عبد الكريم الناعم:الشاعر المسافر مع اللغة والحالم بالوصل في ليالي الربيع المقمرة - د.امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسإن مفتاح الدخول إلى عالم عبد الكريم الناعم الشعري: يكمن في قدرته الهائلة على التحليق باللغة في آفاق رحبة، تؤثثها مفاتن الطبيعة النضرة التي تمثل الوجه المادي للأرض المشتهاة بغية التوحد بها، والتماهي مع كل مظهر من مظاهرها. وعن أهمية هذا السفر المحلق مع اللغة يقول الشاعر: "الذين لا يسافرون مع اللغة وفيها يخسرون تذوق الوصل في ليالي الربيع المقمرة المليئة بالعشب والنضارة، ويضيق بهم الأفق، بحيث يسجنون العالم والأحاسيس في قفص من الكلام العادي المكرر" -1-
فالسفر مع اللغة وبها يعادل إذن عند الشاعر تذوق الوصل، وهذا التذوق مرتبط بما تحمله أمكنة السفر من دلالات ورموز.
ومن ثم يتجلى الدور الذي تضطلع به الطبيعة في عالم عبد الكريم الناعم الشعري، إنه ابن الطبيعة البار الذي افترش العشب ليكتب على "جذوع الشجر القاسي"، ويحدث الرياح والتراب والمدى، ويحلم بجناح الريح ليحلق عاليا فوق البحار والأودية والأشجار، ويتطلع إلى صبر التراب، ورسوخ النخيل الأسمر في البلاد المفضوضة، ويستصيغ السمع لحكايات الماء الطويلة وهو المترع بالفقر والأحزان في البلد النازف، إنه المسكون بذاكرة الخليج الدائري وبالجراح التي تفترش المدن الأثيمة في زمن الحصار. إنه "النهر الفراتي" المسافر في عذابات القفار ينتظر الأفق الذي لا يأتي فتحاصره "البذاءات الضريرة".
هكذا يتورط الشاعر في قافية الحروف، وينذر عمره لبقية العشق، يركض من الألف إلى الياء ليعتنق ركوب اللغة، ويسافر معها عله يطفئ "جمر التوجع" على حال الوطن المسروق في خضم الزمن الأغبر الرديئ.
هذا هو منطلق العمل الشعري كما آمن به عبد الكريم الناعم:
"هزيما صوفيا، وفعلا ثوريا، ولحنا غجريا حزينا"، كما أنه: "جنون في وطن النخاسة". وعن منظوره للشعر هذا يقول:
"علق الجراح قصيدتي،
والشعر مبدأه الجنون". -2-
" لأنك في القفر يجيء الشعر
هزيما صوفيا،
ثوريا،
لحنا غجريا" -3-
هذه هي الوظيفة الحقيقية التي يجب أن يضطلع بها الشعر في نظر عبد الكريم الناعم، ويذهب بعيدا في توضحيها حين يقول:
"شاهدت أقذر ما يرتكبه الإقطاع؛ طفولة عزلاء مبتلاة بالحساسية المرهفة ترى كيف يكون الإذلال والاعتداء على الكرامات والأعراض. لذا مع أول نقلة، ومع تفتح أول تويج؛ كان اختيار الجهة التي سأقاتل فيها: مع الفقراء ضد مستغليهم ومع الوحدة ضد التجزئة، مع الحرية ضد القمع، مع الثورة ضد أعدائها. لن تستوقفني التفاصيل كثيرا، لأنني أخشى إن فعلنا ذلك أن يباغتنا الأعداء ونحن نتنافس أو نتشاجر، دعونا ندحر أولئك أولا، وسيختار القادمون من أصلابنا شكل القناطر، والألوان-  والأزاهير-" -4-
هكذا إذن حدد الشاعر الجهة التي سيناضل فيها، ومن ثم آلى على نفسه ألا يتفيأ ظلال الهمس حين أوقد أعداء الوطن الجمر ليحرقوا به الخضرة واليناعة المشعة في أعين الصغار والكبار.
ولذلك ترى الشاعر في كل ما كتب من شعر؛ كثير الاحتفاء بنضارة الطبيعة، مبتهلا في محراب أعراسها، يصلي لأمطارها وبحارها وجبالها وبراريها...
وتكتسي الطبيعة عند عبد الكريم الناعم مدلولات شعورية خاصة، لدرجة التماهي والتوحد الكوني بها نظرا لما تحيل عليه من رموز ودلالات يطعم بها الشاعر بوحه الشعري، يقول في تنويعات على وتر الجرح":
صارت الشطآن ثوبا للمدى في عرسه الشرقي،
فاتلق المحار.
ودخلت في زمن الضحية حين أشرق
            بي المــدار" -5-
كما يقول في قصيدة أخرى:
"أنا النهر الفراتي المسافر في عذابات القفار
الأفق نافذتي." -6-
ويقول في إحدى قصائده من نفس الديوان"
"البحر يخطفني إلى الجزر البهيجة
...
لا الطين ذاكرتي،
ولا الأقواس تحرسني." -7-
إن للشاعر قدرة هائلة على إسقاط محسوساته على العناصر الطبيعية بغية الذوبان فيها، والتوحد بها كيف لا وهو ابن الطبيعة البار، يعشقها عشقا صوفيا، ويبتهل في محراب مفاتنها وأعراسها. ومن ثم يبدو ارتباطه بها وكأنه ارتباط قدري لا يستطيع الفكاك منه.
ويهمين عالم الريف على معظم قصائد عبد الكريم الناعم بشكل لافت للنظر، حتى ليخيل لقارئ متنه الشعري أنه أصبح أسيرا لهذا العالم الذي أنشب براثينه في داخله ولا يستطيع منه فكاكا وعن هذا المعنى يقول الشاعر:
" من عالم الريف ابتدأت النقطة، شيء ما أنشب براثينه في داخلي بعذوبة جارحة ورفض أن يخرج، لذا تتوافد إلي العديد من القصائد: البراري والطيور، النهر والتل والوعر، الحجر الأزرق، والشتاء والعشب والمحار، وكل ماله علاقة بذلك العالم، تتوارد لا لأنها تصلح لتزيين الشعر، بل لأنها الدم الذي تعيش عليه تويجات النرجس البري الطالع من تشقق الجراح." -8-
والكتابة عن عالم الريف هذا ليست كتابة اعتباطية في نظر الشاعر تتوخى الاحتفاء بمفاتن الطبيعة فقط، بل هي كتابة تحيل القارئ على ما ترمز إليه كل العناصر الطبيعية؛ الصامتة منها والحية على معاني الوفاء لماضي وحاضر ومستقبل الوطن القومي المحاصر، وعن ذلك يقول الشاعر:
"لم تكن الكتابة عندي عن الوردة أو القبلة أو الثورة تخلو من نعومة عطرها العربي ذي الانتماء البائس الجليل للفقراء... ولأن العالم غير مجزإ إلى حواكير منفصلة في نفوسنا، تأتي القصيدة عالما متداخلا، الرؤى فيها تتفتح على غصن برقوق، الأزاهير تتحول إلى امرأة، والفرات يسير في شوارع دمشق بجيبين فارغتين... والعينان السوداوان تصيران واحة نخيل، الموعد يكون لقاءا سريا في "الجبل الأخضر" تحضيرا للمباغتة". -9-
هكذا تبدو القصيدة وكأن لها تاريخا، ومواعيد سرية، إنها منبثقة مما يعلق من الداخل.
ويوضح عبد الكريم الناعم خطوط الالتماس. بين ما هو ذاتي، وما هو موضوعي في معادلة تجربته الشعرية بكل وضوح وصراحة حين يقول:
"الذاتية: هي الخلية الواعية التي تعني ذاتها، وتجعل دورها في عملية الإبداع كعملية جمالية اجتماعية؛ بما هي قادرة عليه من صياغة وانبثاق، وبما تحمله من حس إنساني يضعها في مقدمة النسق الذي يتصدى لتغيير العالم بجذرية ثورية تضع في أول بديهياتها واجب مقارعة الظلم والقهر والاستغلال؛ بتحديث السمت الذي يجيء في مرحلة تباشير النضج وتسبقه مرحلة هامة في عالم الشعر والتكون؛ وهي مرحلة الطفولة واليفاع، مرحلة الاختزان الحار. تلك البقاع التي نسافر باتجاهها كلما اشتد ضغط الحياة، ونتجه إليها وكأنما نرغب في العودة إلى النقطة التي تسمح لنا بتكرار الحياة، علنا نعود مرة أخرى وقد امتلكنا التجربة والقدرة على حفر المجاري في المكان، وبالطريقة المثلى، نتجه إليها وقد ارتسمت مصفاة ومبرأة، مصوغة بما يتناسب مع عالم الحلم الذي نلقي بأنفسنا في نهره الهادئ العذب والعميق.
نستمد من العالم (الموضوعي) مادة لتشكيل عالم الحلم، والإسقاط، والبهاء الذي يمنح النفس فرصة الالتجاء إلى تلك الواحات المنتقاة من اللهف الساخن"-10-
يتضح مما سبق أن القصيدة من منظور عبد الكريم الناعم لابد أن تنبثق مما أسماه بالخلية الواعية- الذات- المنصهرة في بعدها الإنساني والاجتماعي عبر حلمها المشروع، والمشكل من العامل الموضوعي قصد التصدي لتغيير العالم بجذرية وثورية.
وعن أهمية هذا الحلم الذي يضيء سراديب الذات المتوترة في معالجتها للأشياء الموضوعية؛ يقول الشاعر:
" يا ليلة الرياح والمطر
ترفقي..
فقد أتيت من مدائن السفر
على جناح حلمي الوضاح...، حاملا أعباء العالم
خلقته في لحظة المكاشفة" -11-
ولعبد الكريم الناعم قدرة فائقة – على البوح الذاتي الجارح – تارة- والمتألم –أخرى- عبر سبر أغوار الذات العميقة، وهذا ما يسلم الشاعر إلى نوع من الشعور بالاغتراب الوجودي، حيث يخيل إليه أنه ترك منسيا في قفار العالم، يردد أصداء نداءات عبر وديان الأساطير فتبكيه السواقي:
"تركوني في قفار العالم المنسي أصداء نداءات،
تغطي بهزيع الليل،
أسقي ظمأ الرمل،
وألقي عبر وديان الأساطير فأبكي،
ثم أبكي،
ثم تبكيني السواقي، -12-
إن الذاتية شرط ضروري من شروط تطعيم البوح الشعري ورفده بشحنات وجدانية، إلا أن عبد الكريم الناعم يذهب إلى أبعد من هذا حينما يوظف عناصر الطبيعة بذكاء بالغ، عبر التوحد بمظاهرها إلى حد التماهي والحلول فيها.
إنه نوع من "الذوبان الكوني"، وهو عبارة عن تعاطف رمزي مع مظاهر الطبيعة قد يصل به إلى درجة الاتحاد الذي يفرض علاقات متبادلة، ونوعا من "مراسلات" سرية وحميمية يفضي به في آخر المطاف إلى توظيف العناصر الطبيعية كرموز غنية بالدلالات:
"طالع من دهشة "الأغوار" من ليل المنافي
حاملا طفل العواصف،
لغة الثورة
وجه البرق
نبعا فار بالأحداث، والأطفال
أعراف خيول جمحت،
               خبت
تولاها صهيل الموت في وادي الأسنة؟ 
...
عرفت،
أني ما كنت موصد،
فطلعت اليوم من موج القرارات السحيقه" -13-
إن الشاعر بتعاطفه الرمزي هذا بمظاهر الطبيعة، واختياره الواعي لبعض عناصرها الموحية بالرغبة في التغيير: (العواصف- البرق- النبع...) يهدف جادا إلى التخلص من غشاوة الحزن والكآبة، إلا أن محاولته هذه – على العكس من ذلك- لا تسلمه إلا إلى تكريس غلالة الحزن العميق الذي يؤثث فضاء قصائده كما هو الشأن في المثال التالي:
" يا فرات
قادم إليك من خرائب الجذور، من منابع الصدى،
إليك أحمل الوشم الذي حملته صباح مولدي"
إليك،
نحن توأمان، أمنا الصحراء
أنت تعطيها المياه...
- آه يا أمي -
...
أتيتُ رُبَّ طائر يزقو على خطاك،
        ينقب الخطى
ورب عابر يريح رأسه الموجوع تحت شجره
في عصرنا المليء بالأسى،
وبالأسى يساق." -14-
ويمكن القول بأن مسحة الحزن هاته التي يستوحيها الشاعر من عناصر الطبيعة هي التي تقوده إلى الجهر بمواقفه تجاه أعداء وطنه، جريا على مقولة نيتشه: "الألم يهدينا سواء السبيل". لقد انقشع الوهم، وسطعت شمس الحقيقة، لذلك ينحاز الشاعر لصف الثورة ضد أعدائها، ويتهيأ لفعل جديد؛ إنه طالع من موج القرارات السحيقة، ومن موانئ الجوع، ومن مفارق الريح ليكشف حال الوطن المسروق:
"طالع من مفارق الريح، والطلح
من أصابع القهر، من مرارة الندب،
من مقاتل الدرب،
من لوعة الأذرع الباكية
...
حامل ريح بلادي،
وطني المنزوع من كل صحافات الحضاره
وطني المرسوم في الجدران طفلا
        يلمس الرمل فيزهر
وطني المرمي في هامش محضر
وطني المحروم من سحر البكاره." -15-
ويتطلع الشاعر إلى مواسم الخضرة واليناعة في وطنه، فلا يجد إلا مواسم القحط والردى، مواسم القهر والمرارة على ما أصاب الأرض من مناشير شققت حتى الصخر والثرى، ولذلك تهمين عليه مسحة كثيفة من الحزن الأبدي الذي ينساب كالسيل في ثنايا قصائده، وتتسع أمامه مساحات لا تعد من الفجائع، فيحس بالخراب واليباب يحاصرانه من كل الجهات وكأنما دقت الساعة:
" طالع من مواسم القحط، والردى،
طالع من تشقق الصخر، والثرى،
طالع من مساكب الريح "بذرة"
            قنـبلـه
طالع أحمل الحزن عالما،
أحمل الموت عالما
عالم الموت وحده عالم الحق
عالم الحق دفقة من دمي...." -16-
وواقع هذا الوطن هو ما يسلم الشاعر إلى الشعور بالضعف والوهن، واللوعة والنفي، وهذا ما يقوده إلى الإحساس بعدم الجدوى، إنه أصبح على حافة الجنون؛ يستشعر قرب نهايته:
" امنحيني يدك الملأى بما في الأرض من طيب العطايا،
أطعميني،
فمنا قير الطيور الجائعات
أكلت حبات قلبي،
شربت نهر شراييني،
رعت خضرة عمري،
بحثت خلف الخلايا عن بقايا إرثها المزروع في لحمي،
فردي لي بقايا برقي المخزون في عينيك،
مدي اليبس المخضر في حقل عيوني" -17-
إن الشعور بالمهانة وعدم الفاعلية هو ما يدفع الشاعر إلى نوع من الحزن الوجودي والغربة، فهو لا يستفيق إلا على الجراح:
" أستفيق على الجراح
وأنت أحجية الجراح
عيناك قافلتان من سفر المساء
وأنت قبرة الصباح.
يا سكر الشفتين
ذئب في دمي حفرته ساريتاك
فاشتعلت أظافره التقيه
أنا موجع
وقراءتي: خفق الجناح
وأنا مباح" -18-
إلا أن الشاعر سرعان ما ينفض عنه غبار هذا التوجع ويسعى جادا إلى التخلص من غشاوة الحزن التي تحاصره، ويتأهب للعودة إلى مصب النهر الفراتي؛ والوصول إلى نهاية القرار:
"فأفيقوا..
مليء القلب بآلاف العراجين
اطلعوا من أوجه البر،
ارسموني شارة،
قولوا لأهلي:
"عرف النهر مصبه" -19-
وهو بهذا الفعل، يستعيد توازنه المفقود، ومن ثم ينطلق متوعـدا الأعـداء بحـرب لا هوادة فيها:
"من دمي الشرب،
 أفيقوا،
ما تفيأنا ظلال الهمس لو لم يغمز السعف البكارة
أوقدوا الجمر،
على خابية الجوع حفر ناصورة للفارس الآتي،
تركنا في البساتين خيالات رجوع،
والتفاتات مناره. -20-
ومن أجل تطعيم بوحه الشعري، يستدعي عبد الكريم الناعم في ديوانه:" الكتابة على جذوع الشجر القاسي" زمن الوحي، ليقارن بينه وبين زمن الفواجع المرعب. ففي قصيدة "دثروني" يقول:
" زمليني،
دثريني،
لم يكن، بيني وبين الوحي إلا خطوتين
...
زمليني
دفئيني
يا خديجه
أقفل البحر خليجه
لم يكن في الشعب غيري
صحت: يا سكان هذا الوطن الموبوء،
يا أعراف هذي الأرض،
يا أهل النحاس..، الذهب..، القصدير،
        يا أهل النخالة
صدقوني أنني كنت قريبا منكم يوم اجتمعتم،
كنت وجه الورق المخذول، والحبر،
        وكرسي الرئاسه.
كنت دينار السياسه
معكم في كل قاعه
كيف أنسى...
        وأنا كنت البضاعه؟ ! -21-
وهي قصيدة رائعة يستدعي فيها عبد الكريم الناعم الرموز السلبية التي عاثت الفساد وخرجت عن دائرة التعاليم الإسلامية. وفي هذا السياق يستحضر أبا سفيان، ومعاوية، والصراع بينه وبين علي حول الخلافة.
ويحرص الشاعر على استخدام التاريخ الإسلامي كوسيلة فنية لنقل أفكار معاصرة إلى متلقيه؛ وهو إذ يسبر أغوار هذا التاريخ – ليستلهم الرموز المشعة فيه تارة، أو يوظف ما ترسب فيه من عناصر سلبية تارة أخرى- إنما يقدم أفكارا ثورية تنم عن مدى إحساسه بالصدمة العنيفة جراء الهزائم المتوالية التي تلقاها جيله في العصر الحديث، ولذلك فهو لا يتوانى في تعرية الأنظمة السياسية العربية المسؤولة عن هذه الهزائم:
" صحت فيهم"
اتركوا لي لقمة الخبز، وأمني،
وضياء الشمس، والحرف، وآيات كتابي،
سوف لا ألقى "أبا سفيان" إن جاء على
                 رأس القوافل
اتركوا لي "خيبر "الثأر"
        وأحلام المقاتل
        وحكايات الفصول" -22-
إن استلهام بعض الرموز الساكنة في أعماق التراث العربي والإسلامي، هو جزء من معركة عبد الكريم الناعم - شأنه في ذلك شأن باقي شعراء جيله- من أجل مستقبل أمة عربية ناهضة وموحدة.
وبالإضافة إلى أبي سفيان، يسترسل الشاعر في التنديد بالرموز المنتسبة لهذا البيت – مما زاغ عن تعاليم الإسلام السمحة – فيتراءى له "يزيد بن معاوية" حيث يتعامل معه كرمز للدعي الكاذب حينما يقول:
" اقتلي كل الذين اعتنقوا ركب التقاط السود
في قافلة الصبح،
وكل الكذبة
وعلى نهر" يزيد افتضحيهم،
واتركيهم للسواقي
أغلقي الباب بوجه الأدعياء،
وإذا جاء المساء
حدقي في العالم الآتي"-23-
إن الشاعر حريص عل العودة إلى تاريخ الصراع على الخلافة بين: علي ومعاوية لاستدعائه كشهادة بالغة الدلالة على ما أصاب زعماء هذه الأمة من عجز ووهن، من جبن ومسكنة في العصر الحديث.
كما يوظف بعض الأحداث التي شهدها عصر الخلافة الإسلامية، حين اشتد الصراع بين المهاجرين والأنصار حول أهلية الطرفين على خلافة الرسول، أو حين اختلف المجاهدون حول كيفية ملاقاة الأعداء في واقعة "خيبر"، أو توظيف مواقف بعض الصحابة كـ "عمرو بن العاص" وآخرين. وهو يهدف من هذا كله إلى إسقاط دلالات هذه الأحداث على تردي الواقع العربي وانهزاميته وانصياع مسؤوليه لإملاءات المتغطرسين الجبناء.
والشاعر هنا ينتقد الوضع السياسي لعصره الذي تميز بالانقسامات التي جرت الوبال على مستقبل هذه الأمة، وذلك عبر نسخه للحظة التاريخية التي ظهرت فيه هذه الانقسامات، كما يستخدم التاريخ الإسلامي كوسيلة فنية لتمرير أفكار ثورية معاصرة لمتلقيه قصد محاسبة المسؤولين عن الهزائم المتتالية في زمن قياسي، دون أن يتوانى عن تعرية الأنظمة السياسية التي كانت السبب وراء هذا التردي.
ومن ثم ينتقل الشاعر إلى توعد أعداء هذه الأمة بحرب لا هوادة فيها؛ فها هي الأمواج المعبأة بالقنابل "تقترب من الشطآن تروم غسل المدائن، وتطهيرها مما علق بها من الجراح، وها هي قبرة الصباح تبشر بيقظة الحجر الذي يعرف أسماء من أحرق مواسم الخضرة واليناعة في الوطن النازف، وها هي الخيل تدك سنابلها متأهبة لفعل جديد:
" الآن تقترب الشطوط،
 لوجهها الموج المعبأ
 بالقنابل،
 والمنارات البعيدة" -24-
" أشرقت لغتي على الجماد،
 وهذه يقظتي حجر" -25-
" هي الخيل تعبر،
            تعدو،
 يُفك الوثاق،
 ويشرع رمح اقتحام" -26-
نعم، لقد استطاع عبد الكريم الناعم أن يبعث الفارس العربي من جديد؛ فها هو يحاصر جبل "قاسيون" المطل على دمشق، كما أنه متأهب لتحرير" بيروت" من أسرها الدموي، وهو ماض ليعيد "ليافا" الحزام المذهب:
" هو الفارس العربي على "قاسيون"
و" بغداد" قوس.
هو "البعث" يخرج من أمسيات الحداد،
... يطلق "بيروت" من أسرها الدموي،
يعيد "ليافا" الحزام المذهب" -27-
هكذا يتبلور وعي عبد الكريم الناعم المتزايد بالوظيفة التي يجب أن يضطلع بها الشعر باعتباره رؤية ثورية أصيلة تنشد تطهير الإنسان وتحريره:
" يا أهالي الفرات،
 يا أهالي الجنوب، والشمال،
 يا أهالي الجهات كلها..
 يا عربا،
 إني أرى كما رأيت أمس طوفانا جديدا،
 فارفعوا السدات،
إنه يجيء بغتة...." -28-
لقد بدأ الحساب وكأنه يوم قيامة لا سماحة فيه؛ فها هي بغداد تلقي جدائلها في الفرات الذي استفاق على وميض البرق، وها هي السنابل تفور مبشرة بمواسم الخضرة واليناعة من جديد، وها هي غيوم الرحمة تميل على الجزيرة:
 " قلت: استفاق الفرات،
 و "بغداد" ألقت إليه الجدائل
....
فأومض برق، وفارت سنابل
ومالت علينا غيوم الجزيرة" -29-
وبذلك يكون عبد الكريم الناعم قد استقرأ أبعاد الواقع السياسي لوطنه وأمته، وهو إذ يكشف عن أعدائه الداخليين، ويندد بغرور السلطة الحاكمة التي قادت إلى الهزائم الخطيرة من خلال رؤيته هذه؛ إنما يتمرد على منطق الخوف والإحباط، وكل أشكال الزيف والذل والمسكنة، لأنه ينشد الوجود الأصفى والأكمل للإنسان العربي.

الهوامش:
عبد الكريم الناعم: "من التجربة في الشعر" مجلة "الموقف الأدبي" عدد 138-139 أكتوبر- نونبر، 1982، ص 208.
عبد الكريم الناعم: من ديوانه: "تنويعات على وتر الجرح" منشورات اتحاد الكتاب العرب، دار الأنوال للطباعة دمشق 1979، ص 17.
عبد الكريم الناعم: نفسه، ص 42.
عبد الكريم الناعم: نفسه، ص 207.
عبد الكريم الناعم: نفسه، من قصيدة: "صوت إمامة الوائلية الجديد" ص 85.
عبد الكريم الناعم: نفسه، ص 33.
عبد الكريم الناعم: نفسه، ص 64-66.
عبد الكريم الناعم: من التجربة في الشعر مرجع مذكور، ص 207.
عبد الكريم الناعم: نفسه
عبد الكريم الناعم: نفسه ص 206.
عبد الكريم الناعم: من ديوانه: "الكتابة على جذوع الشجر القاسي" منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 1974
عبد الكريم الناعم: نفسه من قصيدة: "الطلوع زمن الموت" ص 42.
عبد الكريم الناعم: نفسه ص 42-43
عبد الكريم الناعم: "من قصيدة يا فرات" ص 51-52.
عبد الكريم الناعم: نفسه ص 40-41.
عبد الكريم الناعم: نفسه ص 39.
عبد الكريم الناعم: نفسه ص 21.
عبد الكريم الناعم: من ديوانه: "تنويعات على وتر الجرح" مصدر مذكور
عبد الكريم الناعم: من ديوان: "تنويعات على وتر الجرح" قصيدة: "وجه في ذاكرة الطين" ص 67-68.
عبد الكريم الناعم: نفسه
عبد الكريم الناعم: نفسه ص 25-27-28.
عبد الكريم الناعم: نفسه ص 28
عبد الكريم الناعم: من ديوانه: "الكتابة على جذوع الشجر القاسي" من قصيدة بنفس العنوان ص 23.
عبد الكريم الناعم: من ديوانه: "تنويعات على وتر الجرح" قصيدة: "الحب والانفـجار" ص 36.
عبد الكريم الناعم: نفسه من قصيدة بنفس عنوان الديوان ص 64.
عبد الكريم الناعم: نفسه من قصيدة: "لورد دمشق على قبة الكرخ" ص 53
عبد الكريم الناعم: نفسه ص: 55.
عبد الكريم الناعم: من ديوانه: الكتابة على جذوع الشجر القاسي" قصـيدة: "يا فـرات" ص 64.
عبد الكريم الناعم: من ديوانه: "تنويعات على وتر الجرح: قصيدة: "القمر العربي يشرق في زمن القهر" ص 74.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة