حظيت الرواية الأولى لفرات العاني بتقدير نقدي جيد في فرنسا، فقد حصلت على جوائز فيمينا، أميريغو فيسبوثي، وسنغور لهذا العام ٢٠٢٣م، ووصلت إلى المرحلة النهائية لجائزة غونكور للرواية الأولى.
يستحضرُ فيها فرات العاني جذوره العراقية، وأزمة الهوية، ويستهلُها باقتباس من جورج ساند "النسيان هو الكفن الحقيقي للموتى".
تطرحُ الروايةُ قضية التأرجح بين الحنين، والبحث عن الذات، آلام الماضي وأحلامه المتعثرة، ومواجهة الحاضر وخيباته.
هي قصة أب وابن، بل هي قصة واحدة تتداخل فيها طفولتهما، وشبابهما، واللحظة الراهنة المشبعة بالنسيان والضياع.
فرات، اسم الكاتب والراوي، والنهر الذي عاش الأبُ في خضم مياهه مواجهته الاولى مع الموت تحت جسر الفلوجة الأخضر.
تتوقف ذاكرة الأب "رامي أحمد" يوم رحل عن العراق قبل أكثر من خمسة وأربعين عاما، وتحتدُّ ذكريات الطفولة عن الأم "مهجة" والأب شبه الصامت، الأمكنة، والروائح، والطعام من السمك المسقوف، والشاي بالهيل، التشريب، ومَن السماء، قشطة القيمر، والكليجة، والبطيخ المبرد في أعماق الفرات.
هي رحلة في ماضي العراق عبر مغامرات الأب السياسية، من انقلاب تموز ١٩٥٨م الذي قاده عبد الكريم قاسم على الملك مرورا بالصراعات السياسية الدموية بين الشيوعيين بتنويعاتهم والقوميين، والتأرجح بين القومية العربية والصراع الأممي، حتى بداية سبعينيات القرن الماضي بعد انفراد البعث بالسلطة، وبزوغ نجم صدام حسين.
تتطرق الرواية أيضا إلى التفاعلات الاجتماعية بين الريف والمدينة، البدو والحضر، العاصمة والأطراف، وتشير بوضوح إلى مشكلة فئة البدون التي وجدت نفسها مهمشة في بلد يتلمس هويته.
تعرجُ الرواية على حوامل الشخصيات، صداقاتها، خصومها، أحزانها وكبواتها، آمالها العريضة، وانكساراتها المدوية، صبرها ومقاومتها، حنينها إلى الوطن، ومحاولة صمودها في الغربة.
تأخذ الأمكنةُ أهميتها في الرواية، بدءا من عنوانها حتى الموقف الأول الكاشف للشخصية الرئيسية، رامي أحمد، على جسر الفلوجة الأخضر، نهر الفرات، قهوة مهداوي، حيي الرشيد والكرادة في بغداد، إلى ساحة النوتردام ومواقف قطار الأنفاق في باريس، وضواحيها المعتمة ومحطاتها وقطارات النقل فيها.
تتصدرُ الهويةُ بمعنييها الحرفي والمجازي، الأفكارَ والمواقف، والخطر الذي تهدد الأب تمثَّل في فقدان الذاكرة بمعنى الهوية، ولكن النسيان داهم كل حياته بعد مغادرته العراق إلى فرنسا، وكأنه لم يكن، وعاد ليذكر عقارب الفلوجة السوداء و زنابيرها!
الهوية المستعارة، كانت سرَّ الرواية، فمن يكون الأب، هل هو رامي أحمد أم أمير ملا؟
ضاقَ الوطن الكبير حتى صار حقيبة، وهوية مستعارة، وطموحات الثائرين الكبرى بوطن شامخ، تناهبتها الأحلام والكوابيس، انتصرَ الغيابُ على عبور الجسر المؤدي إلى انتصار الثورة وتغيير الواقع، وما بدأ في الصحراء الرحبة، قبع في قصر النهاية، وانتهى بالغرفة البيضاء، غرفة المرض الأخير والموت، احتداد الذاكرة الطفلية هدَّتْهُ غرفة النسيان.
يقول فرات وهو يصف وداع والده الأخير للعراق: "أخذ يبحث في وجوه المودِّعين عن وجه أمه مهجة، لم يجد من يودعه، لكنه وجد في دموع الأمهات اللواتي يودعن أبنائهن عزاء له".
أتذكرُ الفلوجة، هي رواية للخيبة بالصديق الذي قد يكون سندا في لحظة، وخائنا أو عدوا في أخرى، ولكنها أيضا للأمل غير المفقود حين ينقذُ البطل من الموت أخٌ ولدته زوجة الأب رغم ما بينهما من صدام.
الرواية برمتها هي شهادة للتاريخ وتذكر لوالد ضحى وحاول أن ينجح، وكان السؤال المؤرق له هو: هل نجحتُ فعلا في حياتي؟
هي وفية لسيرة ذاتية لم يخفها الكاتب، بل ربما أرادها كذلك، وهذا يحسب له، إنها شهادة تقدير ودلالة على الهوية والذاكرة أكثر من كونها عملا سرديا خياليا كلاسيكيا، فهي حسب قول الراوي نفسه: "لقد فهمتُ أنه بدلا من ترك الوقت يتسربُ نحو الفناء، يجب الاحتفاظ به وتسجيله في الذاكرة، كتابته والحديث عنه"، وفي مكان آخر" الأفضل هو الحياة الأبدية عبر ذلك الذي يتذكر".
لم تخلُ الرواية من إشارات جميلة عن غنى العراق بتاريخه وحاضره، أنواع تموره الخمسمائة وتمره الأزرق النادر الذي لا يثمر إلا كل عشر سنوات، لكن المقارنة الميكانيكية مع أجبان فرنسا لم تخدم تلقائية الفكرة.
لم يخلُ النص من بعض الأخطاء التاريخية، وعدم الوضوح عند الحديث عن مرحلة ما قبل انقلاب البعث عام ١٩٦٣م، وكذلك بما يخص رحلة فرات الأولى للعراق عام ١٩٨٩م.
من جهة أخرى، يَطرحُ السؤال نفسه عن أهمية تركيز الكاتب على العيون الزرق لمهجة والدة رامي، هل كان وصفا بريئا مستمدا من واقع الشخصية أم رغبة بإظهار الشبه بالأوربيين مقابل ملامح زوجة الأب سامية التي كانت أقل جمالا بعينين سوداوين ووشم على الذقن، ومرتدية السواد؟!
في مكان آخر يذكر الراوي أنَّ مطار بغداد بناه الفرنسيون، وأن الفلوجة بنظر فرات الطفل تشبه النورماندي الفرنسية، وبغداد تشبه أرديش، رغم أن المقارنة من الناحيتين الجغرافية والبشرية غير واقعية لاختلاف البيئتين الكبير، فهل كان ذلك فعلا من ذاكرة الطفل أم مقحما على أحداث الرواية المكتوبة بالفرنسية و الموجهة أصلا إلى قارئ فرنسي؟
هناك شيءٌ من الإبهام في بعض الأفكار منها قول الأب لابنه في بداية الرواية: "عشتُ مع سرٍّ سأحمله معي إلى القبر؟" ، برأيي أنَّ كشف السر لم يكن على قدر المنتظر في النهاية، وكذلك الأمر بما يخصُّ تلك اللازمة التي كان الأبُّ يكررها عن الجسر: "سوف نعبرُ الجسر، وسنذهب لنكمن لهم، وسنطردهم من البلد معك أو بدونك".
فسِرُّ الصديق حاتم لم يكشفه الأبُ، ولكن أشار إليه الابن الذي رآه لدقائق قليلة فحسب.
يتحدث الراوي عن الكذب، بل أنَّ الرواية ذاتها قد تكون: "كذبة تقول الحقيقة دوما" كما استهلها بجملة مقتبسة عن جون كوكتو.
أرى الحديث عن الكذب خارجا عن سياق الرواية وسير أحداثها كما نراه حتى النهاية.
العنوان الأصلي للكتاب
Je me souviens de Falloujah
المؤلف:
Feurat ALANI
اللغة: الفرنسية.
تاريخ النشر: آذار- مارس- 2023
دار النشر: ج- س- لاتيس- فرنسا
عدد الصفحات: 288
المؤلف: فرات العاني، صحافي، ومراسل فرنسي من أصل عراقي، عمل لصالح وسائل إعلامية مقروءة، ومرئية هامة، أجرى عددا من التحقيقات الصحفية عن العراق، الولايات المتحدة، الجزائر ومصر، أسس بعد ذلك شركة إنتاج إعلامية خاصة، لاقى كتابه الأول" عطر العراق" نجاحا كبيرا، وحصل عام ٢٠١٩م على جائزة ألبير لوندر التي تمنح "للمراسلين الكبار" الناطقين بالفرنسية، أتذكرُ الفلوجة هي روايته الأولى.
فراس ميهوب