلك الشجرة الواقفة في بيتنا كسؤالٍ عنيدْ... رأيتُ ذلك عبثا و تخاريف عصفت بأمي من هول صدمتها في فقد أختي ....لقدكنتُ أعلم وإخوتي أن لدينا أختا توفّيتْ صغيرة و لكننا لم نكن نعلم أن غيابها سيكون مدوّيا كعنةٍ غادرة !! و لكنّ ذلك الشعور سينفذ إليّ كوَباء قاتل فقد أصبحتُ في كلّ عيد أذهب فيه مع أمي إلى المقبرة أشمّ رائحة الحناء تنبعث من قبر أختي دون غيرها من القبور أو ربما خُيّل إليّ ذلك حتّى أن العيد ارتبط في ذهني برحلة المقبرة مع أمي و أصبحت تلك الرحلة هي فرحة العيد الحقيقية ..
رحلتْ أمّي في ليلة ينفضها القيظ كالهوْل أو كالمستحيلْ ....و في أول زيارة لقبرها و عند مدخل المقبرة أغمضتُ عيني و خُيّل إليّ أن الحنّاء تنبعث من قبريْن لا من قبر واحد ....!!
و في أحد الأيام و قد مرّت سنوات شغلني فيها العمل خارج البلاد توجهتُ بسيارتي إلى القرية ، توقفتُ عند المقبرة ، دخلتُ ، تجاوزتُ الباب الحديدي الثقيل الجاثم على الموتى كالإثم المكابرْ! خطوتُ خطوةً ..خطوتيْن..ثلاثًا ، أغمضت عينيّ ، استنشقتُ نفسا طويلا ، مرة أولى ، مرتين ، ثلاث ، بلا فائدة لم أشمّ شيئا ...تلاشت رائحة الحناء ،..فتحتُ عينيَّ وأسرعت الخُطا نحو قبر أختي ، لم أجدْه !... بحثتُ في كل مكان و لكني لم أجده ، لقد أضعتُه ، لقد مسحه الزمان من على وجه الأرض ...بحثت عن قبر أمي ..وجدته لم أستطع النظر إليها تحجّرَت مقلتاي بالدّموع لكني لم أبكِ ، ولم تكن لي الشّجاعة الكافية لأفتح عيني أو أواجهها ..خرجت من المقبرة بيديْن مرتعشتيْن و قلب ينتفض ..
ركبتُ سيارتي وتوجهتُ إلى بيت عمتي ..عانقتْني و هي تُدير رأسها جذِلةً و تُغنّي سعيدة أغاني الجنوب المالحة الحزينة ، انقبض قلبي و أنا أراها مُقعدَة وقد عبثتْ بها الأمراض ، لم يبقَ منها سوى أسنانها الناصعة و نظراتها الثاقبة المُثقلة بكلام حزين...لم أبق عندها طويلا ...تركتُها وقد وعدتُها بالعودة ...دخلتُ بيتنا ..... ، جدران حزينة باهتة و خواء يُدمي حجراته ، توجهتُ إلى الشجرة و ما إن وقعت عيناي عليها حتى تجمّدتُ من هول ما رأيت تسمَّرتُ في مكاني ..لقد ماتت الشجرة ...امتلأت عيناي بالدموع ...فاندفع الحزن الجاثم في قلبي نهرًا من الشجن ...لا أدري كيف دخلتُ المطبخ القديم ، لمحتُ الكرسيّ الخشبيّ البالي في الزاوية وحيدا ...أخذتُه وضعته تحت الشجرة ، ضممت ركبتيّ إلى صدري ، خبّأتُ وجهي في راحتيّ و أخذني النشيج تحت الأغصان اليابسة.... تعالى نشيجي طوفانًا يسابق الخواء ...ولم يتوقفْ إلا حين سمعت زغرودة عمتي المتعبة تحوم في الفراغ ...تُمزّق سكون البيت و تحرّك أغصان شجرة ميّتة ..فحنّاء لم تكنْ مجرّد شجرة !
زغرودة عمّتي كانت حزينة برائحة الموت إذ لم تجد غصنًا غضّا تحطّ عليه ...
لا أدري ربّما أخطأتْ عمّتي فالليْلة لم تكنْ ليلة عيد !!!!
خيرالدين جمعة
تونس فبراير 2019