شعرية الإيهام في ديوان علال الحجام :"مسودات حلم لا يعرف المهادنة" - د. امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أجاب فيلسوف الشعراء الحداثيين الفرنسيين: "هنري ميشونيك" ذات مرة وهو محاصر بأسئلة النقاد عن ماهية الشعر، فقال قولته المشهورة : "الشعر جواب يتساءل".
ففتح بهذه القولة مصاريع الأبواب المشرعة على سجالات ومناقشات احتضنتها المجلات المتخصصة حول ماهية الشعر الحقيقي ورسالته. وهو ما أغنى الساحة النقدية بتأسيس أطر مرجعية لنظريات أطرت مسارب القول الشعري الحداثي الذي بدأ يتدفق في أخاديد عميقة الغور روت حتى الإشباع المتعطشين لتجديد النسغ الشعري الريان القادر على خلق الدهشة والجدة.
غير أن الشاعر علال الحجام وهو يصدر آخر أنظومته الشعرية، أبى إلا أن يسمها ب : "مسودات حلم لا يعرف المهادنة" -1- معتبرا أن الشعر مسودات وبيانات لا تحتمل التأويل باعتبارها معادلا موضوعيا للحلم الذي لا يقبل المهادنة والمساومة. وهذا لعمري ما يحيل المتلقي على اجترار الأسئلة المكرورة - التي كان لها ما يبررها في السبعينيات من القرن الماضي، والمتعلقة ب "لعبة الحلم والواقع" والمساحة التي احتلتها في العملية الإبداعية عموما، شعرا ومسرحا ورواية وقصة كان هدفها خلق الإيهام المتوخى من وظيفة الكتابة .
من هذا المنطلق، يمكن القول إذن ان النصوص الشعرية التي يقترحها علال الحجام على متلقيه هي عبارة عن مسودات أملاها عليه حلمه الذي يخاله قادرا على إسعافه على تجاوز: الآني/الظرفي، والوضعي/الواقعي الذي يسبب له قلقا وجوديا مرتبطا بوضعه الإنساني/الوظيفي، ومن ثم يتوسل إلى هذا الحلم من أجل مساعدته على تحرير الذات المغلولة ، و الانطلاق نحو معانقة المدهش البهي من القول الشعري الشهي وتسويده بالحبر السري الخفي.

وبتصفحنا للقصائد (المسودات) التي تؤثث فضاء هذه الأضمومة تتبدى ملامح أحلام الشاعر والمنصهرة في بؤرة حلم مركزي يبدو مغلقا يمارس ضغطا نفسيا رهيبا يسلمه لاجترار مشاعر الكمد والأسى التي تستبد بنياطه وحناياه، فبمجرد استعادة شريط مستوداته هاته، تتضح هذه المشاعر من خلال العناوين المكرسة لهذا الاتجاه :"أشجان ميشلفن - يراع مقطوع اللسان - صباح لا تدركه الظهيرة - عش يتأرجح بين صنوج الريح - الصمت يجهش ثالثنا - وعود موؤودة - سيرة الدم- من مكابدات يحيى المقتول" ...الخ.
يفتتح الشاعر ديوانه الأخير على مستوى النشر بقصيدة يمكن اعتبارها عتبة أراد لها تحمل ملامح خطاب ميتا-شعري موجه لقارئ متسائل عن الدوافع الحقيقية القادرة على إشعال فتائل البوح الشعري الهادف إلى خلق الدهشة المرجوة. وقد اختار الشاعر لهذه القصيدة عنوانا موحيا يحيلنا على النقاشات الطويلة حول ماهية الشعر : "يراع مقطوع اللسان" ، إنها قصيدة ترسم ملامح معاناة الشاعر من تمنع الحروف على ورود الخاطر، وتقوس اليراع الذي لا يطاوع أنامله، وجفاف أريه الذي ما عاد يشبه لعاب الأفاعي القاتلات لما كان بأيدي شعراء العربية العظام كما هو الشأن بالنسبة للشاعر الفيلسوف "أبو العلاء المعري" حين حدثنا عن سنان القلم وما ينفثه حين قال :
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه وأريه اجتانته أيد عواسل
إن استشعار الشاعر لعجزه عن التعبير عما يساوره من رؤى يتجلى في جفاف مداد ريشته، وتقوس اليراع الذي أصابته الشيخوخة في الزمن الرديء:
"لا الحروف الطوالع خانت
و لا المستديرة قد ناصبته العداء
لكن، شلال الريشة جف
و ما عادت تنفع أشرعة التزويق
بعد أن تقوس اليراع على دلتا الزمن الزنديق
وهو يزحف إلى غرفة الإنعاش
بين نعوش ثلاثة ضاقت بالرؤيا حرقتها "
إن معاناة الشاعر كبيرة ، و لذلك فهو يترقب لحظة الانعتاق من هذا العجز المكبل للطاقة التعبيرية و يحرض القريض على الانهمار لينثال على خاطره ، و يتمخض بركانا في دواته الجافة لهتك حجاب الصمت الذي يرين على بياض صفحاته . إنه يبتهل متوسلا للحروف "الطوالع و المستديرة " كي تنسل من جحورها الجامدة لترسم على الصفحات الفاقعة لوحات ورد و قرنفل و تبث فيها الحياة عبر تسويدها بالأناشيد و الأحلام المحركة للتماثيل:
"يا نجيع الغزال انهمر و انتفض
و تمخض ما طاب لك
في بركان الدواة
شاهدا في قفص الصمت على الصبار
يفقأ مقلة ابن مقلة
كلما سيج شوك الإعجام قرنفل الصفحة الأخيرة
و انسل إليها كابوس من نشيد الإنشاد
مارقا من فجوة التدوير
يقشعر المنمنمات من لثغتها
ويرسم خيباتها طوال ثلاث ولايات
خط الثلث بدم ممسوس." -3-
غير أن الشاعر كلما توهم من نفسه القدرة على هتك حجب الصفحات الخرساء للتعبير عما ينتابه من هوسه بحلمه الذي يريد له أن لا يكون مهادنا ، تتمنع عليه الحروف ، لأن عوسج الإعجام يحاصر خلاياه ويحول بينه وبين الاسترسال في لم شتات أحلامه ورسمها على الصفحات الشاحبة، وكأنه أصبح أسير مقولة شاعر النقائض الفرزدق المشهورة:
"إن خلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر."
وهو كلما أحس بعجزه عن فض بكارة صفحاته البيضاء، وانحسار مساحة الرؤيا الشعرية الكفيلة باقتناص المدهش البهي منها، وصياغتها بمداد يراعه، يرتد - كما عودنا على ذلك في كل دواوينه السابقة- إلى المجال الطبيعي ليصوب عدسة تصويره نحو ما تحفل به من مظاهر الجمال البادي لعين الرائي، وهذا ما يساعده على رسم لوحاته الطبيعية بالحروف اعتمادا على نظرية الانعكاس التي تولد فيه طاقة تعبيرية خلاقة. إنه معينه الذي لا ينضب الذي يزوده بقدرة هائلة على مراسلات وجدانية تتمثل في ما تختزنه الطبيعة الغناء من مظاهر الجمال الأخاذ، وما ترمز إليه من دلالات إنسانية من وجهة نظر الذات الشاعرة.
- الاحتفاء بالمكان الطبيعي :
يهيمن الحقل الدلالي للاحتفاء بالمكان الطبيعي على باقي الحقول الدلالية في الديوان، ولعل ذلك راجع لما تزخر به مدينة إفران وضواحيها من جمال يسحر الناظر ويأخذ لبه كلما تأمل في ما تزخر به عروس الأطلس من مناظر طبيعية خلابة وغابات جذابة، ورياضات وحدائق فياضة.
ولإبراز هذه المفاتن الطبيعية التي تحرره من انحسار الرؤيا ، وتزود يراعه بالأري القادر على وشم الصفحات البيضاء، يوظف الشاعر تقنيتين اثنتين :
أ‌- تقنية الإنزياح اللغوي كأداة تعبير موحية متكئا في ذلك على عنصر أساسي يتمثل في أنسنة مظاهر الطبيعة.
ب‌- خلق حوار قائم على أساس مراسلات وجدانية بين الذات المؤمنة بقيم إنسانية نبيلة ، وبين ما توحي إليه المظاهر الطبيعية الخارجية.
ففي الجزء الرابع من الديوان، وتحت عنوان فرعي : "من أوراق إفران" يسترسل الشاعر في توظيف تقنيته هذه من أجل الإحتفاء ببهاء الأمكنة الطبيعية، واستقراء ما تزخر به من فتنة وجمال. وما توحي إليه من قيم إنسانية.
ففي قصيدة : "خريف" يرسم الشاعر ما تزخر به مدينة "إفران" وما تعكسه للرائي من مظاهر السحر الفتان، والجمال الريان حينما تتفتق براعم أغصان شجر الأرز، وأفنان خمائل الغدران، وأزهار البيلسان في مطلع فصل الربيع، أو ما توحي به هذه العناصر الطبيعية من مشاعر الحزن والشجن بحلول فصل الخريف الذي تكتسي فيه الطبيعة لون الأصفر الفاقع، أو البني الشاحب.
وفي هذا يقول :
"تعلن عن وصوله الأوراق المحترقة
وهمسات الأنداء للبراعم،
والريح تهز كتفيها بين حين وحين
ساخرة من تحايا الشمس العاجلة...
مثقلة بتراقص الأشعة
وحفيف العليق
وشوك البرد في الربى،
ما أغرب الأشجار
تشكو في نهاية الخريف
تترع في الفجر جلبابها الخفيف
ورقة ورقة
وتخلع على أكتاف الهندباء
غلالة الثلج البهي في العراء..."-4-
إن الملاحظة التي تسترعي الانتباه هنا، هي قدرة الإنزياح اللغوي على منح الطاقة للشاعر كي يبث الروح في العناصر الطبيعية عن طريق فجوة التوتر بين الدال والمدلول ، (فأشعة الشمس تتراقص مثقلة، والأشجار تبث شكواها في نهاية الخريف الذي يعريها من جلابيب أوراقها).
وفي قصيدة : "زبانية الثلج" يطلق الشاعر عنان يراعه، ويستل منه الأري الكفيل بتجسيد ما يزخر به منظر الثلوج المتساقطة كلما أقبلت الأماسي ، وهنا يتوغل الشاعر في أنسنة عناصر الطبيعة ووصف حركاتها الموحية :
"وشوشت غيمة
تمتطي صهوة الريح متعبة
لصنوبرة تتآكل أفراحها الخضر:
إن زبانية الثلج
لا....لا محالة قادمة في المساء قبيل
صلاة العشاء
أطرقت لحظة
ثم قالت لهم : أيها الأصدقاء الأعزاء
ليس هنالك من حطب في الممر
لتدفئة الوهم يلتحف القهقري
في المسافة بين احتمال الرحيل
إلى واحة في تخوم المحال وبين الجراح
أتزوروننا دون أن تطرقوا بابنا الخشبية ؟ -5-
وفي قصيدة : "فيتيل" ينتقل إلى وصف النبع الفوار لهذه العين الفوارة، فيسبغ عليها صفة الأمومة لما يتميز به نبعها الثر الباعث ليناعة الخضرة المنسابة بين الربى والبراري :
"الأمومة في منتهى حنوها الأرض
تتشرب من نبعها الثر،
والأخضر المنتشي ببراءته في البراري
طيور تراود أفنانها
""لكن أصابع الماء في فيتيل كبهجة القمر
تقطف أزهار البشرى حينما تثرى
وتطير طلاوتها أعلى،
فإذا بأغاني الشمس
تكحل في الصبح عيون السهاد مقاماتها
هامسة تصالح ما بين الفلة والدفلى
وترصع أذيال الظل بالدرر -6-
وفي قصيدة : "البحيرة واجمة" يقدم لنا "بورتريها" يكاد يكون بالألوان عن منظر انعكاس اخضرار شجر الصفصاف ومدى الأثر الذي يتركه على صفا الصخر الثاوي في عمق البحيرة، ثم يضيف على هذا المنظر نوعا من الحركة التي يباشرها البط الذي "يعكس لغط كلس الكمد" وكذلك حركة العابرين الذين يقصدون هذه البحيرة كلما اصفرت أشعة شمس الأصيل مؤدنة باقترابها من الأفول في الشفق :
"تسبح باقات الأخضر في زرقة
تعتصر السماء من شهقاتها المدام
فيغار الحصى في لويناتها
وينام على كتفيها الغمام .
البحيرة تحتمي بوجوم الصفصاف
دأب البط أن يوقظها
ويكسر لغطه كلس الكمد،
لكنها لا تطمئن في أصيل تؤنسه
كركرات العابرين ،
ويهدد ألفته غروب جاف كالعطش،
وسخرية الصبيان من وداعة الأسد" -7-
وفي نفس السياق، وبطريقته المعتادة في إضفاء الحركة والحيوية في أوصال الطبيعة عن طريق أنسنتها، وبث الروح فيها عبر توظيف الإنزياح اللغوي، يصف في قصيدة : "تثاؤب أكلمام" هذه البحيرة وكيف يهب النسيم على سطح مائها، وما يتركه من أثر، وكيف يشاكس ارتعاش أشعة الشمس محاولا تقبيل الرذاذ المنثور على حوض البحيرة:
"وحدها القافية النحيلة تحت المظلة
في شرفة تطل على البحيرة في أعلى أكلمام
تستدرج للبوح مرايا الماء
حين تخدشها القشة
ويضمد جراحها النسيم،
أو عندما تشاكس ارتعاش أشعة يلثمها
رذاذ قبلة خجلى وراء الصنوبرة ،
قد تغسل حيرة البط أمام رشقة حصاة طائشة،
أو تعري وضاءة السقوف الحمراء الخضراء
على مرأى من الغمام
لعلها تسائل قلعة رابضة في أعلى الجبل :
- يا شموخا يطارد سكينة الغابة
هل تسمع في الليل شهقة خيمة مثقوبة
على مرمى حجر
تناغي رضيعا يهدهده المنحدر
يبكي ثديا أعجف اغتالت ربيعه الأهواء".-8-
ثم يمضي الشاعر في استقراء مفاتن جمال طبيعة إفران، عروس الأطلس، وما يحيط بها من جبال راسيات، فيصوب عدسة تصويره نحو جبل "ميشليفن" الذي يبدو له جالسا القرفصاء وكأنه شيخ هرم يقص حكاياه التي خبرها عبر قرون خلت، ويستعيد شريط حكاياته العابقة بالحكم، إنه يعاتب الريح على ما تخلفه من صرخات وانكسارات الأفنان والأغصان وجذوع السنديان الأشم، ويناجي دياجير الليالي ، ورمضاء الظهيرات وما تسببه من رماد وجراح التراب وبكاء المرمر:
"ميشليفن جلس القرفصاء على صخرة
تحت غصن يبيس
يستعيد حكاياته
ويعاتب ريحا على هبة الفجر تفزع سمانه
أخطأت في المتاهات صوت الأنيس،
وعلى صرخات انكسارات نسغ
يناجي دياجير أعماقه
يوقظ في كل جذر تحت أخفاف الرماد
جراح التراب ...
من أبكى المرمر
على صدر الدمار ؟
من أخرس ثرثرة الشمس
في منتصف النهار ؟"
هو ذا يتقطر حلما تجف جداوله
ويعادي الدفء منامته ،
يرتدي فرو الثلج بين الأعالي
ويدمن وحده جمر الغياب "-9-
لقد تبدل حاله، واستحال فصلا تجاهلته الفصول، وأصبح "يركب فجاج السراب":
"هو ذا يتقطر فاتحة لفصول تجاهل ما حولها..
أصحيح أصاب مفاصله الرومتزم
وهو يركب أيل المدى في فجاج السراب...."-10-
ثم يسترسل في هذه القصيدة وهو يستقرئ ملامح الجمال الذي تطفح به مدينة إفران ونواحيها محتفيا بسحر وأنغام الطبيعة الحية، والمتمثلة في : الخطاطيف التي بنت أعشاشها في قلب شجر الأرز، والوطاوط والعنادل التي تبدأ في قرع كؤوس الغواية كلما غبشت الأماسي وانسربت خيوط أشعة الشمس الشاحبة الألوان فوق أغصان جذوع الشجر القاسي:
"مثلما يغير جلده الثعبان
تغير كل يوم خطا طيفها
أعشاش الأشجار المجاورة،
متأهبة لقرع كؤوس الغواية.
"""بين لهاث وطاويط
ترعى دخان سجائرها
واصطكاك عنادل
أنهكها وجع التطواف
تفترس فوبيا الصقيع خوافيها
"""هل ضللت الطريق
إلى العش المتأرجح بين صنوج الريح
في نهاية الممر الغارق في الديجور ؟" -11-
التأمل الرصين فيما ترمز إليه الطبيعة من معان :
وبعد هذه المراسلات الوجدانية فيما توحي إليه مظاهر الطبيعة : الصامتة والحية، خصص الشاعر قصيدة من إحدى عشر مقطعا شعريا تحت عنوان : " نبع لم ينطفئ بعد" من الصفحة 88 إلى الصفحة 107، يمكن تأطيرها في شعرية التأمل الرصين في ما تحمله عناصر الطبيعة من رموز ومعاني إنسانية نبيلة ، وقيم مستقاة من مظاهر الكون خبرتها الذات الشاعرة مما تراكم لديها من معرفة وإلمام وقراءة واعية، وما نهلته من مصادر معرفية (فكرية، فلسفية، فنية، أدبية، تاريخية، دينية...) . إنها نظرات عميقة لها قدرة إعادة صياغة هذه المظاهر الطبيعية وصهرها وجدانيا ضمن صور ورؤى قادرة على إعادة تشكيلها وفق رؤيا شعرية أصيلة دالة على الجهد الذي بذله صاحبها من خلال تجاربه الإبداعية السابقة، كي يعبر عن خصوصية أصبحت تميزه عن باقي أصوات شعراء جيله.
إن لهذه القصيدة الطويلة نكهة خاصة، وطعم يحيل على المجهود الذي بذله فيها صاحبها شكلا ومضمونا، بناءا ومعنى. إذ خص الشاعر كل مقطع من المقاطع الإحدى عشر التي نسج عليها خيوط قصيدته بحرف أبجدي : من الألف إلى حرف الطاء في مستواها البصري الأول، تقابله مقاطع شعرية مرقمة من رقم 1 إلى رقم 9 في مستواها الثاني ، وهذا ما يكشف عن هوس الشاعر علال الحجام باستعمال تقنية جديدة من أجل كتابة تضيف لرصيده السابق قيمة مضافة، إذ بإمكان القارئ لهذه القصيدة أن تتاح له قراءتين منفصلتين للقصيدة الواحدة التي أصبح لها وجهين متقابلين : إذ يمتد نفس القصيدة في مستواها الأول على يمين الصفحة، ويقابله نفس ثان على يسارها . إنها تقنية جديدة تتيح إمكانية قراءتين منفصلتين للقصيدة الواحدة.
شعرية الشهادة على واقع الوطن القومي المغتال :
وجاء الجزء الأخير من الديوان ليعيد الشاعر إلى الانشغال بالهموم القومية وما تركته الأحداث السياسية والاجتماعية من ندوب غائرة في الوجدان الجمعي للأمة العربية التي تمر بأعصب مرحلة من مراحلها التاريخية :
ففي قصيدة : "من مكابدات يحيى المقتول" رؤيا فجائعية لما تعرفه سورية من أحداث تروم طمس معالم الخضرة والجمال ، وشيوع مساحات لا تحصى من الرماد واليباب:
"حين يطعن في الفجر السفهاء الماء
سرا وعلانية...
من يروي زهرة الجلنار
عواصف يشحذها لهب الصحراء ؟
سيان أن يستعدي الظاهر ناصره
في الفجر عليا
وتجور دمشق على حلب
"""لم أكن أعرف أن كلمة السر التي أضاعها الجلاد
على الرقعة بين البهلول وقلعته
قد زادت السيف البليد عطشا
فكفرت في منفاي الأخضر بالفتوى كفرا
""يا أشباحا تلبس أقنعة الأسد البلهاء
قد تكون مساحات الرماد واسعة
لكن براري الخضرة أوسع من طوفان النار
وربيع الغابة لا يخشى صدأ المنشار " -12-
ويخصص الشاعر للأحداث التي تعاقبت على تونس والبلدان العربية بعد اندلاع الغضب الشعبي ضد الطغمة الحاكمة قصيدة بعنوان : "تغريبة هلالية" يقول في مقطعها الأول المعنون ب "نشيد أبي زيد" :
"هذا الصباح قد يكون
ممطرا وعاصفا ،
وقد تكون بداية الطريق لغما مرصود
ونهايتها حلما موؤود
"""وأنشدت يونس : لا ننس وعدا
قطعناه ذات نجيع لتونس
قد تتفرع أفنانها في الخريطة فجرا بديعا
وقد تتداعى سريعا ، وتطحنها عجلات الزمن
وقد تتوانى
ولكنها في النهاية تغدو ربيعا ..." -13-
ثم يمضي الشاعر في ما تبقى من قصائد هذا الجزء الأخير من الديوان رافعا صوته بالإدانة والشجب لما تقترفه السلطة الآثمة في كل أصقاع العالم العربي الموبوء في هذا الزمن الأغبر الرديئ ، حيث يقول في مقطع بعنوان : "صوت العنقاء" :
"بأي لون تستطيع الرصاصة
يا بهجة الميلاد
أن تدبح قصيدة مدح باهتة على شواهد
القبور:
بلون الدم القاني أم بلون الدخان ؟
ألا ما أبلد نباهة الجلاد
حين يظن أن يدا أصابعها عقارب
بالخيانة موشومة
يمكنها أن تزرع الأنقاض
سوسنا
وزئبقا
وأزهارا مكسوة بالنور"-14-
ليلقي بجام غضبه على الموقف العربي المتخاذل من كل الأحداث المخزية التي عصفت به دون أن يحرك ساكنا :
"قد عجبت من الصفر العربي
يتحرك صوب يمينه منتفضا ويخض المدى ويطير
مفزعا حوله عسسا واثقا
يستحث الصقور
على أن تلحق وسط السعير ...
وعجبت من الطين العربي
يستعيد صلابته حجرا فرحا
ينفض الوهن
والذل عنه يقاوم طاحونة الريب
ورأيته يزهو دما هادرا قد خلع
شهقات الهلع
وارتدى صولة الغضب "-15-
وبعد تعرية الموقف السلبي للسلطة الحاكمة في هذه البلدان العربية، وإدانتها والسخرية منها ، يستشرف الشاعر مستقبلا واعدا بتصميم الرجال على التحدي، ويشيد بطاقات سواعدهم القادرة على هد الجبال :
"قد عجبت ، ويا له من عجب
هو ذا المارد العربي
لم يمت أبدا
بل غدا
يتحدى جحيمه غير مبال
بعاصفة الرهب .
فإذا هو صوت يهد جبال الفزع ..."-16-
بهذه النبرة المتفائلة ينوه الشاعر بالفورة الكامنة في أوصال الأحرار القادرين على تحدي واقع التجزئة الممقوتة، واقتلاع مظاهر الخزي والعار.
يتبدى من خلال التأمل الرصين في هذا المتن الشعري الذي أراد له الشاعر أن يضفي عليه طابع الإيهام باعتباره مسودات أملاها عليه حلمه الذي لا يعرف المهادنة ، أنه نسجه حول تيمة المكان الطبيعي كفجر للقول الشعري القادر على انتشال الذات من رتابة الحياة اليومية ، ومن الانشغال الوظيفي الذي يزج بالكائن البشري في دوامة لا يستطيع منها فكاكا إلا باستدراج قدرته الخلاقة على انهمار الحروف وتوارد التعابير المروضة لليراع، كي ينفث عسله الذي يسري على صقيل الصفحات البيضاء. وهذا ما يحرر الذات الشاعرة من غلالة أحزانها، ويسمو بها في مدارج التأمل العميق فيما يوحي إليه المكان سواء بما تكتسيه مظاهره الطبيعية من بهاء وسحر وجلال، حينما يكون مرتعا للخصب واليناعة والجمال ويترك لدورته الطبيعية المتجددة بتجدد الفصول أو باعتبار هذا المكان هو المفجر للواعج الكائن البشري الذي ينتمي إليه حينما يتعرض للمسخ والتشويه والدمار بفعل الجبروت والطغيان وتسخيره للمصالح الأنانية الزائلة .
ومن ثم يصبح المكان في الحالة الأولى محرضا على التملي والاستمتاع بما ينطق به من سحر وجمال، أو بما يوحي إليه من قيم إنسانية نبيلة، ويتحول في الحالة الثانية إلى مؤجج لمشاعر الغضب والإشفاق على حاله، والتنديد بمن لا يتورع في تحويله إلى بؤرة للصراع والهدم والتشويه.
ومن أجل الاسترسال في بوحه الشعري، وظف الشاعر تقنية الانزياح اللغوي مع حرصه على بث مراسلاته الوجدانية عبر صياغة صور شعرية ارتقت بتعبيره إلى رؤيا أصبحت أصيلة لديه بحكم تمرسه الطويل بإشعال قوله البهي .

هـــــوامـــش
1- علال الحجام : "مسودات حلم لا يعرف المهادنة" ط1 دار الأمان-الرباط 2016
2- " " : من قصيدة : "يراع مقطوع اللسان" ص:8
3- " " : نفسه ، ص:9
4- " " : من قصيدة : "أوراق إفران" ص:28-29 بتصرف .
5- " " : من قصيدة : "زبانية الثلج" ص:30-31
6- " " : من قصيدة : "فيتيل" ص:32-33
7- " " : من قصيدة : "البحيرة واجمة" ص:34
8- " " : من قصيدة : "تثاؤب أكلمام" ص:36-37
9- " " : من قصيدة : "أشجان ميشليفن" ص:42-43
10- " " : نفسه ، ص:43
11- " " : من قصيدة : "عش يتأرجح بين صنوج الريح" ص:50-52-53 بتصرف.
12- " " : من قصيدة : "من مكابدات يحيى المقتول" ص:130-132 بتصرف
13- " " : من قصيدة : "تغريبة هلالية" ص:134-136 بتصرف
14- " " : من قصيدة : "صوت العنقاء" ص:141-142
15- " " : من قصيدة : "صوت الشاهدة" ص:143-144
16- " " : نفسه ، ص:144

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة