من أجل ثقافة إنسانية، تبحر في فضاءات وعوالم بنفسجية، لأجل الحقيقة هدف الفن والحياة.
صدر في برلين باللغتين العربية والألمانية الطبعة الثانية من رواية الشاعر والكاتب العراقي جميل حسين الساعدي " تركة لاعب الكريات الزجاجية Der Nachlass des Glasperlenspielers " وهي رواية ممتعة تعالج مشاكل الإنسان، وتشد القاريْ إليها بشكل جذاب، كما تثير مفرداتها المتنوعة الجوانب والأشكال الاهتمام والتساؤل.
ولد جميل الساعدي عام 1952 في مدينة بغداد، ونال شهادة الدبلوم في الإدارة من جامعة بغداد عام 1973 ـ بالإضافة إلى نشره الكثير من المقالات والقصائد في الصحافة العربية والأجنبية، فقد أصدر عدة مؤلفات في الشعر والرواية تٌرجم بعضها إلى لغات أخرى كالألمانية والإنكليزية والهولندية والنرويجية واليابانية والسويدية والبولونية وغيرها.
وتعود فكرة كتابة قصة "تركة لاعب الكريات الزجاجية" إلى الفترة التي كان يستعد فيها لكتابة أطروحة الماجستير في الأدب الألماني المعاصر، كان موضوع الأطروحة هو رواية الكاتب الألماني هرمن هسّه Hermann Hesse " لعبة الكريات الزجاجيةDas Glasperlenspiel " التي خلقت لديه أكثر من حافز للخروج بقصة تجتمع فيها الرموز والظواهر التي تشخص تلقائياً البعد الآخر الذي يبحث عنه كل من هسّه والساعدي، كل بطريقته، في روايتيهما اللتين تنسجمان كلياً، موضوعياً وفنياً، بمنأى عن المؤثرات التقليدية، خوفاً من ميل الثقافة والفكر نحو هاجس الأهواء الفئوية.
قرية المجانين في "تركة لاعب الكريات الزجاجية" هي النقيض المقابل لقرية اللاعبين في رواية هسّه، ومدينة س التي لم تكن مدينة معينة بذاتها وإنما هي النقيض لكاستاليا. أستخدمها الكاتب كرمز للدلالة على المدن (كتعبير مجازي) أيضاً تلك القوى البشرية التي تحاول أن توجد لها مساراً خاصاً بها خارج تلك المسارات القائمة على سياق طبقي يهرول وراء الامتيازات، ويفرض على الآخرين قبول الأمر الواقع ومن ثم الحصار، لأنها تنكرت لقواعد اللعبة المتوارثة على أساس المصالح.
في رواية هسّه يلتقي هواة اللعبة وأساتذتها في مكان يسمى "قرية اللاعبين" لممارسة طقوسها، أما في رواية الساعدي فإن المعارضين لقواعد اللعبة يلتقون كلاجئين في مكان يسمى " قرية المجانين ".
واللعبة هذه المرة ليست الكريات الزجاجية' بل مسـارات حركة الإنسـان ونمط تفكيره، الحركة المتعددة الأشكال والوجـوه، طبقاً لقواعـد امتهنتها كـل لعبة، البشر لا الكريات الزجاجية هم اللذين يستخدمون وهم الوسيلة لحل معادلاتها الحسابية ـ قرية المجانين لدى الساعدي هي تعبير عن الحياد الذي لا يمتلك القدرة للحفاظ على وضعه المنتصب طويلاً، فينحني لتعبر من فوقه المسارات إلى غاياتها الأخيرة.
أن الذي أسترعي اهتمامي بشكل كبير هو شخصية البطل "كنيشت"، الذي عبر من خلاله هسّه عن شخصيته الثلاثية، الأوربية أولاً والهندية ثانياً، والصينية أخيراً. فهو ليس حكيماً شرقياً مثل "سادهارتا ـ Sadharta "، وليس إنساناً قلقاً من الغرب مثل "هالي هاري ـ Halli Harry " بطل رواية " ذئب البوادي " ـ بل أن بطله أقرب أن يكون حكيماً أوربياً، يذكرنا ب " فاوست ـ Faust " بطل كوته. لم يحاول "هسّه" أن يمسخ شخصيته بشخصية أخرى. فهو بعيد كل البعد عن التحيّز الثقافي.. الثقافات يكمل بعضها البعض، والتكامل الإنساني لا يمر عبر ثقافة واحدة بل يمر عبر ثقافات عديدة. والجدير بالذكر أن صورة الفقاعة ترد كثيراً في شعر ونثر "هسّه" فهو كثيراً ما يستخدمها رمزاً للوجود الإنساني. ما أسرع أن تكتمل الفقاعة، وما أسرع أن تختفي. كذلك الساعدي استطاع بقدرته الإبداعية واستيعابه لثقافات متنوعة أن يطل بحكمة، يسلط كبت مدن وضيم شعب، كسحتهما السياسة وطمع المال والسلطة على مّر عصور دون أن تجد الفقاعة نهاية لها. باختصار شديد أستطيع أن أقول أن الجانب الإنساني وتقارب مشهد الأحداث، بين الأمس واليوم، كان السبب الرئيس الذي جعل المسافة بين الكاتبَين تضيق، وأن يذهب الساعدي في اختياره للرواية بشكل موفق.
يبارز الساعدي بأسلوبه وطريقته الإبداعية الجادة، أساليب المكر والخبث بذات الطريقة التي مارسها هسه في روايته ليبرر شرعية ووجود وحق الإنسان، داعياً لاحتكام العقل ومبادئ العدل والحقيقة كرد فعل لمواجهة وضع سوداوي يحاول أن يغيّر كل شيْ إلى رمز مجرد عن كل ارتباط فكري وعاطفي، يسميه الألماني فيلهلم ديلتي في وجود الفلسفة " الوصول إلى أكبر قدر من إمكانات التحدي".
ويعتبر الساعدي روايته تكملة لرواية الكاتب الألماني هسّه، حيث يقول أن التكملة الجديدة ليست تكملة حرفية لمضمون الرواية السابقة، فلكل من الروايتين محتواها الخاص بها. لكن هذا لا يعني انعدام الصلة بينهما.. فالعمل الروائي الجديد هو في الواقع محاولة لاستكمال العوالم المعنوية والفكرية للعمل الروائي السابق، رغم اختلاف الشخوص والأزمنة والأمكنة لكليهما ـ باستثناء شخصية واحدة من شخصيات هسّه ـ وهي شخصية " تيتو " تلميذ " كنيشت " أستاذ اللعبة، حيث أبقيت عليها واستخدمتها رمزاً للحيرة والقلق، الذي يرافق النفوس، التي تبحثُ عن الحقيقة، فهي تبرز كقوة فاعلة في محاولات الكشف عن ملابسات عملية انتحار، شاعت بين الآخرين كحادث موت طبيعي، وقد طرحتها في روايتي بملامح جديدة وأنطتُ بها مهمات، لم تكن لها في الرواية السابقة، وبدلاً من دورها الثانوي السابق، الذي يكاد لا يذكر، أصبح لها دورٌ بارز في مسارات النسيج الروائي الجديد.
لم ينصب اهتمام الساعدي على هذه الرواية فحسب، بل استأثرت معظم أعمال "هسّه" الأدبية باهتمامه.. لكن هذه الرواية لها وضع متميز بالنسبة له، قياساً إلى أعمال الكاتب الأخرى، فهي إلى كونها شهادة ناطقة على رحابة وخصب عوالم هسّه الثقافية، فهي تعبر في مضمونها عن موقف رفض للقوالب الإعلامية للصحافة وللقوالب السياسية للسلطات المتنفذة آنذاك في أوربا واليوم في عالمنا العربي. فكثيراً ما أنتقد هسّه صحافة عصره، التي كان يطلق عليها أسم "صحافة التسلية ". لقد شرع "هسّه" بكتابة روايته في الفترة الواقعة بين عام 1939 و 1942، وهي فترة عصيبة في تاريخ أوربا. فكانت نداء العقل في عصر خرسَ فيه العقل. لقد حاول هسّه أن يفهم التأريخ من خلال العودة المباشرة إلى الأصول، نائـيا بنفسه عن الفلسفات التاريخية المتأخرة، التي تجعل من الحقائق التاريخية أساساً لتحديد معنى التأريخ، فهو يدعو إلى ثقافة إنسانية تصنع التأريخ، تحتل الموسيقى فيها المقام الأعلى، فشخوص روايته يحاولون خلق لغة لا تعرف حدوداً إقليمية أو قومية، تعتمد على ربط الرياضيات بالصيغ الموسيقية، وتبتكر رموزاً لكل مجالات الثقافة. فالكلمتان: لعب وثقافة لهما نفس المعنى، ويضيف لهما بطل الرواية " كنيشت Knecht " مفهوماً آخر هو التأريخ. إن مفهوم اللعب يتخذ أهمية خاصة لدى "هسّه "، فهو يعبر بابتكاره للعبة الكريات الزجاجية عن الفلسفة الجمالية للشاعر الألماني " شيللر Schiller" الذي يرجع كل نشاط إنساني إلى شكل من أشكال اللعب، وبمقتضى هذه الفلسفة لا تستطيع الطبيعة البشرية أن تعبّر عن نفسها بشكل واضح وحقيقي إلا من خلال فعل شبيه باللعب كسرد عفوي تستقيه الطبيعة ذاتها.
في الصفحات الأولى، التي قدم فيها الساعدي روايته، أشار إلى الأسباب والبواعث، التي دفعته إلى تكملة رواية "هسّه". أن موت بطل الرواية "كنيشت" جاء مفاجئاً وغير متوقع، ولا ينسجم مع سير أحداث الرواية ككل. فليس هناك قرينة منطقية، يستطيع أن يسترشد بها القاريْ لكشف لغز موت البطل، وكما ذكر في المقدمة: أنه من خلال قراءاته المتكررة لرواية هسّه، اكتشف أن هناك إشارات وتلميحات إلى بعد آخر، لم يفلح هرمان هسّه من تثبيت ملامحه وهو يصوغ أحداث الرواية، لذا فقد ظل ّ مجهولاً تماماً من قبل القاريْ، ولا مرئياً بالنسبة للكاتب نفسه، ولو أنه كان يشعر بوجوده بطريقة أو أخرى. الرواية في نصها الجديد المنقح لها رموزها الخاصة بها، والتي تتعارض مع رموز رواية "هسّه" كلياً. فمدينة "س" هي النقيض المقابل ل " كاستاليا " و " قرية المجانين " هي النقيض المقابل ل "قرية اللاعبين". أما اللعبة الجديدة المناقضة ل " لعبة الكريات الزجاجية " فهي لعبة مسارات حركة الإنسان وتقاطعاتها في أشكالها المتعددة .
رواية الكاتب الألماني، رواية مستقبلية. بطلها " كنيشت " يعيش في القرن الثالث والعشرين، والمكان الذي تجري فيه حوادثها، ولاية منعزلة تدعى " كاستاليا " وتعني في الميثالوجيا اليونانية النبع المقدس في معبد " دلفي Delphi "، حيث يلتقي عنده الشعراء طلباً للإلهام. فالكلمة في أصلها رمز للنشوة الشعرية الصافية. أما في الفكر الألماني الحديث فقد أصبح للكلمة معنى آخر. فالشاعر الألماني "غوته Geothe " جعل من هذه الكلمة رمزاً لإقليمه التربوي، كما في روايته " سنوات تجوال فلهلم مايستر Wanderjahre ـ Wilhelm Meister " حيث يترك "فلهلم" أبنه يدخل الإقليم التربوي "كاستاليا" لغرض الحصول على تربية مثالية. أما عند "هسّه" فإن وظيفة الإقليم التربوي "كاستاليا" هو رعاية الفكر وتجديد الثقافة وانتشال تلاميذه من طاحونة العالم. فالتلميذ يتخلى في هذا الإقليم عن العنصر النسائي. فلا نساء ولا فنانون، ولا من حديث يسمع حول استمتاع بضوء أو لون أو رسم. ف "كاستاليا" يسودها نظام هرمي صارم، يعتمد التدرج في توزيع المسؤوليات، فهي دولة في دولة لا تحتكم لأي قانون.
لعب الشاعر في رواية الساعدي دوراً متميزاً، فقد كان له حضوره الدائم في معظم الأحداث، التي كانت تجري حوله، ليس فقط من خلال الشعر، وإنما بالمساهمة الفعلية في حياة المجتمع، الذي عاش فيه، وبالمشاركة الوجدانية للآخرين والوقوف معهم في محنتهم، وهو قبل هذا وذاك المرشد والعرّاف، الذي يدرك بقوة البصيرة ما لا يدركه الآخرون. فشخصية الشاعر "فلهلم" في الرواية تختلف عن شخصية "تيتو" الباحث عن الحقيقة، الذي يختتم دوره في نهاية الرواية، دون أن يبلغ شواطئ الحقيقة التي كرس حياته لها كما كرس "كلكامش" حياته لبلوغ الخلود. لقد كان الشاعر على علم ودراية بما ستؤول إليه الأحداث في "قرية المجانين" فأعلن كلمته صريحة! فدفع بذلك حياته ثمناً لها. لقد تنبأ باختراق حياد "قرية المجانين" الملجأ الأخير والوحيد، الذي يمكن أن تتنفس فيه الكلمة.
إن إعادة كتابة هذه الرواية في مرحلة جديدة على العراق، حيث تتواصل الويلات والنكبات، التي تذكر بما مرت به الشعوب الأوربية أثناء الحرب العالمية الثانية. في زمن انتهى فيه عهد وقلنا ستبدأ حياة جديدة يكون للإنسان كما للثقافة مكاناً متميزاً، يُرد الاعتبار لكليهما، لكن دوامة حروب من نوع آخر لا تزال قائمة في بلادنا، احتلال وتسلط ونهب وقتل وإرهاب وجوع.. في هذا العمل وجدت صدق الروح التي تحاول أن تحافظ على قيم الإنسان في حقبة عصيبة، إستفحلت فيها قوى الشر وألـّهت القوة. فمحنة المثقف العراقي في هذه الحقبة من الزمن لا تختلف كثيراً عن محنة المثقف الأوربي في عصر هسّه، الذي تمخض عن عمل أدبي ذي مغزى مثل رواية "لعبة الكريات الزجاجية" للكاتب والشاعر العراقي جميل حسين الساعدي.
عصام الياسري
واللعبة هذه المرة ليست الكريات الزجاجية' بل مسـارات حركة الإنسـان ونمط تفكيره، الحركة المتعددة الأشكال والوجـوه، طبقاً لقواعـد امتهنتها كـل لعبة، البشر لا الكريات الزجاجية هم اللذين يستخدمون وهم الوسيلة لحل معادلاتها الحسابية ـ قرية المجانين لدى الساعدي هي تعبير عن الحياد الذي لا يمتلك القدرة للحفاظ على وضعه المنتصب طويلاً، فينحني لتعبر من فوقه المسارات إلى غاياتها الأخيرة.
أن الذي أسترعي اهتمامي بشكل كبير هو شخصية البطل "كنيشت"، الذي عبر من خلاله هسّه عن شخصيته الثلاثية، الأوربية أولاً والهندية ثانياً، والصينية أخيراً. فهو ليس حكيماً شرقياً مثل "سادهارتا ـ Sadharta "، وليس إنساناً قلقاً من الغرب مثل "هالي هاري ـ Halli Harry " بطل رواية " ذئب البوادي " ـ بل أن بطله أقرب أن يكون حكيماً أوربياً، يذكرنا ب " فاوست ـ Faust " بطل كوته. لم يحاول "هسّه" أن يمسخ شخصيته بشخصية أخرى. فهو بعيد كل البعد عن التحيّز الثقافي.. الثقافات يكمل بعضها البعض، والتكامل الإنساني لا يمر عبر ثقافة واحدة بل يمر عبر ثقافات عديدة. والجدير بالذكر أن صورة الفقاعة ترد كثيراً في شعر ونثر "هسّه" فهو كثيراً ما يستخدمها رمزاً للوجود الإنساني. ما أسرع أن تكتمل الفقاعة، وما أسرع أن تختفي. كذلك الساعدي استطاع بقدرته الإبداعية واستيعابه لثقافات متنوعة أن يطل بحكمة، يسلط كبت مدن وضيم شعب، كسحتهما السياسة وطمع المال والسلطة على مّر عصور دون أن تجد الفقاعة نهاية لها. باختصار شديد أستطيع أن أقول أن الجانب الإنساني وتقارب مشهد الأحداث، بين الأمس واليوم، كان السبب الرئيس الذي جعل المسافة بين الكاتبَين تضيق، وأن يذهب الساعدي في اختياره للرواية بشكل موفق.
يبارز الساعدي بأسلوبه وطريقته الإبداعية الجادة، أساليب المكر والخبث بذات الطريقة التي مارسها هسه في روايته ليبرر شرعية ووجود وحق الإنسان، داعياً لاحتكام العقل ومبادئ العدل والحقيقة كرد فعل لمواجهة وضع سوداوي يحاول أن يغيّر كل شيْ إلى رمز مجرد عن كل ارتباط فكري وعاطفي، يسميه الألماني فيلهلم ديلتي في وجود الفلسفة " الوصول إلى أكبر قدر من إمكانات التحدي".
ويعتبر الساعدي روايته تكملة لرواية الكاتب الألماني هسّه، حيث يقول أن التكملة الجديدة ليست تكملة حرفية لمضمون الرواية السابقة، فلكل من الروايتين محتواها الخاص بها. لكن هذا لا يعني انعدام الصلة بينهما.. فالعمل الروائي الجديد هو في الواقع محاولة لاستكمال العوالم المعنوية والفكرية للعمل الروائي السابق، رغم اختلاف الشخوص والأزمنة والأمكنة لكليهما ـ باستثناء شخصية واحدة من شخصيات هسّه ـ وهي شخصية " تيتو " تلميذ " كنيشت " أستاذ اللعبة، حيث أبقيت عليها واستخدمتها رمزاً للحيرة والقلق، الذي يرافق النفوس، التي تبحثُ عن الحقيقة، فهي تبرز كقوة فاعلة في محاولات الكشف عن ملابسات عملية انتحار، شاعت بين الآخرين كحادث موت طبيعي، وقد طرحتها في روايتي بملامح جديدة وأنطتُ بها مهمات، لم تكن لها في الرواية السابقة، وبدلاً من دورها الثانوي السابق، الذي يكاد لا يذكر، أصبح لها دورٌ بارز في مسارات النسيج الروائي الجديد.
لم ينصب اهتمام الساعدي على هذه الرواية فحسب، بل استأثرت معظم أعمال "هسّه" الأدبية باهتمامه.. لكن هذه الرواية لها وضع متميز بالنسبة له، قياساً إلى أعمال الكاتب الأخرى، فهي إلى كونها شهادة ناطقة على رحابة وخصب عوالم هسّه الثقافية، فهي تعبر في مضمونها عن موقف رفض للقوالب الإعلامية للصحافة وللقوالب السياسية للسلطات المتنفذة آنذاك في أوربا واليوم في عالمنا العربي. فكثيراً ما أنتقد هسّه صحافة عصره، التي كان يطلق عليها أسم "صحافة التسلية ". لقد شرع "هسّه" بكتابة روايته في الفترة الواقعة بين عام 1939 و 1942، وهي فترة عصيبة في تاريخ أوربا. فكانت نداء العقل في عصر خرسَ فيه العقل. لقد حاول هسّه أن يفهم التأريخ من خلال العودة المباشرة إلى الأصول، نائـيا بنفسه عن الفلسفات التاريخية المتأخرة، التي تجعل من الحقائق التاريخية أساساً لتحديد معنى التأريخ، فهو يدعو إلى ثقافة إنسانية تصنع التأريخ، تحتل الموسيقى فيها المقام الأعلى، فشخوص روايته يحاولون خلق لغة لا تعرف حدوداً إقليمية أو قومية، تعتمد على ربط الرياضيات بالصيغ الموسيقية، وتبتكر رموزاً لكل مجالات الثقافة. فالكلمتان: لعب وثقافة لهما نفس المعنى، ويضيف لهما بطل الرواية " كنيشت Knecht " مفهوماً آخر هو التأريخ. إن مفهوم اللعب يتخذ أهمية خاصة لدى "هسّه "، فهو يعبر بابتكاره للعبة الكريات الزجاجية عن الفلسفة الجمالية للشاعر الألماني " شيللر Schiller" الذي يرجع كل نشاط إنساني إلى شكل من أشكال اللعب، وبمقتضى هذه الفلسفة لا تستطيع الطبيعة البشرية أن تعبّر عن نفسها بشكل واضح وحقيقي إلا من خلال فعل شبيه باللعب كسرد عفوي تستقيه الطبيعة ذاتها.
في الصفحات الأولى، التي قدم فيها الساعدي روايته، أشار إلى الأسباب والبواعث، التي دفعته إلى تكملة رواية "هسّه". أن موت بطل الرواية "كنيشت" جاء مفاجئاً وغير متوقع، ولا ينسجم مع سير أحداث الرواية ككل. فليس هناك قرينة منطقية، يستطيع أن يسترشد بها القاريْ لكشف لغز موت البطل، وكما ذكر في المقدمة: أنه من خلال قراءاته المتكررة لرواية هسّه، اكتشف أن هناك إشارات وتلميحات إلى بعد آخر، لم يفلح هرمان هسّه من تثبيت ملامحه وهو يصوغ أحداث الرواية، لذا فقد ظل ّ مجهولاً تماماً من قبل القاريْ، ولا مرئياً بالنسبة للكاتب نفسه، ولو أنه كان يشعر بوجوده بطريقة أو أخرى. الرواية في نصها الجديد المنقح لها رموزها الخاصة بها، والتي تتعارض مع رموز رواية "هسّه" كلياً. فمدينة "س" هي النقيض المقابل ل " كاستاليا " و " قرية المجانين " هي النقيض المقابل ل "قرية اللاعبين". أما اللعبة الجديدة المناقضة ل " لعبة الكريات الزجاجية " فهي لعبة مسارات حركة الإنسان وتقاطعاتها في أشكالها المتعددة .
رواية الكاتب الألماني، رواية مستقبلية. بطلها " كنيشت " يعيش في القرن الثالث والعشرين، والمكان الذي تجري فيه حوادثها، ولاية منعزلة تدعى " كاستاليا " وتعني في الميثالوجيا اليونانية النبع المقدس في معبد " دلفي Delphi "، حيث يلتقي عنده الشعراء طلباً للإلهام. فالكلمة في أصلها رمز للنشوة الشعرية الصافية. أما في الفكر الألماني الحديث فقد أصبح للكلمة معنى آخر. فالشاعر الألماني "غوته Geothe " جعل من هذه الكلمة رمزاً لإقليمه التربوي، كما في روايته " سنوات تجوال فلهلم مايستر Wanderjahre ـ Wilhelm Meister " حيث يترك "فلهلم" أبنه يدخل الإقليم التربوي "كاستاليا" لغرض الحصول على تربية مثالية. أما عند "هسّه" فإن وظيفة الإقليم التربوي "كاستاليا" هو رعاية الفكر وتجديد الثقافة وانتشال تلاميذه من طاحونة العالم. فالتلميذ يتخلى في هذا الإقليم عن العنصر النسائي. فلا نساء ولا فنانون، ولا من حديث يسمع حول استمتاع بضوء أو لون أو رسم. ف "كاستاليا" يسودها نظام هرمي صارم، يعتمد التدرج في توزيع المسؤوليات، فهي دولة في دولة لا تحتكم لأي قانون.
لعب الشاعر في رواية الساعدي دوراً متميزاً، فقد كان له حضوره الدائم في معظم الأحداث، التي كانت تجري حوله، ليس فقط من خلال الشعر، وإنما بالمساهمة الفعلية في حياة المجتمع، الذي عاش فيه، وبالمشاركة الوجدانية للآخرين والوقوف معهم في محنتهم، وهو قبل هذا وذاك المرشد والعرّاف، الذي يدرك بقوة البصيرة ما لا يدركه الآخرون. فشخصية الشاعر "فلهلم" في الرواية تختلف عن شخصية "تيتو" الباحث عن الحقيقة، الذي يختتم دوره في نهاية الرواية، دون أن يبلغ شواطئ الحقيقة التي كرس حياته لها كما كرس "كلكامش" حياته لبلوغ الخلود. لقد كان الشاعر على علم ودراية بما ستؤول إليه الأحداث في "قرية المجانين" فأعلن كلمته صريحة! فدفع بذلك حياته ثمناً لها. لقد تنبأ باختراق حياد "قرية المجانين" الملجأ الأخير والوحيد، الذي يمكن أن تتنفس فيه الكلمة.
إن إعادة كتابة هذه الرواية في مرحلة جديدة على العراق، حيث تتواصل الويلات والنكبات، التي تذكر بما مرت به الشعوب الأوربية أثناء الحرب العالمية الثانية. في زمن انتهى فيه عهد وقلنا ستبدأ حياة جديدة يكون للإنسان كما للثقافة مكاناً متميزاً، يُرد الاعتبار لكليهما، لكن دوامة حروب من نوع آخر لا تزال قائمة في بلادنا، احتلال وتسلط ونهب وقتل وإرهاب وجوع.. في هذا العمل وجدت صدق الروح التي تحاول أن تحافظ على قيم الإنسان في حقبة عصيبة، إستفحلت فيها قوى الشر وألـّهت القوة. فمحنة المثقف العراقي في هذه الحقبة من الزمن لا تختلف كثيراً عن محنة المثقف الأوربي في عصر هسّه، الذي تمخض عن عمل أدبي ذي مغزى مثل رواية "لعبة الكريات الزجاجية" للكاتب والشاعر العراقي جميل حسين الساعدي.
عصام الياسري