لا يقل حضور الطفولة في الثقافة الشعبية عن مثيله في حقل الدراسات النفسية والتربوية المعاصرة، سواء محليا أو عالميا. تشهد بذلك الأمثال والألعاب والأهازيج، وآلاف الخرافات وحكايات الجدات التي تعد مدرسة في الإبداع، والجنوح بالخيال إلى أقصى مداه. فالثقافة الشعبية كانت، ولاتزال بدرجة ما، هي الحاضنة الأساسية للطفل، يتشرب منها القيم والعادات، ويكتسب منها معايير السلوك الاجتماعي، وقواعد العيش داخل فضاء الأسرة والقبيلة.
إن عملية تنشئة الطفل شكلت تحديا لدى كل أمة للوصول به إلى أفضل مستويات النمو والتعلم، من خلال تزويده بالتجارب والخبرات، والممارسات العملية التي يتوجب تمريرها من جيل إلى جيل. هكذا تصبح شخصية الطفل حصيلة معتقدات الراشدين، التي تعبر بدورها عن مخطط ثقافي، هاجسه الأساسي هو ضمان الاستمرارية والخصوصية، ومكافحة كل أشكال التغريب والاقتلاع.
والأمثال، باعتبارها إحدى قوالب الموروث الثقافي، تلعب دورا مستمرا في غرس معتقدات مشتركة، تتسم عادة بالثبات وصعوبة التغيير. فكما أنها تنطوي على مبادئ تربوية واجتماعية أصيلة، فإنها أيضا تُسهم في تغذية تمثلات خاطئة، وتضطلع بوظيفة الدفاع عن تصورات جرى تفنيدها بفعل التقدم الحاصل في شتى حقول المعرفة.
من هذا المنطلق، وسعيا للكشف عن صورة الطفل في الموروث الشعبي، والأدوار أو المعايير الثقافية التي يجد نفسه مرتبطا بها وملزما بالتكيف معها، تم رصد نماذج من الأمثال العامية المتداولة في المغرب، واستنطاق دلالاتها النفسية والتربوية، من خلال أربع مستويات تهم: صورة الطفل في المثل المغربي، وعلاقته بالأم، ثم الاتجاهات الإيجابية والسلبية المتعلقة برعاية الطفل وتنشئته. وفي الأخير نلقي نظرة على موقف المجتمع من الطفل في وضعية خاصة "الربيب، اليتيم، ابن الأمة..." والتي تؤسس لوضع مُفارق، بين توجيهات الخطاب الديني وتجلياته في الواقع.
بداية تجدر الإشارة إلى أن المثل، باعتباره خلاصة بليغة وموجزة للتجربة الإنسانية، لا يكتسي في جميع الأحوال طابع التوجيه والإلزام السلوكي، بل كما يرى الأستاذ عبد العزيز الأهواني، فإنه يضطلع أيضا بوظيفة أدبية وبلاغية، تقصد إلى عرض صور تحقق الإمتاع الفني، بما تشتمل عليه من تشبيه دقيق، أو مفارقة مضحكة، أو فن من القول طريف(1).
غير أن الممارسة التربوية، سواء داخل الأسرة أو على مستوى الفضاء المدرسي، تكشف عن تأثر واضح بالتوجيهات التربوية التي تتضمنها بعض الأمثال، حتى وإن كانت أدبيات التنشئة والرعاية المعاصرة تؤكد ضررها وآثارها السلبية. ولا أدل على ذلك من استمرار العقاب البدني داخل الفصول الدراسية اقتناعا بأن "العصا خرجات من الجنة!"
● صورة الطفل في المثل المغربي:
تتراوح صورة الطفل المغربي في الأمثال العامية بين القبول به كعطية من السماء، يضفي على الحياة بهجتها، ولا تستقر الحياة الزوجية إلا بوجوده، وبين اعتباره هما ينضاف إلى سائر الهموم التي تقيد حركة الإنسان وتؤرق معيشه اليومي.
وتبدو المسألة في عمقها رهينة بسوء فهم لمدلول الرزق وارتباطه بالمشيئة الإلهية، كما نبهت إلى ذلك النصوص الدينية والثقافة العالِمة. كما تحيل ضمن سياق تاريخي على مخاوف الأوبئة والمجاعات التي كان المغرب مسرحا لها خلال فترات محددة، والتي جعلت من القمح صاحب القول الفصل في تاريخه، كما يقول المؤرخ فرنان بروديل، وبالتالي ارتبط إنجاب الأولاد بزيادة الهم والبلاء.
في وضع اليسر والرخاء، تبرز أمثال بالغة الإشادة بالطفل من قبيل:
- الدراري ربيع القلب
- الخدمة على الأولاد سبقت العبادة والجهاد.
- اللي ما عنده بنات ما عرفوه الناس فوقاش مات.
أما في حال الضنك وقلة ذات اليد، يفقد الطفل حضوره كعطاء، ليصبح بلاء وهمّا يُنغّص المعيشة. بل وتكتسي بعض الأمثال صبغة احتجاج على الفوارق الاجتماعية:
- التاجر إيلا اطلب العيال كيجيه الريال، والمسكين إيلا اطلب الريال كيجيه العيال.
- أنا نشكي له بعذري، وهو يقول: الله يعطيك الدراري.
بيد أنه في الحالتين معا، يشكل الأولاد لبنة أساسية لاستمرار الحياة الزوجية، والمحافظة على مقدرات الأسرة المادية "الإرث"، والمعنوية "الشرف، المكانة الاجتماعية، الدينية..." لذا تدافع الأمثال عن حضورهم كتوثيق لتلك العلاقة:
- الزواج بلا عيال قليل دوامو للرجال.
- الزيتونة كتصبر للضرب على أولادها.
● علاقة الطفل بالأم:
يختزن المثل تعبيرات متفردة للأمومة في أوضاعها وحالاتها، التي يلتئم فيها الاستئناس بهم مع الشكوى من متاعب التنشئة والرعاية:
- الأولاد تينوّسوا وتيهوّسوا.
كما نجد في الأمثال مغربية تنوعا في الإشادة بأدوار الأمومة، ما بين ذكر الأم صراحة، أو استعارة أدوات ثقافية دالّة من عالم الطبيعة والحيوان:
- كل خنفوس عند أمه غزال.
- قالتها العودة: من نهار اللي ولدت ولادي، ما كليت علفي وافي، ولا شربت مايَ صافي.
- الزيتونة كتصبر للضرب على أولادها.
- الزيزون (الأبكم) ما تعرف لغته غير امه.
غير أن التعبير المفرط عن الأمومة يثير سلوكيات تربوية غير مقبولة، ويلقي على عاتق الأم مسؤولية تقييد مشاعرها الجارفة، لتنشئة الطفل بشكل متوازن، يؤهله لتحمل تبعات الحياة.
- حبّ أولادك من قلبك، وربّيهم بيدك.
- دردب تكسب؛ وهي عبارة تقال لحثهم على عدم الخوف، ومواجهة المواقف بشجاعة.
- تكبر وتنسى؛ وتقال للصغير حين يسقط على الأرض، لتسليته وحثه على الكف عن البكاء.
- زيّر اللّوالب، لا تبقى راخي الحبل.
ويظل الاستثناء الوحيد الذي تسمح به الذاكرة الشعبية، على مضض ربما، هو وحيد أمه الذي رزقت به بعد عناء، إما بسبب المرض، أو تأخر الإنجاب، أو قدوم الإناث أولا. وسبب ذلك أن محيط الأسرة يتقاسم تلك المعاناة بشكل حاد، ويدفع الأم بشكل مباشر أو غير مباشر، لبذل مساع مؤثرة، تطرق من خلالها المرأة فضاءات الزوايا والأضرحة، وتقدم النذور، وتستجيب لألوان الشعوذة والدجل:
- هذاك الولد جا على تَاتَه والفكرون، وسيدي قاسم بن رحمون.
- هذاك غير لقيمة مسعية.
- هذا لهرا طايب فالكدرة (القِدر).
●رعاية الطفل وتنشئته.. آراء واتجاهات:
تنطوي الأمثال المغربية على قيمة تربوية وتعليمية، تتمثل في رصد مختلف الاتجاهات والممارسات التي طبعت أداء الأسرة لهذه الوظيفة الاجتماعية الهامة. وإذا كانت الأصول والمبادئ العامة سليمة ومعبرة عن ثوابت المجتمع وقيمه، إلا أن الأساليب والمواقف اختلفت تبعا للأدوار التي سيلعبها الطفل في محيطه السوسيو ثقافي، وكذا للتصور السائد حول التعلم كمدخل للاندماج في فضاء أرحب.
تعكس بعض الأمثال تباينا في الآراء حول فعل التربية نفسه، والمحصلة النهائية من توجيه سلوك الطفل وإلزامه بمعايير اجتماعية وثقافية محددة. حيث يعتبر الفريق الأول أن التربية جهد إنساني خالص، يتصل فيه السبب بالنتيجة:
- العنقود الكبير من الدالية المخدومة.
- شبّع وطبّع!
- الفقوس من الصغر تَيْعواج.
- اللي ربى ولده نكا عدوه.
- اللي ما تربى على طبلة بوه ما يشبع.
بينما يربط الفريق الثاني جهد التربية بسبب غيبي، ويقدم ذريعة لبعض مظاهر السلبية والتواكل التي ترخي بظلالها حتى اليوم على علاقة الأسرة بالمدرسة، والفضاء السوسيو ثقافي بشكل عام:
- المربي من عند ربي.
- الشّا الرّا ما ربّات حمير.
- الوردة كتولد الشوكة، والشوكة كتولد الوردة.
- اللي ولد الغول ما عنده ما يقول.
من جهة أخرى تتفق الأمثال على أن التنشئة الحسنة تمنح الأسرة قيمة مضافة، وسمعة طيبة؛ مثلما أن التفريط فيها يعود بالضرر وسوء العاقبة:
- اللّي خلّا اسم مليح، ولادو يصلّيوا بلا تسبيح.
- الترابي قبل الجامع.
- أولاد عبد الواحد كاع واحد: كناية عن تربية الأبناء على نمط سيء مشابه للأب. ويحكى أن عبد الواحد هذا كان رجلا طماعا، ومحتالا على ما في يد الناس، وربى أبناءه على هذه الخصلة الذميمة.
- ولدك كوّنيه لا تكوّن ليه: ويحيل المثل هنا على توجيه تربوي فريد، يقوم على إعداد الطفل ليبني مستقبله بنفسه، بدل أن ينشغل الآباء بذلك. ويقال أن هذا المثل من مآثر أهل سوس جنوب المغرب، والذين يشتهرون بالحذق في التجارة.
- قرّيه وأنت اقتل وانا ندفن: وهي دعوة صريحة للتشدد في تعليم الصبيان، حتى يتعلموا العلم ويتربوا على الأخلاق السامية. وبالرغم من آثاره الضارة، لايزال هذا الموقف يحظى بتأييد من لدن الآباء والمدرسين حتى اليوم!
- اغرس قلّع ما فيه اربح، و" النبتة المقلعة ما تنبّت ربيع": وهي عبارة تقال لمن يكثر تغيير المدرسة لأبنائه، فلا يحقق ذلك التوفيق المطلوب.
وعلى المستوى التعليمي استوعبت الأمثال جانبا من النقاش المجتمعي حول أيهما الأفضل في تلقي العلم: الشفهية أم الكتابية؟ ويبدو أن للأمر علاقة بانتشار المدارس العصرية، وما مثّله ذلك من تراجع لدور الكتاتيب القرآنية، فأرخت المسألة بظلالها على أنماط تلقي العلوم والمعارف، رغم أن الثقافة لا تقيم تعارضا بين الاثنين:
-العلم فالراس ماشي فالكراس.
- ينسى الراس وما ينسى الكراس.
- كيسكتو اللّحِي ويتكلمو الكواغط.
● أطفال في وضعية خاصة:
لعل أغرب موقف اختزنته ذاكرة الأمثال المغربية، هو موقف الأسرة من الربيب، والذي لا يكتفي بالتحذير من تقبله وإدماجه في نسيج الأسرة، بل يصل إلى حد الدعاء عليه بالفقدان والموت. كما جرى التحذير من "ولد بنادم" او الدخيل على العائلة، واعتبار محاولة تنشئته ورعايته جهدا بغير طائل، وهدرا للوقت والمال.
وقد يجد هذا الموقف تفسيره في تكلفة الرعاية إذا كان الوضع المعيشي للأسرة لا يسمح بذلك، كما قد يحيل على أسطورة زوجة الأب الشريرة، والتي تغذيها عشرات القصص، رغم وجود زوجات يتمتعن بحس العطاء، وتستوعب أمومتهن القريب والغريب. وقد يعود الأمر من جهة ثالثة إلى ما أثير من إشكالات فقهية مرتبطة بالإنفاق، واستغلال مال الربيب وغيرها.
- زِد هاذ الصبي على صبيانك تكمل احزانك.
- اللي تيربي ولاد الناس بحال اللي كيدق الما فالمهراس.
- ولد الأمَة ما يفلح، وإذا افلح يا عجبا!
- فرّش لأولاد الناس فاين ينعسو ولادك: وهي حالة فريدة في الدعوة للمعاملة بالمثل، تستلهم معطى الخطاب الديني، والثقافة العالِمة.
- الربيب كله علّة وطُليب، طيّره يا رحمن: والطُليب في مأثور أهل فاس هو العدو.
- ولد ابنــادم لا تربـيـه بعد ما تربيه نادم
يا السايلني على الغول الغول، هو ابنادم.
وهي إحدى رباعيات الشيخ عبد الرحمن المجذوب الذي جرت أقواله وأزجاله مجرى الأمثال في شمال إفريقيا.
وفي وضعية اليتم يفقد الطفل كل ناصر ومعين، لذا تقرنه الذاكرة الشعبية بصور الانكسار والضعف، وضياع الحقوق:
-رجلين ليتيم كيجيبو الغيس في السمايم.
- كيتعلموا الحجامة فريوس ليتامى.
أما وضعية الإعاقة فتحتفظ الأمثال بمواقف قاسية، وتمثلات خاطئة تحيل على العجز والتشفي الذي يقرن تلك الوضعية بالعقوبة الإلهية:
- ما يعواج ولا يعراج غير البلا المسلط.
- يدي ويد القابلة ويخرج الحرامي اعور.
- عيات أم الحمق ما تعض فشواربها، قال ليها: من جهتي غير قطعيه.
إن الأمثال باعتبارها وحدات كلامية تختزن ذاكرة الشعوب، بحاجة إلى مراجعة استخداماتها وإعادة فرزها، وتحرير مضمونها الإنساني من المواقف السلبية، خاصة في مجالات تتنافى أدوارها الحديثة، مع التمثلات المجانبة للصواب كمجال التربية والتعليم.
وتظل الأمثال، بالرغم من قيمتها و رمزيتها، ودلالتها على الانتماء الثقافي، وليدة خبرات ذاتية، بعضها يعكس حقائق تحظى بالواقعية في حياتنا الاجتماعية، بينما يحيل البعض الآخر على تصورات وعادات، وردود أفعال لا تقبل التعميم.
ـــــــــــــــــــــــــ
1- إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين: إعداد وإشراف عبد الرحمن بدوي. ص251- القاهرة1962