صدر عن دار نشر "هكيبوتس هميؤوحاد" سنة 2008، الجزء الثاني من سيرة حياة البروفيسور سوسان سوميخ، بعنوان "ايام متخيلة"، أخا للجزء الاول "بغداد أمس" سنة 2004.
في الكتاب يشرع سوميخ حياته على مصاريعها، بحيث تنفلش هذه الحياة أمام المتلقّي على مساحة زمنية واسعة من عام (1951) عام قدومه إلى اسرائيل من وطنه الأصليّ العراق وحتى عام (2000). ولكنه رغم هذا الانفلاش ينوّه في المقدمة بأنّه لا يكتب ترجمة شخصية بالمعنى المعروف لهذا الجانر الادبي وإنما ينتقي من حياة تجارب معنية تعمد فيها، ويقف على احداث يراها مهمة مرّ بها، ويذكر شخصيات التقاها وتعرف عليها، فيسرد كل ذلك من خلال ذاكرته الحيّة، والانتقاء السليم، بغية التأشير على ما لعب دوراً في بلورة شخصية وفي صقله إنساناً اكاديمياً مميزاً مرموقاً. لذا فإن القارئ لهذه السيرة على سعتها واهميتها لن يجد فيها مهما اجتهد تغوّرا للنفس واستبارا لخفاياها، او نزولاً إلى أصقاعها لمعانية أو لمكاشفة صراعاتها الداخلية.
كما أنه لن يجد تصويراً داخلياً للانفعالات والعواطف الشخصية أو التصريح بها وإزالة الغشاوة عنها، إنما القراءة المتأنية تجعل القارئ- المتلقي يتجول على السطح ويعاين الامور من الخارج، وهذا ما يدفعه إلى التصور وإطلاق العنان والترحال الخيالي الذي من يستمد الكتاب عنوان.
الكتاب موّجه إلى القارئ اليهودي، ويهدف سوميخ من وراء ذلك إلى إطلاع الجيل الجهيد والاجيال اللاحقة على المشاكل والتحديات والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية التي واجهت اليهود الشرقيين وهو واحد منهم، الذين قدموا من الدول العربية الى اسرائيل مع بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وكيف استطاع هؤلاء رغم العوائق بناء شخصياتهم وبناء حياتهم وانخراطهم فيما بعد في الدولة. ولكن "سوميخ" وهو يسبر غور هذه القضايا على تشظياتها لا تبارحه صرامته الاكاديمية، فأسلوبه هنا يمازج بين الاسلوب الجدي الصارم وبين الترقق، كما أنه لا ينجر وراء عواطفه الشخصية، بل يظل يتنقل بين حدث وآخر وبين شخصية وأخرى ضمن إطار الحدث والشخصية البراني ونادرا ما يغوص في الجواني.
ما يستوقفنا كقراء-متلقين عرب في الكتاب هو المبدأ الذي من ينطلق وعليه يشيد بنيانه الحياتي على تلونات الزاخر بالتجارب والحافل بالمعرفة، أعني المبدأ الذي مفاده: "الانفتاح على الحضارات والثقافات والعمل المشترك بينها جميعاً هو الطريق الصحيح للتطور والتجدد". وعلى طول الكتاب وعرضه يتحكم هذا المبدأ بمجريات الاحداث، ويحاول سوميخ من خلاله نقل العدوى إلى المتلقي. فحيات تصلح بامتياز لأنه تكون مقتدى للشعب اليهودي هذا اذا هو فعلا يريد أن يعيش بسلام وباستقرار في بلاده مع الشق الآخر من المواطنين وفي هذه البلاد وأعني العرب الفلسطينيين ومع الجيران العرب بشكل عام. ويثبت "سوميخ" في كل ما جاء في كتابه بأنه قضى حياته حقيقة في اسرائيل في تشجيع التقارب بين شعبي البلاد وفي تشجيع العمل المشترك في إطار الحضارة والثقافة وخاصة في مجال الادب، ونحن اعني معارفه وطلابه شهود على ذلك.
وللتأكيد على هذا المبدأ يرتد سوميخ إلى الماضي ويفلش حياته أمام المتلقي نصف قرن من الزمن، حيث يعود إلى البدايات ويرتقي بهذه البدايات زمانياً ومكانياً وأحداثاً وشخصياتٍ، حتى يصل عام (2000)، وذلك كي يقف المتلقي على تجربة غنية تصلح لأن تكون ورشاً وغطة.
وقارئ هذه السيرة الغنية تستلفته أمور كثيرة كانت قد غابت أو غيبت في هذا الزمن الرديء الذي نعيشه حتى صارت نوعاً من النوسطالجيا- الحنين. من هنا تستمد هذه السيرة اهميتها، ومن هنا كذلك تشرق بمواقف قد صارت تعربى للذكريات، وهذا ما يؤلم المؤلف- كاتبها وما يجعله يوثقها أدبياً. فمع انحسار الموضوعية في المواقف ومع تراجع اليسار الاسرائيلي واضمحلال القيم وغياب المفاهيم الديمقراطية، تلك المفاهيم التي تجعل الانسان مركز الكون بغض النظر عن انتماءاته، ومع ترسيخ العنصرية والعنجهية والغطرسة القومية وطغيانها على الحاضر المعيش، ومع موجة الكره المتصاعدة تجاه الاقلية العربية الفلسطينية في البلاد، ومع ازدياد وتفاقم التعصب الديني المقيت، يأتي "سوميخ" في كتابه ليقول مقولة أخرى، يأتي بخطاب مغاير تماماً لما يجري، خطاب محب كم صرنا نشتهي أن نسمعه، يأتي ليلح على انسانية الانسان، وعلى مبدأ العلمانية والقرار الحرّ والليبرالية والعدالة والديمقراطية. هذه المفاهيم التي بدأت تتراجع حدّ الغياب والتلاشي في المجتمع اليهودي الاسرائيلي ليحتل مكانها مفهوم الحرب والتمييز العنصري الصارخ وهضم الحقوق المشروعة.
ما يلفت في الكتاب/ السيرة، أمور كثيرة- كما أسلفت- غابت عنّا ردحًا من الزمن، منها: الأمانة والصدق في نقل الأحداث، والجرأة والشجاعة في الموقف، والتحدي والالتزام بالمبدأ، وكذلك العلاقة الخالية من المصلحة والمُحبّة والداعمة مع المواطنين العرب، تلك العلاقة المفعمة بالتقدير حدّ العشق، ليش للإنسان العربي فقط، بل لتراثه ولحضارته وللغته ولثقافته ولأدبه، وكذلك الوقوف إلى جانب قضايا الأقلية العربية الفلسطينية، وهنا يجد المتلقّي أنّ الكتاب/ السيرة، حافل بأسماء شخصيات عربية كثيرة، هم أصدقاء الكاتب من سياسيين وأدباء وزملاء وطلاب، كانت له معهم تجارب كثيرة أدبية وثقافية وحياتية واجتماعية وعلميّة، أثرت حياته وأغنت مسيرته وبلورت شخصيته، ورفدته بالكثير من الأفكار الإنسانية الليبرالية العلمانية. وكذلك يلفت نظر المتلقي ذلك الإحساس الصادق والعميق بالقضية الفلسطينية والإيمان بمشروع السلام العادل شريطة تحقيق الحلم الفلسطيني. وكذلك ما يبفت النظر هو هذا العشق اللامتناهي للأدب العربي والذي يتجلى في الكثير من المواقف المطروحة في الكتاب، وكذلك الافتخار بهذا الأدب، ليس من كون الكاتب متخصصًا أكاديميًّا فيه، بل لأنّه يرى في هذا الأدب أدبه، فهو لم يكره كلمة مستشرق التي كان ينعت بها أحيانًا في المحافل الأكاديمية، وذلك لأنّه يرى أنّ العربية على ما فيها من لغة وأدب وحضارة وتراث وثقافة في الماضي والحاضر، لغة وهوية.
والسؤال الذي يرتفع بعد كل ما ذكر، هو كيف يتجلى كل ذلك في الكتاب/ السرة.
لن أستعرض كل ما جاء في الكتاب/ السيرة، كي لا أفوّت على المتلقي متعة القراءة، ولكنّني سأتوقف عند بعض الفصول التي تؤكّد على ما ذكرته سابقًا.
في الفصل الأول يحدّثنا سوميخ ابن السابعة عشرة عام (1951) عن بداياته، عن انبهاره بالدولة العبرية الجديدة، ولكن سرعان ما يزول هذا الانبهار أمام الواقع المر، والمعاناة التي يعيشها يهود العراق أبناء بلاده من القادمين الجدد: الفوضى وعدم الراحة والإذلال، والأسئلة الكبيرة عن المستقبل، مصير الأهل والجيران، كل ذلك بسبب ما حصل من انقلاب كاد أن يكون مدمّرًا في تلك الفترة. من حياة مستقرة كريمة، إلى فوضى. من قيم ومبادئ تربى عليها اليهودي العراقي، إلى زعزعة كل ذلك وتقويضه. إنّها فترة انتقالية صعبة، والسؤال الذي يطرحه سوميخ الشاب في هذا الفصل، السؤال الذي يعكس ما كان أبناء العراق يهجسون به في حينه: "أين أرض الميعاد التي وُعدنا بها، حيث يعيش اليهودي مستقرًّا حرًّا لا أحد يهزأ بيهوديّته أو يستفزّه بسبب ديانته؟".
هذه المرارة التي تجمّعت في الحلق عند اليهود العراقيين من المهاجرين الجدد، جعلتهم يشعرون بأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية مقارنة مع يهود أوروبا "الأشكناز". حتى القيم الاجتماعية، تلك القيم الصارمة التي سيّج يهود العراق أنفسهم بها من اجل حماية تراثهم وعاداتهم ومفاهيمهم، بدأت تتحطم من خلال زوال الفوارق الاجتماعية وتغيّر المفاهيم والعقلية، وتصادم العقليّتين الغربية والشرقية، وقد تجلى ذلك في الزوّاج المختلط بين العراقيين والأوروبيات.
يتوقّف سوميخ كثيرًا عند مشكلة أخرى واجهت يهود العراق، وهي مشكلة اللغة، فالعراقيون، وهو واحد منهم، لم يعرفوا العبريّة جيّدًا، خاصّة تلك التي تطورت في إسرائيل، من هنا كان فهمهم للآخرين صعبًَا، فلغتهم هي العربية وثقافتهم كذلك، إضافة إلى الانكليزية. ثم يسجل سوميخ في الفصل الثاني من الكتاب/ السيرة انبهاره من مناظر طبيعة فلسطين الخلابة، وذلك من خلال رحلاته التي نظّمتها في حينه جهات رسمية واجتماعية وسياسية كمنظمة "هشومير هتسعير" و"أولبان هدسيم" والشبيبة الشيوعية. ويشير إلى أنّه لم يخرج في رحلة منظمة في وطنه الأصلي العراق، لأنّ الامر كان محظورًا على اليهود في الأربعينيات من القرن الماضي، وذلك بسبب المضايقات التي كانوا يتعرّضون لها، خاصة بعد إعلان التقسيم في العام (1947)، الذي رفضه العالم العربي في حينه.
من خلال هذه الرحلات تعرّف سوميخ على المدن والقرى العربية، ويخصص الكثير للناصرة ولمرج ابن عامر ولطبريا، ويرى في الناصرة حاضرة العلم والثقافة والأدب. حيث أنّه قام فيما بعد بزمن قصير، بزيارتها بشكل فردي بغية الاطلاع على ما في مكتباتها التجارية والخاصة، من كتب بالعربية كان يتحرّق شوقًا إليها. ومن خلال هذه الزيارات الفردية، تعرّف على الكثيرين من الشعراء والكتّاب، يذكر منهم الشعراء جمال قعوار مدّ الله في عمره، وميشيل حداد وعيسى لوباني وتوفيق زياد رحمهم الله. ويخص زيّاد بالكثير من الحديث منذ ان تعرّف عليه، حتى موته الفاجع في التسعينيات. ثم يتحدث عن زيارته الأولى إلى مدينة حيفا، تلك المدينة التي يعيش فيها الشعبان. وتشاء الصدف أن يدخل وادي النسناس حيث واجهته ملصقات أثلجت صدره كالملصق "صوت قاف ولا تخاف"، و"قاف" هو حرف الحزب الشيوعي الاسرائيلي قبل انشقاق المجموعة التي كشفت عن ميولها الصهيونية منه. وفرحه من هذا الملصق نابع من كونه جاء من بلاد تمنع اليسار وتعدم الشيوعيين، حتى إنّ حمل صحيفة الحزب الشيوعي العراقي، القاعدة، أو توزيعها، كان محظورًا. وهنا في حيفا يرى أنّ كل شيء متاح، لذلك يفرح لدمقراطية دولته ويعجب بها في حينه. ولكنّه يقول إنّه "بعد ما زار بلاد الغرب ورأى الدمقراطية، هناك توقف عن هذا الإعجاب".
ويحدّثنا سوميخ عن مواجهته الأولى مع صحيفة "الاتحاد" في البلاد، التي كانت تصدر عن عصبة التحرر، والتي أعادت تشكيل الحزب الشيوعي الاسرائيلي بعد قيام الدولة، حين توحّدت مع الشيوعيين اليهود، في الحزب الشيوعي الفلسطيني. "الاتحاد"، التي كان يعرفها أيام وجوده في بغداد، والتي كانت تجذبه بسبب مواقفها ومبادئها، ها هو اليوم، موجود في مبناها في حيفا، في مبنى "الاتحاد"، يلتقي بالراحل إميل حبيبي، محرّر "الاتحاد" في حينه. ويحدّثنا سوميخ عن حرارة اللقاء، وعن إعجابه الكبير بشخصية إميل حبيبي، وعن تقديره لأدبه ولمبادئه ولكتاباته الأدبية والسياسية، ويصرّح بانّه كان يقف وراء اختيار إميل حبيبي لنيل "جائزة إسرائيل". من إميل حبيبي يتشرّب سوميخ تفاصيل المأساة الفلسطينية وخاصة مأساة اللاجئين، فينطلق ليزور القرى الفلسطينية حيث يتعرّف على سكانها وعلى أوضاعهم القاسية وعلى معاناتهم بسبب ما نالوه من السلطة التي صادرت أراضيهم وهدمت قراهم وحوّلتهم إلى لاجئين داخل وطنهم، وإلى أجيرين يعملون في أراضيهم التي كانوا أصحابها. الأمر يحزن سوميخ، فيعلن تضامنه معم.
ويصرّح سوميخ بجرأة بأنّه في تلك الفترة من حياته لم يكن مقتنعًا بالأفكار الشيوعية، وأنّ الحزب الشيوعي الإسرائيلي لم يكن مثله الأعلى، وإنّما كان "هشومير هتسعير" أي "مبام" بزعامة موشيه سنيه، وخاصة الجناح الذي أسّس الكيبوتسات. فقد رأى في جماعة هذه المنظمة أنّهم يؤمنون بالمساواة وبالاشتراكية. ولكنّه حين اكتشف أنّ عضوية هذا الحزب كانت مقصورة على اليهود فقط، بينما الحزب الشيوعي الاسرائيلي، كان حزبًا يهوديًّا عربيًّا، على حد سواء، في الكنيست، وفي الهستدروت، وفي كل شيء، مع قيادة مشتركة يهودية وعربية متنورة، كفيلنر وطوبي، ومع إعجابه الشديد بالاتحاد السوفييتي الذي قضى على الوحش النازي، وكذلك مع تقديره للحزب الشيوعي العراقي، الذي نظر إلى اليهودي في العراق كمواطن له كامل الحقوق، والذي عرف كيف يميّز بين اليهودي والصهيوني، "اليهود أخوتنا، الصهاينة أعداؤنا"، كل هذه العوامل جعلته في النهاية ينحاز للحزب الشيوعي ويصبح عضوًا فعالا فيه حتى أواخر الخمسينيّات من القرن الماضي. يقوم بكل ما كان يطلب منه، بدءًا من الاجتماعات التنظيمية ومرورًا بتوزيع الصحيفة "كول هعام" في مدينة بات يام، على خطورة ذلك، وانتهاء بالنشر والكتابة في صحف الحزب بالعبرية والعربية.
ثم يتطرق سوميخ بكل صدق وصراحة للهزات التي تعرّض لها الحزب الشيوعي وللجهود الكبيرة التي بذلت لرأب الصدع ولترميم ما تصدّع. تلك الهزّات التي نشأت إثر أحداث هنغاريا سنة 1956، التي أعلن زعيمها في حينه الحياد، فأجهض الاتحاد السوفييتي ثورته وأعدم. ثم إعلان مالينكوف في مؤتمر الحزب الشيوعي السوفييتي التاسع عشر عن الوضع المأساوي للزراعة في بلاده، الزراعة التي كان يرى فيها الشيوعيون عندنا أنّها مثالية. ثم ما أعلنه خروتشوف في المؤتمر العشرين عن قضية ستالين ونظامه السيء.
هذه الأمور زعزعت ثقة الكثيرين بالحزب الشيوعي، ثم الانقسام الذي حدث في الحزب إثر العدوان الثلاثي على مصر، إلخ... من هذه المشاكل التي أصابت مسيرة الحزب في البلاد. ولكن الضربة القاضية التي جعلته يجمّد عضويته في الحزب، ويكف عن المشاركة في نشاطاته كانت عام 1967، أي أيام الانقلاب التشيكي بزعامة دوبتشيك، ذلك الانقلاب الذي أجهض بانتشار الدبابات السوفييتية في براغ. هذا الحدث جعل سوميخ يبتعد عن الحززب لأنّ الدبابات، حسب قوله، قضت على حلم "الشيوعية الدمقراطية" التي كان يؤمن بها. ولكنّه مع ذلك يقرّر بأنّه لن يبتعد عن تأييد الاشتراكية العالمية، أو الشيوعية الانسانية الدمقراطية، لأنّه ينفر من مفاهيم الرأسمالية ولا يهضمها.
في فصل آخر شائق، بتحدّث سوميخ عنن إنشائه مع صديقه المقرب المرحوم دافيد صيمح منتدى الإبداع بالعربية في مدينة تل أبيب، ويشرح بإسهاب عن صيمح وعن مبادئه وانتقاداته لتعامل الدولة مع الأقلية العربية الفلسطينية في البلاد، ومع تراثها وأدبها وحضارتها. ويكر كيف انحازا سوية إلى "الاتحاد" و"الجديد"، لأنّهما عبّرتا عن وجهة نظرهما وذلك لأنّهما كانتا تنشران أدبًا ثوريًّا برؤية تقدمية، وكذلك مقالات تفضح سياسة الدولة تجاه العرب وتجاه المهاجرين الجدد من يهود البلاد العربية، كما ويقارن بينهما وبين صحيفة "اليوم" التي كانت تعبّر عن وجهة نظر السلطة في حينه، ويصفها بالصحيفة الهابطة دون المستوى. من خلال "الاتحاد" و"الجديد" يتعرّف سوميخ على العديد من الادباء والمثقفين العرب واليهود من الشيوعيين يذكر منهم بإعجاب وتقدير الراحلين: إميل توما، وجبرا نقولا، وصليبا خميس، وعصام العبّاسي، كما يذكر أيضًا شمعون بلاص وحنا أبوو حنا وسامي ميخائيل، مدّ الله في أعمارهم. وكذلك يتحدّث عن علاقة الود والتقدير مع الشاعر الراحل راشد حسين، رغم اختلاف وجهتي النظر السياسية بينهما.
ثم يتحدّث عن كيفية انتقال الأدباء اليهود الذين كتبوا بالعربية إلى الكتابة بالعبرية، بهدف- كما جاء في بيان سامي ميخائيل سنة 1954، والذي نشر في الجديد- "الواقعية والتزام الأدباء من المهاجرين الجدد بمعايشة قضايا الجماهير ليكونوا في الخط المركزي للحياة، كي يكتبوا أدبًا مخلصًا يتحدّى ويعرّي ويخدم شعبهم والشعوب الأخرى. إذ أنّ اللغة ليس مهمّة، المضمون هو المهم".
وقد أضاف سوميخ إلى البيان: "إنّ واجب هؤلاء الأدباء متابعة مجريات تطوّر الادب العبري والوقوف إلى جانب الأدب العربي في إسرائيل، وأهميّة الترجمة بينهما". وهذا الجانب- الترجمة- هو ما أخذه شخصيًّا على عاتقه. وفعلا كان له إسهام ضخم في هذا المجال، خاصة في ترجمة الأدب العربي إلى العبرية.
في الفصول اللاحقة يتحدّث سوميخ عن دراسته الأكاديمية حتى وصوله إلى درجة بروفيسور وإلى رئيس كرسي الأدب في جامعة تل أبيب. وعن المؤتمرات الأكاديمية التي حضرها وشارك فيها، ومن الشخصيات الأكاديمية التي تعرّف عليها خلال عمله والمؤتمرات ودراسته يذكر الباحث الأدبي الكبير محمد مصطفى بدوي من جامعة أكسفورد، والذي كان مرشده في رسالة الدكتوراة "الإيقاع المتغيّر في روايات نجيب محفوظ"، ويخصّه بفصل كامل. كما يخص أيضًا كلا من المستشرق جو بيتين المشهور، والباحث الكبير في اللهجات حاييم بلانك، بفصل كامل.
كما يتحدّث عن العلاقة الحميمة مع الشاعر الشيوعي الكبير ألكسندر بن، محرر صحيفة الحزب الشيوعي بالعبرية، "كول هعام"، ويخصّه هو الآخر بالكثير. ولا ينسى طبعًا الجامعة وعلاقاته بالمحاضرين، وكذلك طلابه الذين يظهر لهم في الكتاب أسمى آيات الحب والاحترام والافتخار بانجازاتهم العلمية والأكاديمية.
وفي الفصول الأخيرة من الكتاب/ السيرة، يتوقّف سوميخ عند الادباء العرب المصريين الذين درسهم ودرّس عنهم وبحث في أدبهم، خاصة توفيق الحكيم ويوسف إدريس ونجيب محفوظ، ويذكر رأي هؤلاء في أبحاثه رغم كونه يهوديًّا، فينقل لنا باعتزاز إعجاب يوسف إدريس مثلا بأبحاثه التي نشرها عن أدبه، والتي عبّر عنها بهذه الجملة: "أنت من أتّكل عليه في البحث في كتاباتي". وكذلك ينقل لنا علاقة الاحترام المتبادل بينه وبين نجيب محفوظ، حيث يقول: "لم نحسبه كماركسيين بطلا ثقافيًّا، ولك يكن كغوركي وبريخت وأراغون ونيرودا وناظم حكمت في رأينا. ولكن رأينا تغيّر بعد قراءته المعمّقة وبعد البحث في رواياته وقصصه". ومن المنصف أن نضيف أنّ بحث سوميخ المنشور بالانكليزية والصادر عن لايدن بعنوان "The Changing Rhythem" سنة 1973، كان الأول الذي عرّف العالم بنجيب محفوظ، والذي أسهم في رأيي في منحه جائزة نوبل للأدب عام 1988.
هل ينتهي الكتاب/ السيرة هنا؟ طبعًا لا، إنّما هذا غيض من فيض. وأنا سمحت لنفسي بأن أتخيّر الفصول التي ارتأيتها هامّة في ناحيتين: الأولى لأنها أسهمت في بلورة الحاضر وفي صقل شخصية المؤلف، والثانية لأنّ هذه الفصول مرتبطة بشكل كبير وحميمي بنا، أعني العرب الفلسطينيين في البلاد.
وما يجدر ذكره هنا أنّ سوميخ في كتابه/ سيرته، كان متواضعًا، فهو لم يتطرّق لأبحاثه المشهورة إلا لمامًا، وبأسمائها فقط، ولا يبرز نفسه كبطل، وإنّما هو يختبئ وراء الأحداث والشخصيات التي يقدّمها. هو ليس صانع أحداث جسام كما يقول، ولا هو سيّد تلك الاحداث، إنّما هو جزء من الصورة العامة ومن المشهد الحضاري/ الثقافي/ السياسي/ الأكاديمي والعلمي. والقارئ يستطيع أن يجلو شخصية سوميخ من خلال هذا النسيج الذي يحوكه أثناء سرده للوقائع والأحداث، ومن خلال علاقاته مع الآخرين.
وللكاتب، رغم هذا التواضع الشديد، أيحاث كثيرة رفعت من منزلة الأدب العربي عالميًّا، وقدّمته بالكثير من الفخر والاعتزاز والحب، كما أنّ له يدًا ناصعة البياض في خلق مناخ أدبي فكري عربي في البلاد، وذلك من خلال ما نشره وما قدّمه من محاضرات، وما قام به من ترجمات وإسهامات، والأهم من خلال ما درّسه من مادّة الادب العربي الحديث في الجامعة، هذا التدريس الذي يشف عن نظرة عشق لهذا الأدب، والذي فتح منهاجية جديدة تعتمد على النص أوّلا لفهم الأدب وتحليله وللوقوف على جماليّاته. وكذلك له دور كبير في خلق شريحة من الأكاديميين والباحثين والادباء العرب الشباب الذي تتلمذوا على يديه، ونهلوا من منابعه، والذين رعاهم وأحبّهم وأخلص لهم ودعمهم وصاروا مفخرته لأنّهم جميعهم تقريبًا يحتلّون اليوم مراكز هامّة في الجامعات والكليّات.
من كل ما تقدّم وتأسيسًا عليه، أرى أنّ الكتاب/ السيرة جدير بالقراءة وأنّه يستحق الترجمة إلى العربية لما فيه من فائدة علميّة أدبيّة، وتجربة حياتية غنيّة تقرّب وتجمّع وتؤلّف وتدعو للتعايش وللسلام بين الشعبين.
وعلى ما يبدو كان دافع سوميخ من كتابة هذه السيرة هو العمر الذي يجري بنا سريعًا، فتخوّفًا من النسيان يكتب سيرته على غناها، ويعايش الماضي الثري ليكون عظة لنا كما أنّ دافعه الآخر هو ترسيخ المبدأ الذي تبناه وسار على هديه، مبدأ التعايش والدمقراطية، وكذلك التمسك بعراقيّته تعبيرًا عن حبّه اشعبه وللأدب والتراث العربيّين.
تحية للبروفيسور ساسون سوميخ على انتاجه الجديد هذا مع تمنيّاتي له بدوام الصحة والعافية ومديد العمر، ودمت لنا أستاذنا نبعًا دافقًا من العطاء لا ينضب أبدًا، بل يرهق النضوب.
د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .
وللتأكيد على هذا المبدأ يرتد سوميخ إلى الماضي ويفلش حياته أمام المتلقي نصف قرن من الزمن، حيث يعود إلى البدايات ويرتقي بهذه البدايات زمانياً ومكانياً وأحداثاً وشخصياتٍ، حتى يصل عام (2000)، وذلك كي يقف المتلقي على تجربة غنية تصلح لأن تكون ورشاً وغطة.
وقارئ هذه السيرة الغنية تستلفته أمور كثيرة كانت قد غابت أو غيبت في هذا الزمن الرديء الذي نعيشه حتى صارت نوعاً من النوسطالجيا- الحنين. من هنا تستمد هذه السيرة اهميتها، ومن هنا كذلك تشرق بمواقف قد صارت تعربى للذكريات، وهذا ما يؤلم المؤلف- كاتبها وما يجعله يوثقها أدبياً. فمع انحسار الموضوعية في المواقف ومع تراجع اليسار الاسرائيلي واضمحلال القيم وغياب المفاهيم الديمقراطية، تلك المفاهيم التي تجعل الانسان مركز الكون بغض النظر عن انتماءاته، ومع ترسيخ العنصرية والعنجهية والغطرسة القومية وطغيانها على الحاضر المعيش، ومع موجة الكره المتصاعدة تجاه الاقلية العربية الفلسطينية في البلاد، ومع ازدياد وتفاقم التعصب الديني المقيت، يأتي "سوميخ" في كتابه ليقول مقولة أخرى، يأتي بخطاب مغاير تماماً لما يجري، خطاب محب كم صرنا نشتهي أن نسمعه، يأتي ليلح على انسانية الانسان، وعلى مبدأ العلمانية والقرار الحرّ والليبرالية والعدالة والديمقراطية. هذه المفاهيم التي بدأت تتراجع حدّ الغياب والتلاشي في المجتمع اليهودي الاسرائيلي ليحتل مكانها مفهوم الحرب والتمييز العنصري الصارخ وهضم الحقوق المشروعة.
ما يلفت في الكتاب/ السيرة، أمور كثيرة- كما أسلفت- غابت عنّا ردحًا من الزمن، منها: الأمانة والصدق في نقل الأحداث، والجرأة والشجاعة في الموقف، والتحدي والالتزام بالمبدأ، وكذلك العلاقة الخالية من المصلحة والمُحبّة والداعمة مع المواطنين العرب، تلك العلاقة المفعمة بالتقدير حدّ العشق، ليش للإنسان العربي فقط، بل لتراثه ولحضارته وللغته ولثقافته ولأدبه، وكذلك الوقوف إلى جانب قضايا الأقلية العربية الفلسطينية، وهنا يجد المتلقّي أنّ الكتاب/ السيرة، حافل بأسماء شخصيات عربية كثيرة، هم أصدقاء الكاتب من سياسيين وأدباء وزملاء وطلاب، كانت له معهم تجارب كثيرة أدبية وثقافية وحياتية واجتماعية وعلميّة، أثرت حياته وأغنت مسيرته وبلورت شخصيته، ورفدته بالكثير من الأفكار الإنسانية الليبرالية العلمانية. وكذلك يلفت نظر المتلقي ذلك الإحساس الصادق والعميق بالقضية الفلسطينية والإيمان بمشروع السلام العادل شريطة تحقيق الحلم الفلسطيني. وكذلك ما يبفت النظر هو هذا العشق اللامتناهي للأدب العربي والذي يتجلى في الكثير من المواقف المطروحة في الكتاب، وكذلك الافتخار بهذا الأدب، ليس من كون الكاتب متخصصًا أكاديميًّا فيه، بل لأنّه يرى في هذا الأدب أدبه، فهو لم يكره كلمة مستشرق التي كان ينعت بها أحيانًا في المحافل الأكاديمية، وذلك لأنّه يرى أنّ العربية على ما فيها من لغة وأدب وحضارة وتراث وثقافة في الماضي والحاضر، لغة وهوية.
والسؤال الذي يرتفع بعد كل ما ذكر، هو كيف يتجلى كل ذلك في الكتاب/ السرة.
لن أستعرض كل ما جاء في الكتاب/ السيرة، كي لا أفوّت على المتلقي متعة القراءة، ولكنّني سأتوقف عند بعض الفصول التي تؤكّد على ما ذكرته سابقًا.
في الفصل الأول يحدّثنا سوميخ ابن السابعة عشرة عام (1951) عن بداياته، عن انبهاره بالدولة العبرية الجديدة، ولكن سرعان ما يزول هذا الانبهار أمام الواقع المر، والمعاناة التي يعيشها يهود العراق أبناء بلاده من القادمين الجدد: الفوضى وعدم الراحة والإذلال، والأسئلة الكبيرة عن المستقبل، مصير الأهل والجيران، كل ذلك بسبب ما حصل من انقلاب كاد أن يكون مدمّرًا في تلك الفترة. من حياة مستقرة كريمة، إلى فوضى. من قيم ومبادئ تربى عليها اليهودي العراقي، إلى زعزعة كل ذلك وتقويضه. إنّها فترة انتقالية صعبة، والسؤال الذي يطرحه سوميخ الشاب في هذا الفصل، السؤال الذي يعكس ما كان أبناء العراق يهجسون به في حينه: "أين أرض الميعاد التي وُعدنا بها، حيث يعيش اليهودي مستقرًّا حرًّا لا أحد يهزأ بيهوديّته أو يستفزّه بسبب ديانته؟".
هذه المرارة التي تجمّعت في الحلق عند اليهود العراقيين من المهاجرين الجدد، جعلتهم يشعرون بأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية مقارنة مع يهود أوروبا "الأشكناز". حتى القيم الاجتماعية، تلك القيم الصارمة التي سيّج يهود العراق أنفسهم بها من اجل حماية تراثهم وعاداتهم ومفاهيمهم، بدأت تتحطم من خلال زوال الفوارق الاجتماعية وتغيّر المفاهيم والعقلية، وتصادم العقليّتين الغربية والشرقية، وقد تجلى ذلك في الزوّاج المختلط بين العراقيين والأوروبيات.
يتوقّف سوميخ كثيرًا عند مشكلة أخرى واجهت يهود العراق، وهي مشكلة اللغة، فالعراقيون، وهو واحد منهم، لم يعرفوا العبريّة جيّدًا، خاصّة تلك التي تطورت في إسرائيل، من هنا كان فهمهم للآخرين صعبًَا، فلغتهم هي العربية وثقافتهم كذلك، إضافة إلى الانكليزية. ثم يسجل سوميخ في الفصل الثاني من الكتاب/ السيرة انبهاره من مناظر طبيعة فلسطين الخلابة، وذلك من خلال رحلاته التي نظّمتها في حينه جهات رسمية واجتماعية وسياسية كمنظمة "هشومير هتسعير" و"أولبان هدسيم" والشبيبة الشيوعية. ويشير إلى أنّه لم يخرج في رحلة منظمة في وطنه الأصلي العراق، لأنّ الامر كان محظورًا على اليهود في الأربعينيات من القرن الماضي، وذلك بسبب المضايقات التي كانوا يتعرّضون لها، خاصة بعد إعلان التقسيم في العام (1947)، الذي رفضه العالم العربي في حينه.
من خلال هذه الرحلات تعرّف سوميخ على المدن والقرى العربية، ويخصص الكثير للناصرة ولمرج ابن عامر ولطبريا، ويرى في الناصرة حاضرة العلم والثقافة والأدب. حيث أنّه قام فيما بعد بزمن قصير، بزيارتها بشكل فردي بغية الاطلاع على ما في مكتباتها التجارية والخاصة، من كتب بالعربية كان يتحرّق شوقًا إليها. ومن خلال هذه الزيارات الفردية، تعرّف على الكثيرين من الشعراء والكتّاب، يذكر منهم الشعراء جمال قعوار مدّ الله في عمره، وميشيل حداد وعيسى لوباني وتوفيق زياد رحمهم الله. ويخص زيّاد بالكثير من الحديث منذ ان تعرّف عليه، حتى موته الفاجع في التسعينيات. ثم يتحدث عن زيارته الأولى إلى مدينة حيفا، تلك المدينة التي يعيش فيها الشعبان. وتشاء الصدف أن يدخل وادي النسناس حيث واجهته ملصقات أثلجت صدره كالملصق "صوت قاف ولا تخاف"، و"قاف" هو حرف الحزب الشيوعي الاسرائيلي قبل انشقاق المجموعة التي كشفت عن ميولها الصهيونية منه. وفرحه من هذا الملصق نابع من كونه جاء من بلاد تمنع اليسار وتعدم الشيوعيين، حتى إنّ حمل صحيفة الحزب الشيوعي العراقي، القاعدة، أو توزيعها، كان محظورًا. وهنا في حيفا يرى أنّ كل شيء متاح، لذلك يفرح لدمقراطية دولته ويعجب بها في حينه. ولكنّه يقول إنّه "بعد ما زار بلاد الغرب ورأى الدمقراطية، هناك توقف عن هذا الإعجاب".
ويحدّثنا سوميخ عن مواجهته الأولى مع صحيفة "الاتحاد" في البلاد، التي كانت تصدر عن عصبة التحرر، والتي أعادت تشكيل الحزب الشيوعي الاسرائيلي بعد قيام الدولة، حين توحّدت مع الشيوعيين اليهود، في الحزب الشيوعي الفلسطيني. "الاتحاد"، التي كان يعرفها أيام وجوده في بغداد، والتي كانت تجذبه بسبب مواقفها ومبادئها، ها هو اليوم، موجود في مبناها في حيفا، في مبنى "الاتحاد"، يلتقي بالراحل إميل حبيبي، محرّر "الاتحاد" في حينه. ويحدّثنا سوميخ عن حرارة اللقاء، وعن إعجابه الكبير بشخصية إميل حبيبي، وعن تقديره لأدبه ولمبادئه ولكتاباته الأدبية والسياسية، ويصرّح بانّه كان يقف وراء اختيار إميل حبيبي لنيل "جائزة إسرائيل". من إميل حبيبي يتشرّب سوميخ تفاصيل المأساة الفلسطينية وخاصة مأساة اللاجئين، فينطلق ليزور القرى الفلسطينية حيث يتعرّف على سكانها وعلى أوضاعهم القاسية وعلى معاناتهم بسبب ما نالوه من السلطة التي صادرت أراضيهم وهدمت قراهم وحوّلتهم إلى لاجئين داخل وطنهم، وإلى أجيرين يعملون في أراضيهم التي كانوا أصحابها. الأمر يحزن سوميخ، فيعلن تضامنه معم.
ويصرّح سوميخ بجرأة بأنّه في تلك الفترة من حياته لم يكن مقتنعًا بالأفكار الشيوعية، وأنّ الحزب الشيوعي الإسرائيلي لم يكن مثله الأعلى، وإنّما كان "هشومير هتسعير" أي "مبام" بزعامة موشيه سنيه، وخاصة الجناح الذي أسّس الكيبوتسات. فقد رأى في جماعة هذه المنظمة أنّهم يؤمنون بالمساواة وبالاشتراكية. ولكنّه حين اكتشف أنّ عضوية هذا الحزب كانت مقصورة على اليهود فقط، بينما الحزب الشيوعي الاسرائيلي، كان حزبًا يهوديًّا عربيًّا، على حد سواء، في الكنيست، وفي الهستدروت، وفي كل شيء، مع قيادة مشتركة يهودية وعربية متنورة، كفيلنر وطوبي، ومع إعجابه الشديد بالاتحاد السوفييتي الذي قضى على الوحش النازي، وكذلك مع تقديره للحزب الشيوعي العراقي، الذي نظر إلى اليهودي في العراق كمواطن له كامل الحقوق، والذي عرف كيف يميّز بين اليهودي والصهيوني، "اليهود أخوتنا، الصهاينة أعداؤنا"، كل هذه العوامل جعلته في النهاية ينحاز للحزب الشيوعي ويصبح عضوًا فعالا فيه حتى أواخر الخمسينيّات من القرن الماضي. يقوم بكل ما كان يطلب منه، بدءًا من الاجتماعات التنظيمية ومرورًا بتوزيع الصحيفة "كول هعام" في مدينة بات يام، على خطورة ذلك، وانتهاء بالنشر والكتابة في صحف الحزب بالعبرية والعربية.
ثم يتطرق سوميخ بكل صدق وصراحة للهزات التي تعرّض لها الحزب الشيوعي وللجهود الكبيرة التي بذلت لرأب الصدع ولترميم ما تصدّع. تلك الهزّات التي نشأت إثر أحداث هنغاريا سنة 1956، التي أعلن زعيمها في حينه الحياد، فأجهض الاتحاد السوفييتي ثورته وأعدم. ثم إعلان مالينكوف في مؤتمر الحزب الشيوعي السوفييتي التاسع عشر عن الوضع المأساوي للزراعة في بلاده، الزراعة التي كان يرى فيها الشيوعيون عندنا أنّها مثالية. ثم ما أعلنه خروتشوف في المؤتمر العشرين عن قضية ستالين ونظامه السيء.
هذه الأمور زعزعت ثقة الكثيرين بالحزب الشيوعي، ثم الانقسام الذي حدث في الحزب إثر العدوان الثلاثي على مصر، إلخ... من هذه المشاكل التي أصابت مسيرة الحزب في البلاد. ولكن الضربة القاضية التي جعلته يجمّد عضويته في الحزب، ويكف عن المشاركة في نشاطاته كانت عام 1967، أي أيام الانقلاب التشيكي بزعامة دوبتشيك، ذلك الانقلاب الذي أجهض بانتشار الدبابات السوفييتية في براغ. هذا الحدث جعل سوميخ يبتعد عن الحززب لأنّ الدبابات، حسب قوله، قضت على حلم "الشيوعية الدمقراطية" التي كان يؤمن بها. ولكنّه مع ذلك يقرّر بأنّه لن يبتعد عن تأييد الاشتراكية العالمية، أو الشيوعية الانسانية الدمقراطية، لأنّه ينفر من مفاهيم الرأسمالية ولا يهضمها.
في فصل آخر شائق، بتحدّث سوميخ عنن إنشائه مع صديقه المقرب المرحوم دافيد صيمح منتدى الإبداع بالعربية في مدينة تل أبيب، ويشرح بإسهاب عن صيمح وعن مبادئه وانتقاداته لتعامل الدولة مع الأقلية العربية الفلسطينية في البلاد، ومع تراثها وأدبها وحضارتها. ويكر كيف انحازا سوية إلى "الاتحاد" و"الجديد"، لأنّهما عبّرتا عن وجهة نظرهما وذلك لأنّهما كانتا تنشران أدبًا ثوريًّا برؤية تقدمية، وكذلك مقالات تفضح سياسة الدولة تجاه العرب وتجاه المهاجرين الجدد من يهود البلاد العربية، كما ويقارن بينهما وبين صحيفة "اليوم" التي كانت تعبّر عن وجهة نظر السلطة في حينه، ويصفها بالصحيفة الهابطة دون المستوى. من خلال "الاتحاد" و"الجديد" يتعرّف سوميخ على العديد من الادباء والمثقفين العرب واليهود من الشيوعيين يذكر منهم بإعجاب وتقدير الراحلين: إميل توما، وجبرا نقولا، وصليبا خميس، وعصام العبّاسي، كما يذكر أيضًا شمعون بلاص وحنا أبوو حنا وسامي ميخائيل، مدّ الله في أعمارهم. وكذلك يتحدّث عن علاقة الود والتقدير مع الشاعر الراحل راشد حسين، رغم اختلاف وجهتي النظر السياسية بينهما.
ثم يتحدّث عن كيفية انتقال الأدباء اليهود الذين كتبوا بالعربية إلى الكتابة بالعبرية، بهدف- كما جاء في بيان سامي ميخائيل سنة 1954، والذي نشر في الجديد- "الواقعية والتزام الأدباء من المهاجرين الجدد بمعايشة قضايا الجماهير ليكونوا في الخط المركزي للحياة، كي يكتبوا أدبًا مخلصًا يتحدّى ويعرّي ويخدم شعبهم والشعوب الأخرى. إذ أنّ اللغة ليس مهمّة، المضمون هو المهم".
وقد أضاف سوميخ إلى البيان: "إنّ واجب هؤلاء الأدباء متابعة مجريات تطوّر الادب العبري والوقوف إلى جانب الأدب العربي في إسرائيل، وأهميّة الترجمة بينهما". وهذا الجانب- الترجمة- هو ما أخذه شخصيًّا على عاتقه. وفعلا كان له إسهام ضخم في هذا المجال، خاصة في ترجمة الأدب العربي إلى العبرية.
في الفصول اللاحقة يتحدّث سوميخ عن دراسته الأكاديمية حتى وصوله إلى درجة بروفيسور وإلى رئيس كرسي الأدب في جامعة تل أبيب. وعن المؤتمرات الأكاديمية التي حضرها وشارك فيها، ومن الشخصيات الأكاديمية التي تعرّف عليها خلال عمله والمؤتمرات ودراسته يذكر الباحث الأدبي الكبير محمد مصطفى بدوي من جامعة أكسفورد، والذي كان مرشده في رسالة الدكتوراة "الإيقاع المتغيّر في روايات نجيب محفوظ"، ويخصّه بفصل كامل. كما يخص أيضًا كلا من المستشرق جو بيتين المشهور، والباحث الكبير في اللهجات حاييم بلانك، بفصل كامل.
كما يتحدّث عن العلاقة الحميمة مع الشاعر الشيوعي الكبير ألكسندر بن، محرر صحيفة الحزب الشيوعي بالعبرية، "كول هعام"، ويخصّه هو الآخر بالكثير. ولا ينسى طبعًا الجامعة وعلاقاته بالمحاضرين، وكذلك طلابه الذين يظهر لهم في الكتاب أسمى آيات الحب والاحترام والافتخار بانجازاتهم العلمية والأكاديمية.
وفي الفصول الأخيرة من الكتاب/ السيرة، يتوقّف سوميخ عند الادباء العرب المصريين الذين درسهم ودرّس عنهم وبحث في أدبهم، خاصة توفيق الحكيم ويوسف إدريس ونجيب محفوظ، ويذكر رأي هؤلاء في أبحاثه رغم كونه يهوديًّا، فينقل لنا باعتزاز إعجاب يوسف إدريس مثلا بأبحاثه التي نشرها عن أدبه، والتي عبّر عنها بهذه الجملة: "أنت من أتّكل عليه في البحث في كتاباتي". وكذلك ينقل لنا علاقة الاحترام المتبادل بينه وبين نجيب محفوظ، حيث يقول: "لم نحسبه كماركسيين بطلا ثقافيًّا، ولك يكن كغوركي وبريخت وأراغون ونيرودا وناظم حكمت في رأينا. ولكن رأينا تغيّر بعد قراءته المعمّقة وبعد البحث في رواياته وقصصه". ومن المنصف أن نضيف أنّ بحث سوميخ المنشور بالانكليزية والصادر عن لايدن بعنوان "The Changing Rhythem" سنة 1973، كان الأول الذي عرّف العالم بنجيب محفوظ، والذي أسهم في رأيي في منحه جائزة نوبل للأدب عام 1988.
هل ينتهي الكتاب/ السيرة هنا؟ طبعًا لا، إنّما هذا غيض من فيض. وأنا سمحت لنفسي بأن أتخيّر الفصول التي ارتأيتها هامّة في ناحيتين: الأولى لأنها أسهمت في بلورة الحاضر وفي صقل شخصية المؤلف، والثانية لأنّ هذه الفصول مرتبطة بشكل كبير وحميمي بنا، أعني العرب الفلسطينيين في البلاد.
وما يجدر ذكره هنا أنّ سوميخ في كتابه/ سيرته، كان متواضعًا، فهو لم يتطرّق لأبحاثه المشهورة إلا لمامًا، وبأسمائها فقط، ولا يبرز نفسه كبطل، وإنّما هو يختبئ وراء الأحداث والشخصيات التي يقدّمها. هو ليس صانع أحداث جسام كما يقول، ولا هو سيّد تلك الاحداث، إنّما هو جزء من الصورة العامة ومن المشهد الحضاري/ الثقافي/ السياسي/ الأكاديمي والعلمي. والقارئ يستطيع أن يجلو شخصية سوميخ من خلال هذا النسيج الذي يحوكه أثناء سرده للوقائع والأحداث، ومن خلال علاقاته مع الآخرين.
وللكاتب، رغم هذا التواضع الشديد، أيحاث كثيرة رفعت من منزلة الأدب العربي عالميًّا، وقدّمته بالكثير من الفخر والاعتزاز والحب، كما أنّ له يدًا ناصعة البياض في خلق مناخ أدبي فكري عربي في البلاد، وذلك من خلال ما نشره وما قدّمه من محاضرات، وما قام به من ترجمات وإسهامات، والأهم من خلال ما درّسه من مادّة الادب العربي الحديث في الجامعة، هذا التدريس الذي يشف عن نظرة عشق لهذا الأدب، والذي فتح منهاجية جديدة تعتمد على النص أوّلا لفهم الأدب وتحليله وللوقوف على جماليّاته. وكذلك له دور كبير في خلق شريحة من الأكاديميين والباحثين والادباء العرب الشباب الذي تتلمذوا على يديه، ونهلوا من منابعه، والذين رعاهم وأحبّهم وأخلص لهم ودعمهم وصاروا مفخرته لأنّهم جميعهم تقريبًا يحتلّون اليوم مراكز هامّة في الجامعات والكليّات.
من كل ما تقدّم وتأسيسًا عليه، أرى أنّ الكتاب/ السيرة جدير بالقراءة وأنّه يستحق الترجمة إلى العربية لما فيه من فائدة علميّة أدبيّة، وتجربة حياتية غنيّة تقرّب وتجمّع وتؤلّف وتدعو للتعايش وللسلام بين الشعبين.
وعلى ما يبدو كان دافع سوميخ من كتابة هذه السيرة هو العمر الذي يجري بنا سريعًا، فتخوّفًا من النسيان يكتب سيرته على غناها، ويعايش الماضي الثري ليكون عظة لنا كما أنّ دافعه الآخر هو ترسيخ المبدأ الذي تبناه وسار على هديه، مبدأ التعايش والدمقراطية، وكذلك التمسك بعراقيّته تعبيرًا عن حبّه اشعبه وللأدب والتراث العربيّين.
تحية للبروفيسور ساسون سوميخ على انتاجه الجديد هذا مع تمنيّاتي له بدوام الصحة والعافية ومديد العمر، ودمت لنا أستاذنا نبعًا دافقًا من العطاء لا ينضب أبدًا، بل يرهق النضوب.
د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .