1ــــ توطئة قبل ملامسة المحتوى
أديب متعدد الشخصيات جمع بين ما هو فني وأدبي بشعب مختلفة، فملأ جعبته بالكثير والمختلف، وشخصية من هذا النوع، لا يمكن أن تُوَفّق بين هذه المجالات المتعددة كلها، إلا إذا كانت مسلحة بعتاد فني وأدبي، لملمته من الموروث الثقافي، أو من معانقتها للواقع، أومن تجارب الآخرين؛ أو شخصية تمتاز بالصلابة والتحدي، بإمكانها أن تخترق الصخر، لتخلق ممرا يفضي إلى المرفأ المضيء.. وعلى الرغم من امتدادات شاعرنا نور الدين حنيف أبو شامة الثقافية اللامحدودة، فهو يتملص من لقب شاعر بصيغة التواضع، والاشتغال تحت الظل، مشيحا وجهه عن البهرجة والظهور، مع رفض تام تسليط الأضواء عليه..
أُهرّب الكلام إلى فنّ الخاطرة
حتى لا أُوصَمَ بالشِّعر
فشاعرنا يمحو منجزه من لائحة الشعر، ليقحمه في خانة الخاطرة، ليس ضعفا منه، ولا عدم ثقته في قدراته الشعرية، ولا لأنه لا يتوفر على عناصر شعرية، وإنما صبغة تواضعية كبيرة منه تحلى بها بفخر عظيم، ومن جهة أخرى فشاعرنا لم يرض بما قدمه، بل يسعى بكل ما في وسعه إلى الوصول للقصيدة المكتملة، التي تحتسب شعرا ؛ تَعلّق صارخ بمشجب الطموح ليصل إلى الأوج، إلى الذي يحقق مطمح القراء، ويلبي ميولهم وإن كانت الأذواق تختلف.. وأنا أمام الإشهاد، أقسم له أن ما بين أيدينا شعرا، وشعرا مرموقا، وشاعرنا متمكن باحترافية كبرى من توظيف عناصر شعرية، وبصياغة مدهشة لا ينازعها فيها أحد، وسوف نتوغل معا بين مطاويه لنرى حقيقة ذلك ...
2ـــ العتبة النصية للولوج إلى المحتوى
أطل علينا شاعرنا نورالدين حنيف أبوشامة، بمخطوط شعري، شاء له كعنوان ( سرْ وقمر لك ).. يضم أكثر من 20 قصيدة، تستوطن 104 صفحة، وكل قصيدة خصص لها قمرا، في سلسلة عددية حسب عدد القصائد، بدءا من واحد وعشرين إلى خمسة وعشرين...
ـــ العنوان/ عتبة قرائية تساعد على تلقي النصوص
دعونا نلقي نظرة خاطفة على العنوان : يتكون العنوان من خمس كلمات وحروف، ليشكل جملة تامة قائمة بذاتها، يتم إعرابها كالتالي :
سرْ : فعل أمر والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت
وقمر : الواو واو الحال /قمر مبتدأ
لك :جار ومجرور ( وشبه الجملة خبر المبتدأ ( قمر )
والجملة الاسمية المكونة من ( قمر لك ) في محل نصب حال..
هذا من حيث الإعراب، أما من حيث المعنى، فشاعرنا يأمر المخاطَب (الأنت) بالسير قدما، وألا يتوقف أو يعود القهقرة، وكأنه بذلك يزرع الأمل في مأموره، بمتابعة السير دون توقف، لأن الآتي أفضل، وأنه سيصل إلى مبتغاه لو تابع سيره.. وقد يكون السير في طريق الجد أو العمل، أو منحى إلى الصواب، أو للوصول إلى هدف معين.. نحن نعرف أن القمر مصدرَ الضوء، الذي يبدد الحلكة بشعاعه الوديع، وإنْ يستمدّ نوره من الشمس، فهو يحل محلها في الليل، بنور خفيف أخاذ يعشقه الجميع؛ لذا قيل فيه الكثير ووُصِف بأوصاف شتى، تنغّمَ بعظمة خالقه الفقهاء، وتماهى معه العشاق، وتجمعت تحت نوره فلول القوافل، وعَشقَه الشعراء:
يقول عنه الشاعر العربي قيسٍ بن الملوح مجنون ليلى واصفا حبيبته بالقمر:
بَيْضَاءُ باكَرَهَا النَّعِيمُ كَأنَّهَا قَمَرٌ تَوَسَّطَ جُنْحُ لَيْلٍ أسْوَدِ
مَوسومةٌ بالحٌسنِ ذات حواسد إنَّ الحِسانَ مظنة للحَسدِ
والمقصود من هذا كله أن الأيام المضيئة مقبلة، وأنه لابد من الوصول إلى الآفاق الزاهية المحلوم بها، مهما تعددت العثرات، وانتصبت العقبات ...
ـــ الإهداء الموجه إلى من يستوطن غرفة دافئة في القلب
كأي فنان أو أديب، في كل عمل يضع إهداء إلى أعز الأصدقاء أو الأبناء الذين سكنوا شغاف القلب؛ وشاعرنا نور الدين حنيف أبو شامة، لم يبخل عن قرائه باختيار إهداء جميل، كصلة وصل بين العنوان والإضمامة، أو فاتحة مُبيّنة تدغدغ مهجة القارئ، قبل الإقبال على المحتوى والتوغل بين طياته؛ والإهداء عنصر هام من عناصر العتبة النصية، له وظيفة لا يستهان بها كما العنوان، نص مواز له قيمته المضافة، ويُعَد إشارة نوعية، تساعد القارئ على تحليل النص وتركيبه.. وقد أهدى شاعرنا منجزه إلى أنثى، الملقبة بالزهرة، لا ندري هل هي فلدة كبده، أم رفيقة عمره، أم القصيدة المكتملة / حلمه المنتظر، التي يبحث عنها شاعرنا، والتي ستبقى خالدة ولا تموت؛ واختياره بعناية يحمل دلالات معينة، يقصدها المبدع وحده دون سواه..
3ـــ المحتوى/ مابين طيات الغلاف
لقد اختزل شاعرنا العالم بأسره بإحساس رهيب، ومواقف صارمة في عدة مواضيع، سنحاول أن نلامس بعضها ، ولو بإطلالة محتشمة، وليعذرني القراء، إن قصرت، ولم أستوف الديوان حقه ..
ـــ العشق الملتهب والتيه في سحر الهيام
شاعرنا مرهف الحس، متوقد العاطفة، يحتضن الواقع في بعديه الطبيعي والإنساني، بسواعد شعرية تتسع للجميع.. فكما كان للإنسان والطبيعة قسط من أشعاره، فقد خصّ جزءا لنفسه، ليس بصيغة أنانية، تنحني للنرجسية حد البشاعة وبمنظور العجرفة والاستكبار؛ وإنما ليشارك تجربته بجميع جوانبها، ونواحيها المختلفة مع الجميع، إما ليتعظوا منها ويتشبعوا بوعي تام من دروسها، أو ليغْتَنوا بمعلومات جديدة عن التجربة، أو ليتقاسموا معه التجربة قصد المواساة والتخفيف؛ فيحكي لنا عن نازلته في العشق، ممزق الذات بين التقاليد والأعراف القديمة، التي تحرم الوصال بين العاشق وحبيبته، حين تقف مانعا حصينا بين عشقه المضطرم للمحبوبة، ونبضات قلبه الفائرة، التي لن يسكتها إلا هاجس اللقاء، والحنين المتعطش إلى الوصال، فتكبده هموما وأحزانا ..
وجْدِي صمتٌ شائك ،
و قلْبِي ظهِيرة
بغير ظلّ ...
إحساس رهيب بعدم الحرية في ممارسة العواطف، مما يؤجج جمرة الشوق والحنين.. وليس هذا فحسب، فشاعرنا يعشق الجمال في عبق الرياحين، في شفيف الضوء، في ضوع الياسمين، في جمال المرأة وهي تنام في حضنه، أو تتبختر في خطوها الرشيق ..
أيّها الْمخْمورُ
بِزهرِ الْياسمين
في شَفيفِ الضّوءِ
و ضَوْعِ الرّياحِين
أغْمِضْ عيْنَكَ
حتّى يمرَّ الْعِطْرُ
في خَطْوِها الْحاكِي
التفاتة طيبة إلى المرأة النصف الثاني لبناء المجتمع، وتطويره ، ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا... منافحا عنها لتكون هي كما شاءت، وتعيش رغباتها المشتهاة وفق طقوسها الخاصة التي تختارها .. ولا يفوت الشاعر وصف مفاتنها وما تتصف به من جمال بأدق التفاصيل، بلغة مرمرية براقة تخطف البصر والبصيرة، واصفا حاجبيها بالهلاليين وبياض ساعدها بالرخامي، وكيف أن آدم بحبه القوي لها، لم يرفض أكل الثمرة من الشجرة المحرمة، التي تسببت له في النزول إلى الأرض…
ثمّ اسْتقالَ مرّتيْن ...
مرّةً حينَ أيْنَعَ التّفّاحُ
و مرّةً حينَ سَقَطَ الْكلامُ
يمضَغُ الثّمَر الْمُحرّمَ
و يُخْفِي في صَدْرِهِ
ترميز عميق عبر التحليق بخيال مجنح، رابطا ما بين حواء الأمس التي تسببت في نزول آدم إلى الأرض، وحواء اليوم، الأنثى التي تتصيد بشباكها اشتهاء الرجل..
أرَى الْمرايَا حاسِدة
و أرى انْسِكابَ الْورْدِ
فِي وَجْنَتَيْهَا دماً
يُغازِلُ دمِي ...
ـــ الشعر الذاتي والتعريف بشخصية الشاعر
فالشاعر يعطينا نبذة عن سيرة النشأة، أنه ليس مثاليا يؤمن بغير المنطقي، وبالميتافيزيقا والخرافات التي تساهم في تهجين العقول وتحَجُّر الأذهان، وانسداد الآفاق الفكرية والتطلعات؛ ولا هو واقعي حد التنصل من الجذور، بمعنى لا يمكن التشبث كليا بمسيرة التطور دون البناء على أسس سالفة، بل هو بين هذا وذاك، نشأ في محراب الأجداد يحمل من الموروث والعادات والأعراف نصيبا، حتى لا يصبح غريبا، وفي نفس الوقت يومن بالواقع وتطوره والإشادة بكل جديد وحداثي، حتى لا يقال عنه رجعي، مخمور بغباء الموروثات البالية التي داسها الدهر..
لسْتُ تَجْرِيدِيّاً
إلى الْحدّ الّذِي
أرَى فِيهِ أنثايَ
وَرْدةً منْ سَراب .
و لسْتُ واقِعِيّاً وَقِحاً
فِي مَرايَا الرّمادِ
فشاعرنا يجمع بين السالف الموروث، والحاضر الموعود في جعبة واحدة، باعتبار الأول أساس الثاني وبدايته، والثاني تكملة له، فالقديم والجديد يكملان بعضيهما، فعلى الأنقاض القديم نصنع الجديد، وعلى أنقاض الجديد، نبحث عن الأفضل الذي يساهم في البناء..
أغلب قصائد الديوان ترتكز على الأنا ( المتكلم)، ويخاطب الشاعر فيها القراء با لأنا / المتكلم، ما يدخل في باب الشعر الذاتي؛ لأن شاعرنا محمل بعبء إنساني، تتقد ناره في القلب، ويريد أن يوصل صرخته للقراء، معلنا على أن لا العدم يثنيه عن لهفته في الوصول إلى مبتغاه، ولا الندم يكسر شوكة سيره، ولا الخوف يرجعه إلى الخلف، فهو مدجج بالأمل وبالطرق الناجعة لتحقيقه، فهو تارة ينتظر أنثى الغيم لتسكب في روحه رحيق الخزامى، وأخرى بالتماهي مع الطبيعة بتعليق آماله على الصفصاف، ليصل آفاقه، ويتنصل من الأسئلة المحيرة، صراع قوي في خضمه يعيش الشاعر بين ما يتوق إليه، وعدم تحقيقه في ظل غياب الآليات، وانعدام حرية التعبير، وبين أشياء مرفوضة مفروضة عليه، ولا يستطيع الجهر بها، فتبقى الأمور طي الكتمان..
لغةٌ مُحمّلةٌ بالطعنات
تعانقُ حُطامها الأزرق
تُبدّد في مراثِي أرمِدتها
بعضَ أجْنِحتي الْممكِنة
في شوارِع الْكتمان .
فصدر شاعرنا ممتلئ، ويريد أن يفرغ جعبته، ليشاركه الآخر مشاعره، ولكن الأنكال المقيدة لحرية التعبير، وسياط السطو المتسلطة بجبروتها تقف مانعا قويا، لذا تماهى مع ورق الصفصاف، ليزيح ما يثقل عمقه، ويكبده هموما وجراحا عميقة .. فتناول اللغة ليخلق منها مناديل خزامى تمسح دمعة البؤساء:
منادِيلُ من خُزامى
لِدمْعاتٍ على وجْنات
تعْشَقُ الْبُكاءَ على كَتِفِي
ويبعثها طيورا شادية تبدد ضيم المكلومين، ويرسلها كفوفا طرية تربت على الأنفس المقصية، فشاعرنا تقلد النفخ في صور البعد الإنساني باللغة، ويريد قول مالم يُقَلْ باللغة، ومحاربة كل الأشكال التي تتعب الإنسان وتلحق به الضرر باللغة، لذا يتمثل المدمي والمحزن من الواقع، متقاسما مشاعره مع الغير في القصيد، ليؤسس في خلوة مطبقة، عوالم خاصة مغلقة بمزاليج فخمة لا يقتحمها أحد ..
ـــ العين مرآة مجهرية ساطعة على الواقع
فالعين هي المرآة المجهرية الساطعة على الواقع، وعليها ينعكس ما تجري من أمور وتتحرك من أشياء، وهي اللاقط لِأدق دقائق الأشياء، تتجول في مباطن الكون، بروح تأملية، نابعة من إحساس الشاعر وحدسه..
في خبايا عينيك أسرار، تخفيان
عيْناكِ الْجمِيلَتان
شِعْرٌ أجْمل
يَقولُ خيالاً
يقُولُ سَراباً
لقد ذكرني بقول الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في مطلع قصيدته :
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر.
واصفا جمال عيون حبيبته، كما تتضح صورتهما مشبها إياهما بالنخيل، أو شرفتين ابتعد عنهما القمر.. غير أن شاعرنا نور الدين حنيفة أبو شامة، لا يقصد بالعين العضو البصري، الذي يلتقط الوقائع بعناصرها كما المصورة، وإنما يريد بها التأمل الثاقب، الرؤيا الشاملة للأشياء : الطبيعي منها والإنساني، عبر امتصاصهما في تمثل عجيب، يدغدغ مهجة التعبير لَذا الشاعر، فتصبح العين شعرا لمّا تعانق هموم الإنسان، وتحاول قدر الإمكان الإجابة عن أسئلتهم المحيرة، وفك لغز الإبهام المهيمن على أبصارهم وبصائرهم ، والنفوذ إلى عمق مشاعرهم كرسالة نبوية، تؤدي دورها المرموق، في كشف الغطاء عن مختلف المشاهد والوقائع المتناسلة، وقراءتها بأحاسيس ومشاعر، معبرة بصدق عما لاحظته ورأته، وما يجري تحت السطح من أشياء راكضة ...وأية نظرة بالعين بعمق الاستفسار من أجل الفهم، تأتيك بأشياء غريبة عميقة تخالف تماما، ما هو واقعي ملموس، أو العادي المتداول... يقول عنها الشاعر المصري ظافر الحداد :
حكم العيون على القلوب يجوز ** ودواؤها من دائهن عزيز
كم نظرة نالت بطرف ذابــــــل ** ما لا ينال الذابـــل المهزوز
فحذار من تلك اللواحظ غــرة ** فالسحر بين جفونها مركوز
العيون مرآة على صفيحتها تعكس ما في القلوب، من مشاعر الحزن او الفرح أو السعادة او اليأس، ألم يقولوا (للعيون لغة لا يفهمها إلا الحكماء والفلاسفة؟؟) من خلال النظرات نتعرف على الأشقياء /التعساء، من يتجرعون ويلات الفقر والخيبات المتلاحقة، مَن يعانون من متاعب الحياة وصراعها من أجل البقاء؛ أو السعداء/ الفرحين من يعيشون في رغد النعيم، والحياة المترفة في برجهم العاجي، لا يخشون زمهريرا ولا إعصارا يعصف بملكوتهم الزاهي ..لقد تلبست شاعرنا غيرة على الواقع الجريح، المليء بالخسارات، لكنه مغمور ببطش السفهاء التافه، وهيمنة الرياء، ويحاول تجسيد تأمله الواسع وإحساسه الدفين بين الضلوع في قصائد شعرية، ليشاركه الآخر، ويتقاسم معه نفس الإحساس، ونفس الحرقة ، بَيْد كأنه يضع يده في لجة ماء بارد، أو يدفن قوله في مقابر من الرمال ، فلا أذن تحسن الإصغاء، ولا صدر يتسع للارتواء، لتحقيق المبتغى والعيش بما ترضيه النفس وتعشق.. كلام من ذهب لكن تذروه الريح في صحارى القفار.. بمعنى لم يعد للكلام معنى ولا فائدة اليوم، أي لو كان أولُو الأمر يتبعون الكلام الصالح، الذي يساهم في بناء الوطن والتنمية البشرية، لكان الإنسان يعيش في رغد ورفاهية متمتعا بحقوقه وكرامته...
لا يَتْرُكُ فِيكَ الْاِشْتِعالُ
إلّا دماً ،
يُشْبِهُ امْتِدادَ الرّمْلِ
في شَواطِئِ الْعطَش ...
ــــ احتماء الشاعر بسقيفة الشعر / الملاذ الفاتن
فالشاعر يرى في محراب الشعر السقيفة الزجاجية التي تحميه من هزات الكون، وزوبعة الظروف المتعاقبة، ونوائب الدهر الممتدة بعوالم الخسارات، ففي الشعر يبني عوالم من شموس، وفي ميدان الشعر تركض خيول شاعرنا الجامحة بالكلام، فتتأجج المشاعر، وتثب الأحاسيس، وتسيل الأحبار حول ما يثقل الكاهل، ويتحرك اليراع ، فتنطفئ نار القريحة في لجة القصيدة حين يصل شاعرنا إلى الحقيقة ..للغة الصمت سحر وهّاج، تهدم الأكوان، لتُصلح الأعطاب، وتعيد نشأتها في حلة مبهرة ..
تَبَقَّى فِي مَشْهَدِ الْكَلَامِ ،
عَجِيبُ الرَّصْفِ .
يَمْدَحُ التَّمَاثِيلَ ،
بِلُغَةِ الْاِنْحِنَاءِ
صَخَباً جَدِيداً ،
يَرْسُمُ لِلْجَسَدِ انْتِصَابَهُ الْأَهْوَجَ .
بِحُرُوفٍ وَاطِئَةٍ
فبالشعر نفتق الأسرار الخفية، ونردم الشروخ المتناسلة، وبه نحقق المفقود من الأحلام، ونتطلع إلى برج الآمال المشعة من أبعد الأقطار، ويرمم ما خلفته الأزمان من جروح غائرة، وبه أولا وأخيرا نبني عوالم مكللة بالضياء، لسبر غور المعتم ، وإنارة السراديب الدامسة ...
حَبَّرْتُ وَ أنَا الْمنْسِيُّ ،
صَمْتَ الرّغْبَةِ
بِلَوْنِ الاِخْتِفَاءِ
فشاعرنا يلثم البياض، ويحبّر الأوراق في صمت ، في زمن السلو والنسيان، زمن الرداءة الذي يصفق للتافه، ويلهي العقول، ويُهجّنها، وينبت العشب في أرداف الهادف، الذي ينور الأدهان، ويساهم في توعيتها؛ ألا نرى اليوم حربا ضارية ضد أصحاب الكلمة النبيهة، والقول الصارم الذي ينفذ بين الجلد والعظام، ليقدم عبرة او موعظة، أو درسا، أو إضاءة للأوهام المزروعة فينا، زمن تحلى بالغش والمكر والجشع، يصادر الأر واح، ويغتال الإنسانية ذابحا على حد السيف القيم النبيلة .. وكم من إجحاف مورس على الألسنة الصارخة بالحق، وكم من بطش سلّ الأرواح من أشخاص لا يريدون بالأمة إلا خيرا، وبالإنسان إلا عيشا كريما، ونذكر منهم ابن الرومي/ وطرفة بن العبد/ والمتنبي، وغيرهم كثير الذين قتلهم أشعارهم، وحدة ألسنتهم، مع الأسف لن تسمح لي الصفحة بذكر النماذج التي تسببت في قتلهم.. لذا يفضل شاعرنا الاشتغال في الظل، مدركا أن الكلمة الصادقة ستخترق الحواجز الإسمنتية لتصل إلى القلب، مهما كان عليها من حجاب ..
بِعِشْقٍ جُنُونِيٍّ .
تَفْتَضُّ بَكَارَاتِ
اللَّياَلِي الرَّدِيمَةِ
ـــ رفض الشاعر لغة المساحيق بحثا عن المعنى
قَدرُ الشاعر أن يضحي دون مقابل، يتعب ولا يبالي، يصارع الشك من أجل القبض على اليقين، يتحدى الظروف المعطوبة، التي تحاول كسر محاولاته، يرفض لغة الخشب الموشومة بالفراغات، قافزا على الخرافات التي تحشو العقول بشلل الفكر، مواصلا سيره رغم النواتئ، لا يكترث للضربات المباغتة/ المتعاقبة، متجاوزا حقول الفراغ، رافضا المسكوك والجاهز من الهندسات، داهسا الأساليب البراقة بالمساحيق، المحتضنة للوعود الكاذبة والرياء؛ كائن مشروخ، مصاب بحمى البحث عن الحقيقة، والقبض على المعنى ..
أشْتَهِي امْتِطاءَ المعنى ،
حِينَ الْمعْنى يَكونُ .
و حِينَ الْكونُ يُرَتِّبُنِي
صَغِيراً فِي نباتاتِ الدّم .
كَبِيراً ...
فحين يصبح المرء مجرد رقم في الحياة ، معناه تجرد من إنسانيته ومن قيمته، وأصبح مجرد شيء كسائر الأشياء في هذا الكون، فارغ المحتوى، وبالعمل الذي يمنحه الاستمرار ككائن، سواء عملا أدبيا كان أو فنا أو حرفة، بموجبه يجد نفسه في التقاء مباشر مع الواقع، يدخل غمار التجارب الواحدة وراء الأخرى، قاسية كانت أم رحيمة، يكتسب منها خبرة، أو يحقق بها هدفا مأمولا، فتصبح لحياته معنى؛ وهذا ما يبحث عنه شاعرنا نور الدين حنيفة أبو شامة من خلال تجربته الشعرية، فهو لا يريد أن يكون كائنا سلبيا لا دور له في هذه الحياة، مادام الإنسان يجد المعنى في حياته إذا حقق الأهداف المنشودة، وأصبح له استقرار، ولم يصادف قوى ضاغطة تفرض عليه أشياء غير مرغوب فيها، أو تسحب منه حريته... وليكونَ لشاعرنا معنى في هذه الحياة، تسلح بسيف العمل والتحدي للاضطلاع بمسؤوليته في دور الشعر، وتحقيق المهام التي تفرضها عليه الحياة، حُكمُه في ذلك أنه ممتلئ بثقة عالية في النفس، وتحد كبير، ومجازفة متواصلة، لا يهاب في قول الحق لومة لائم، ولا في ملامسة جوهر الأشياء الاحتراق، فهو يرغب في أن يولد من جديد في حضن عزلته، بين أذرع القصيدة طائرا محلقا على أجنحة الخيال، باحثا عن فجر مليح لتحقيق المعنى المكتمل..
ـــ سطوع الأمل رغم مواطن الخسارات
نكاية في الجمود المطنب، وفي الخرس السائد، وفي القيم النبيلة التي وأدتها سياسات فاشلة، وفي الأحلام التي بددها كف آثم ، يواصل شاعرنا نور الدين حنيف أبو شامة، الكتابة ، ويوجه خطابه إلى القصيدة، أن تعزف لحن الماء، فحين يكتمل نصابها، تكون الرؤيا قد حققت المبتغى، ويكون الشاعر قد كتب وعبّر، وحقق في جولة الكتابة أمله المفقود، وحلمه الموعود..
وَأدْنا قصَصَ السّوادِ ،
و أنْبَتْنا في مَقْعَدِنا الْمُزْهِرِ
وَرْداتِ الْيَناع .
فخرج من انكساره
يزداد هوسه بالشعر، فيرى فيه طوق النجاة، يغرق في يمّه، يسكر بخمرته، يتمتع بترانيم نايه، يصغي لنقرات حرفه، يراه تقوى القلوب الطاهرة، تيها في جنونه الجميل، سباحة في لجته العذبة، نغمة تعزفها الريح على العشب الظامئ، عشقا مطلقا لسحر الكلمة وبهجة الحرف، رؤيا حدسية للكون وعناصره، أملا منشودا سيأتي بالغد مبتسما.. فشاعرنا ينشد التغيير، تحويل الحقول العطشى غدرانا معشوشبة، والدمعة ابتسامة والحزن فرحا والشقاء سعادة، والفقر رفاهية، والذل مجدا وسؤددا؛ ولكن من أين، وكيف؟؟ وهو يفتقد الإمكانيات ، وليس بيده قرار، ولا يملك منصبا أو كرسيا بين الحاشيات الفوقية.. يبقى الأمل إذاً في الكلمة الحرة ونبوغ الحرف، فبِهما يشيد قصورا مزينة بالفسيفساء، وعبرهما يمتلك رحاب الكون كله، فيحلق أنى شاء طائرا حرا بحرية مطلقة، دون قيود أو شروط.. لذا لم يفقد شاعرنا الأمل، وانطلق يحقق المنشود من الأحلام في عوالم الشعر، وجوهر القصيدة ..
4ـــ الجانب الفني وترصيع القصائد بالبهي
لقد دقق شاعرنا في الصياغة الشعرية بروعة التعبير، والحنكة في إلباس اللغة بما يجسد الفكرة، ويوضح المقصد، ويرسخ الصورة، فأتت اللغة طيعة مطرزة بألوان قوس قزح، ما يبين أن شاعرنا نور الدين حنيف أبو شامة، قد ضرب عمق البلاغة باحترافية كبرى، فطرز منجزه بالمدهش ببعض الفنون الشعرية، والمحسنات البديعية، من استعارة وتشبيه ، وسجع ورمز، ومجاز وإيحاء، ليكسب الأسلوب قوة ورونقا وبهاء، يعشقه كل مَن يمُر من هنا...
فَأقْرؤُنِي طفْلاً ذَكِيّاً
يَحْدِسُ الْاِسْتِعارَةَ
قبْلَ الشّعراءِ
و يَرْفُلُ في ثَوْبِ الْمجازِ
ـــ السهل الممتنع والغموض حد الإبهام في الشعر
وبتطريز اللغة بالعناصر سالفة الذكر، يعزف شاعرنا نور الدين حنيفة أبو شامة على وترَيْن متباينين في الصياغة الشعرية، وترِ الغموض حد التعقيد، حيث القارئ يتيه في المعجم الشعري الغارق في الإبهام، يفقد معه السيطرة على السباحة في بحر اللغة المجبولة بالعمق والمتانة، والمطرزة ببلاغة لغوية تتكتل بما هو إيحائي /رمزي /مجازي في بناء الصورة، تجاوزت الواقعية والعقلانية، يصعب معها فك شفرتها في القراءة الواحدة، ومرد ذلك إلى جعبة الشاعر الممتلئة بالتنوع الثقافي، أو إلى تأمله الواسع للكون والحياة وما يتلبسهما من تعقيد وإبهام حد التيه، أو إلى انغماسه في ثورة الحداثة والتجديد إلى حد تحميل اللغة مالا طاقة به، أو إلى تشبعه الهائل بالتنوعات اللغوية من استعارة وتشبيه وترميز ومجاز.. ولنتأمل بعض الشذرات من قصيدة ((كف الصفصافة))
تذْهَبُ في أمومَةِ الشّجَرِ
مثْلَ صفْصافَةٍ عارِية ...
نَشِيجَ مِياهٍ يَتِيمَة
و صَرْخَةَ ريح ...
هِيَ منْ أهْلِ الْورَيْقات
و الْأفْنانِ الْمالِحَة .
تُرَتِّبُ عُنْفَ الظّلالِ
و فَراغَ السّلالِ
فِي أرَاجِيحِ الماء
تُرْسِلُ الثّمراتِ
فِي حجْرِ الْأمّهاتِ
و تدعُو لهنّ
بلَوْنِ التّفاح
...............
إلى متم القصيدة....
مَن تكون هذه الأنثى التي يخاطبها الشاعر؟ هل المرأة فعلا، أم البلد، أم القصيدة أم شجرة الصفصافة.. من هي التي تذهب في أمومة الشجر؟؟ ومن هي التي من أهل الوريقات، والأفنان المالحة؟؟ وترتب عنف الظلال، وفراغ السلال؟؟؟هل يقصد الأنثى المنتجة التي تخلق من العدم أشياء؟؟ .. حاولت قراءة القصيدة أكثر من 10 مرات، قرأتها في شموليتها، وقرأتها جزءا جزءا، ولم أستطع فك شفرتها، ولم أهتد إلى معناها، ولا كان بمقدوري القبض على دلالتها، فكانت قراءتي لها من منظوري الشخصي كالتالي: أن المرأة في أمومتها مثل الشجرة المثمرة، التي تنحتُ من الصخر، لتملأ الفراغ بحضورها وإنتاجها، وتُعَد المثل الأعلى لكل النساء في صبرها وتحمل مشاقها، تغادر المرأة ثم تعود محملة بالآمال المشرقة.. وقد أوحيْتُ بها كذلك إلى القصيدة التي تومض وتبرق، تتفنن وتبرعم ثم تزهر، لتصبح شجرة مكتملة النمو في حقل الشعر؛ وغيري قد يرى القصيدة شيئا آخر.. فالغموض المعقد من هذا النوع، ولو أنه سمة من سمات الشعر الحداثي، ولو أنه من أساليب البلاغة اللغوية، ولو أنه محمل بالإيحاءات والصور المدهشة، ولو أنه يجعل النص يرفل في حلة من البديع والجمال والمتن اللغوي، ولو أنه يفسح المجال للتعدد القرائي؛ فقد يخيب توقع المتلقي العادي، ويجد صعوبة في إعادة تحليل وتفكيك النص، اللهم إن كان يملك ثروة لغوية بمشارب ثقافية متنوعة، وله دربة وحنكة ومراس في قراءة النصوص المستعصية..
ووترٌ يضرب به شاعرنا السهل الممتنع في بعض القصائد، فيصبح في مقدوره العزف على قيثارته، بلون يغازل مهجة القارئ بسحر لا يقاوم، فعلى الرغم من تكثيف الرموز، وتلوين القصائد بالرمزي والإيحائي، فقد يصل القارئ إلى القبض على المعنى من منظوره الشخصي..
لنلاحظ القصيدة الجميلة (( تقرأ قصائدي فراشة))
تقْرَأُ قَصَائِدِي فَراشَة
طَوِيلٌ صَبْرُها
مِثْلَ جَدلٍ فَلْسَفِيّ .
تحْكِينِي امْتِداداً شَقِيّاً
لِطُفولَةٍ عبْقَرِيّة
.......................
.........................
وأرجو ألا يتنافى معي صاحبها إن حللتها وأعدت تركيبها من زاويتي الخاصة، فشاعرنا يرى في التأملات الواسعة لقصائده، حكاية امتداده الشقي، لطفولة عبقرية تحب الحركة، وترفض السكون والجمود، تتطلع إلى عنان السماء، وامتداد الآفاق، بيدها القرار إن واصلت السير بحزم، أي المقصود أن مِن نطفة تولد القصيدة صغيرة، وبالاطلاع على أمهات الكتب، تكبر وتتضخم وتصبح مكتملة، تغلق أبواب الجهل وتُحوّل الظلام نورا، وتصل إلى الحقيقة حين تفتق أسرار الكون.. فالقصيدة محملة بما هو رمزي /إيحائي /مجازي في صور شعرية مكثفة، تختزل عمق المعنى في قلة المبنى .. لا يختارها الشاعر عن طيب هواه، وإنما بتأمله الثاقب وفكره النير للوجود، تتفتق القريحة بأفكار متلاحقة، ليتمثل ما تَأمله أو أَحسه وفق مشاعره وحدسه..
أمْسِكُ بالْفِكْرَة ...
و أرَتِّبُ أجْنِحَتَكِ
ترْتِيباً حرِيرِيّا مُقَدّسا
يُوحِّدُنِي و الْقَمَر .
محلقا في مفازات الكون ، موغلا في مطاويه، عابرا سماواته، متجاوزا أغواره وكهوفه، في رؤيا عميقة لأشيائه، قاطعا المسافة بينه وبينها في اتحاد صوفي ليصل الجوهر، وما الجوهر إلا تلك القصيدة المكتملة، وغير مكررة، تؤثث للممكن على أنقاض الكائن، بالإجابة عن السؤال، وملء البياض، ولن يكون ذلك إلا بسيف اللغة، التي تحرك في وجدان الشاعر ما هو آسن، ليُعبِّر عما يتحرك في دواخله، واللغة لن تتحرك أطرافُها لخدمة الواقع، إلا بتأمل واسع بالعين والحدس والإحساس ..
أشْهَرَ فِي وَجْهِي
لُغَة الشّعاع
فأحْيانِي ...
حرّكَ فِي جوْفِي الْمُثْخَن
وَجعَ الْيَراع
ـــ الجمع بين المتنافرات في علاقة من الجمال
لقد استطاع شاعرنا الجمع بين المتنافر في حلة بديعة، ويبدو هذا من معجمه المرموق في اللغة، وفنيته العالية في الصياغة، وكيفية التآخي بين التناقضات والأضداد في الشذرات الشعرية، بعلاقات ترفل في حلل من الجمال، تفسح المجال للقارئ للاستمتاع بالصياغة الرهيبة الراقية، ومن وجهة أخرى تخلق له حيرة وتوترا مربكا، وعلى حد علمي، فهذه من أهم العناصر التي تستوجب في الشعر الحداثي، وتبنيه بلاغيا وجماليا، وتخاطب في القارئ خياله وحدسه ومشاعره، فيأتيها طيعا.. لنتمعن هذه الشذرات (شهوة الموت)( باردة في عافيتي ووبائي) ( فن الاحتضار) من قصيدة (سِيرَةٌ لِهذا التّرابِ الْمَنْسِيّ) فبقراءة هذه الشذرات يطرق الجمجمة ألفُ سؤال محير، ماذا يريد بنا الشاعر من (شهوة الموت) ؟؟ فما نعلمه عن الموت أنه هول ورهبة، بل ويقال عنه مصيبة ،((وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة...صدق الله العظيم ))..والشذرة الثانية ((فن الاحتضار)) هل للاحتضار فن ؟؟ الاحتضار عذاب وحزن وألم، بينما الفن متعة وجمال.. ((باردة في عافيتي ووبائي))، إذا كانت باردة في العافية، ستكون عكس ذلك في الوباء.. شاعرنا يملك حنكة التلاعب باللغة وإنطاقها بغير العادي المتداول، بتركيب غير منتظم كما يبدو، لتشمل إيقاعات مزعجة، مقلقة للقارئ، وخلق إحساس غير مألوف بالارتباك، مما يؤجج قريحة القراءة، لتتوغل بين ثنايا القصيدة، وملامسة معانيها الغامقة؛ وهذا المراس الثاقب لدى شاعرنا، والريادة في مراوغة البنى اللغوية، هو ما جعل المتناقضات تنسجم وتتناغم، لتخلق حلة من الروعة والجمال..
ـــ بلاغة السجع في جمالية الصورة..
بمهارة عالية رصع شاعرنا نور الدين حنيف أبو شامة أسلوبه، ببلاغة لغوية شاملة، تتلون بالمحسنات البديعية من استعارة ومجاز وإيحاء، مركزا بشكل ملحوظ على السجع، في أغلب القصائد، ما جعلها ترفل في حلة من البهاء، من حيث جمالية اللفظ والترنيمة الموسيقية، والصياغة المرموقة.. وهذه بعض المقتطفات من القصائد ((السّفِينَة/ الْمَدِينَة... الْعُشْبِ/الرّعْبِ... الْجمالِ/الْجلالِ...اسْتوَيْنَا /ارْتَوَيْنا...الأغنيات / الأمنيات...البحر/ البدر...زوج /موج...التأويل / التنزيل ...الهمس / الشمس...سليم / كليم... الصَّهِيلِ/النَّخِيل)) لما يمر القارئ على الجُمَل المسجوعة، يحس بنغمة طروب تترك الأثر فيه أثناء النطق، وباهتزازات نغمية لها وقع ملحوظ، ولها استثناء خاص عن باقي الشذرات الأخرى، مما ينبغي قوله أن هذه القصائد تستحق أن تُلحّن وتُغنّى.. والبلاغة لا تأتي لأي شاعر على طبق من ذهب، إن لم يكن له زاد من الاطلاع الواسع على أشعار من هذا النوع، وموهبة في فن القول، والحنكة بزخرفته بدقة التصوير، والمهارة في فن التعبير، والتمكن من صياغة المفردات كل واحدة تلتقط الأخرى..
ــــ فن التماهي مع التراث بعبقرية مذهلة
أغلب الشعراء يغرفون من مشارب ثقافية متنوعة، تاريخية فلسفية دينية أسطورية خرافية، ليثروا قصائدهم بما هو عميق وجميل، بصياغة فنية عالية تستوجب شروط الشعر؛ وشاعرنا كما غيره اقتحم بعض القصص القرآنية، فغرف من قصة آدم وحواء..
ثمّ اسْتقالَ مرّتيْن ...
مرّةً حينَ أيْنَعَ التّفّاحُ
و مرّةً حينَ سَقَطَ الْكلامُ
يمضَغُ الثّمَر الْمُحرّمَ
وتماهى مع حدث سفينة نوح، لينسج قصيدة رائعة على نفس المنوال، رابطا الحاضر بالسالف بعلاقة مدهشة ..
في العامِ السّابِعِ بعدَ الْعَشْرِ
منْ تأْرِيخِ الطّوفان
فامتطى سفينة الشعر ليرحل إلى طوق النجاة، فوجد عينيها خارج السفينة، فِي الْيُمْنَى حَمامَةٌ وفِي الْيُسْرَى يَابِسَةٌ، والمُخاطَبَة دون شك هي القصيدة، اليمنى تحمل قلما واليسرى بياضا، تبحث عن شكل المدينة، أي شكلها النهائي.. ولما أدركا مع صولة الماء، وجد نفسه والقصيدة توأمين في اللغة، يؤسسان للطهر، يمسحان خدّ الغيمات بمناديل الجلال، وكما الدموع الحرى والجرح الغائر كانت الأرض بعيدة...
حمَلْتُكِ و حمَلْتِني
خارِجَ سِيماءِ الْقَهْرِ
لنا ماؤُنا و ثَرانَا
و سَفِينَةٌ منْ شِعْر
فالشاعر يطلعنا على رحلته الأبدية في سفينة الشعر مع القصيدة، متخذا إياها أنيسا في وحدته، رفيقا في درب الكلمة، للوصول إلى السمو في الشعر، وإلى تحليل أوضاع الواقع، وتحديد أسباب أعطابه، يُجدّف بقلمه في بحر البياض، يطارد الريح ويسابق الأوهام، ليضع إصبعه على الخلل، ولما تعب عاد إلى الذاكرة يستبيح ليل الريح المنكسر، ويُحرِج نهارها الجريح ، حتّى إذا اسْتوَيَا على الْقلْبِ ارْتَوَيا، صليا على قبلة الشمس، وملآ أنفهما عبقا من شعاعها، وشربا حتى انتشى الضوء منهما، ولما وصلا تاهت من قبضتهما سفينة الشعر، فالمقصود من هذا كله، أن الشاعر مُصْطل بصَخب الشعر، يريد أن يدخل من منافذه إلى أغوار الكون، كاشفا الغطاء عن أسراره، ليفك لغزه المحيّر، وحين تعاسره الأمور، ولا يستطع تحقيق انتظاره، يعود أدراجه إلى لغة الصمت، يصلي في محرابها مشروع إنتاج منجز جديد...
الإيقاع الداخلي والموسيقى الخارجية
ترقص بعض القصائد على إيقاع داخلي، تطرب الوجدان بلمسة مكهربة، تاركة الأثر، وموسيقى خارجية تعتمد القافية وإن كانت لا تخضع للوزن الخليلي، ويعود ذلك إلى جملة من الأشكال والنماذج الفنية، التي يرصع بها شاعرنا منجزه، تتمثل في العلاقة الصارمة بينه وبين الأشياء من المحيط، مستندة على حساسية شعرية وانفعال وتوتر، والتفاعل مع مكونات النص في صياغة، يمتزج فيها ما هو داخلي بما هو خارجي، ليخلق البنية الإيقاعية للمنجز بأكمله في بعد دلالي غائر، ومعانيَ عميقة بمتن لغوي صارخ، يضفي عليه الرقي والجمال من جهة، ومن جهة أخرى، يحرك بسحره وجدان المتلقي، ويدغدغ جانبه الرمزي التخييلي، فيحفزه إلى اقتفاء القدرات الفنية المختفية بين السطور، مستمتعا بآليات البديع، التي تجمع شتات النص في بوتقة إيقاعية متكاملة، ونلاحظ ذلك في بعض القصائد ومنها: القصيدة الجميلة(( نشيد الراح)) /القمر العشرون
قالتْ : صُبَّ لِي
منْ سُلافَةِ الْعِشْقَ قَدحا
قالَ : وجدْتُ الْإِناءَ
بِرُضابِكِ قدْ صَدَحا .
والتي تختزل هيام العاشق بحبيبته، والتي تتوسل إليه ليسقيها خمرا، فيراها هي الخمر ذاتُها، ما إن اقترب منها حتى أسكرت روحَه رائحةُ الجنة المتضوعة منها، فقام صاحيا منتعشا، متعجبا من الخمرة التي تُسكر، وهذه الخمرة التي توقظ كل الحواس في انتعاش لامثيل له ..
5ــ تذييل القراءة بخاتمة
لقد قمت بإطلالة متواضعة على محتوى الديوان، مع العلم أني لم أعطه حقه الذي يستحقه ويليق به، لأنه مازال فيه الكثير يقال، ديوان محكوم اللفظ، حري العبارة، متين اللغة، سلس الأسلوب، دقيق الصورة؛ غَرَف الشاعر من ثقافات متنوعة، ليأتيَنا بمنجز مكتمل يتنسم القارئ فيه الحركة والحياة، استقطرَه من مشاعر ساخنة وتأمل واسع، ورؤيا ثاقبة مطعمة برؤية الشاعر الى ذاته، وإلى علاقته بمحيطه محددا مواقفه من الكون بكائناته وأشيائه، متعطشا إلى تغيير الواقع، معبرا بصدق عن أمله المنشود، عرف كيف يختار معجمه بدقة، ويرتب حباته في خيط لؤلئي بمهارة عالية، مما جعله يشع ويبرق بصور ملونة كالطيف..
مالكة عسال