بنية الرمز الشعري عند ممدوح عدوان - د.امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasse.orgلقد ارتبطت مسألة استلهام الشعراء المعاصرين للتراث والأسطورة والرمز بقضية الحداثة الشعرية، وقد كان للشاعر "ت ـ س ـ اليوت" أثر بالغ على كثير من الشعراء الرواد، ذلك أن مجموعة كبيرة قد التفتت إلى الرموز والأساطير اليونانية والرومانية إضافة إلى الأساطير الفينيقية القديمة، معتبرة أن الانتماء إلى التراث العالمي هو واجب من واجبات الشاعر.
ومن بين هذه المجموعة من الشعراء برزت أسماء: السياب وأدونيس وأنسي الحاج والصايغ ويوسف الخال... وغيرهم ممن تركوا بصماتهم على أجيال كاملة من الشعراء على امتداد الوطن العربي. وبذلك يكونوا قد طرحوا إشكالية مرتبطة أساسا بنظرتهم إلى ينابيع التراث الشعري ورموزه وأساطيره، وهي إشكالية طرحت العديد من المصاعب للأجيال اللاحقة من الشعراء العرب، وتتمثل في كيفية التوفيق بين صياغات مختلفة حول مفهوم التراث الثقافي للشعراء العرب المعاصرين.
ذلك أن مفهوم التراث يتصل بالإنجاز الثقافي العام للحضارة العربية التي تشكلت من حضارات متعددة بالغة الثراء والخصوبة والتنوع والخطورة، إنها تمتد من المحيط إلى الخليج لتشمل الحضارات: السومرية والفينيقية والفرعونية والعربية، ولتتضمن كذلك الديانات الوثنية واليهودية والمسيحية والإسلامية.
وقد ارتدى الحوار مع هذا التراث الزاخر بالتعدد والاختلاف طابعا إقليميا على يد مجموعة من الشعراء: كأدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج، حيث اقتصر حوارهم الثقافي والتراثي على الأساطير والرموز الفينيقية، مثل: الفنيق وعشتار وتموز... إلخ، إلى جانب الرموز المسيحية المتصلة بالمسيح والصلب والبعث والقربان ومريم...، بالإضافة إلى توظيف الرموز والأساطير اليونانية والرومانية مثل: سيزيف وأوديب وأوليس... وغيرها. هذا في الوقت الذي ارتأى غيرهم من الشعراء ـ وخاصة المصريين منهم ـ بعث الرموز والأساطير الفرعونية ك: إيزيس واوزيريس.. وغيرها من الرموز.
وبقدر ما تظل مجموعة هذه الرموز الدينية والأسطورية ـ سواء منها الغربية أو المحلية الضاربة في القدم ـ جزءا مهما من التراث الإنساني على مر العصور وفي مختلف الأمكنة، بقدر ما كان حوار الشاعر العربي معها ـ وحدها والعزوف عن غيـرها ـ يكشف في أحد جوانبه تصلبا في الرؤية، وانحيازا في الموقف قد جر الكثير من الوبال على حركة الشعر العربي المعاصر، كانت في غنى عنه ـ؛ ذلك أن هذه الرموز ـ مهما اعتبرناها انفتاحا روحيا وذهنيا على التجربة الإنسانية ـ إلا أنه لا يجوز أن تكون بديلا لشعرائنا عن تأسيس الحوار التراثي مع الرموز العربية والإسلامية المتجذرة في وجدان الشعوب العربية.
وقد اختلف شعراء الستينيات في سورية حول مواقفهم من استلهام الرموز والأساطير التراثية عامة.
فقد ذهب فريق منهم مذهب أنصار مجلة "شعر" في تمجيد رموز الإغريق وأساطيرهم، معتبرين أن الشعر معرض لمعلومات الشاعر ومعرفته لرموز: بروميثيوس ـ سيزيف ـ أوليس ـ أوديب ـ انتجونا أورفيوس.. وغيرها. في حين تحتل الرموز المسيحية الدرجة الثانية ـ عند هذا الفريق ـ نظرا لالتقاء معظمها بالرموز الأسطورية اليونانية.
في حين نرى لدى الفريق الثاني، موقفا معاديا للتراث العربي الإسلامي، وهذا ما جعلهم يركزون على الجوانب السلبية في توظيفهم لهذه الرموز، إذ لم يكن شعراء هذا الفريق يرون فيها سوى مظهرا من مظاهر التخلف الفكري، والانحطاط الحضاري والاجتماعي.
وفي هذا يقول د. أحمد بسام ساعي: "... فموقف الشاعر السوري الحديث ـ على الأغلب ـ هو موقف معاد للتراث، كثيرا ما نجده منصرفا إلى تحطيمه قي قصائده بشتى السبل. وهذا التحطيم يؤدي إلى استعمال الرموز التراثية العربية استعمالا سلبيا، يحطم من خلاله ما يمكن أن تحمله تلك الرموز من معان مثالية".(1)
ولذلك نصبت مجموعة من الشعراء نفسها لتحطيم بعض الرموز الإسلامية أو العربية البارزة في التاريخ سواء بمواقفها الاجتماعية والسياسية، أو بشجاعتها الناذرة، وهذا ما فعله الشعراء مع: عثمان ـ الحجاج ـ هارون الرشيد ـ على سبيل المثال ـ.
وحين تعن لهم العودة إلى رموز القرآن الكريم، ـ يختارون منها ـ في الأغلب الأعم ـ الرموز المتصلة بالدين المسيحي.
أما إذا أرادوا الخروج عن دائرة هذه الرموز المسيحية، فإنهم يختارون منها ما يتصل بالديانات أو الدعوات السابقة للدين الإسلامي كقصص: نوح والطوفان، وإسماعيل ويعقوب والأسباط وموسى والعصا والخدر... إلخ.
ولعل ما يفسر هذه الظاهرة ـ لدى هذا الفريق الثاني من الشعراء ـ هو سعيهم وراء تحقيق مناخ درامي في ثنايا قصائدهم عبر البحث- على حد قول أحمد بسام ساعي- عن الرموز التي عاشت في عصر الأساطير أو الرموز التي رافقتها خوارق عرفت في عصر المعجزات، في حين أن الإسلام دين واقعي خلا من العنصر الأسطوري وأنهى عصر المعجزات.
في حين نجد فريقا ثالثا من شعراء هذا الجيل، سيتخذون موقفا مغايرا ينم عن مدى تعاطف هؤلاء الشعراء مع مجموعة هائلة من الرموز العربية والإسلامية، ومدى إيمانهم بضرورة بعث هذه الرموز من جديد، وتوظيف مواقفها الإيجابية في حياتنا المعاصرة.
وهذه المجموعة الثالثة من الشعراء هم أغلبهم شعراء قوميون حرصوا على الغوص في التراث العربي والإسلامي، والبحث عن رموز بإمكانها أن تكون صلتها بما نعيشه في حياتنا المعاصرة قريبة جدا.
ومن بين أبرز هؤلاء الشعراء، نجد ممدوح عدوان ـ الذي استطاع بنقائه القومي يقول أحمد بسام ساعي ـ "أن يمنح كثيرا من الشخصيات العربية القديمة أبعادا إيجابية ومفهومات حية جديدة، مسقطا بعضها على حاضرنا، ومخترقا ببعضها حجب التاريخ ليكشف عن جوانب جديدة فيها." (2)
ولقد حرص ممدوح عدوان ـ أكثر من شعراء جيله ـ على بعث رموز تراثية عربية وإسلامية، مستوحيا منها مجموعة من المواقف والآراء التي تنطبق على واقع المجتمع العربي ـ عامة ـ والمجتمع السوري في العصر الحديث.
واستلهامه لهذا التراث الساكن في أعماق الإنسان العربي المسلم ـ عنده ـ لم يأت استجابة لضرورات فنية تمليها عليه الصياغة الفنية للقصيدة، وتشكيل فضاء درامي فقط، ولكنه ـ بالإضافة إلى ذلك كما سنرى ـ يقوم بوظائف أخرى يمكن إجمالها فيما يلي:
1 ـ تربية الوجدان القومي، وصقل هوية الانتماء إلى الأمة العربية:
إن إثارة اهتمام الناس بالتراث الساكن في أعماقهم، هو وظيفة من وظائف الفن الذي يسعى إلى توسيع دائرة الوعي والانتماء.
واستلهمام التراث العربي وإبرازه هو جزء من معركة ممدوح عدوان وكفاحه من أجل خلق أمة عربية ناهضة وموحدة.
وهو بإحيائه أو بعثه لرموز التراث العربي إنما يعبر عن ضمير أمته، وعن أنبل ما فيها من قيم، وأعرق ما في ماضيها من تقاليد وأعراف.
وتحتل مجموعة من رموز التراث العربي أهمية بالغة عند ممدوح عدوان، وهذه نماذج منها:
يقول في قصيدة: "يوميات الحطيئة" (3)
1- الحكمة :     حين يضيع الخبز بين الله والناس
        وحينما تنقر في القلب مناقير الصغار
        وتشتكي من جوعها القاسي
        تخاف أن تلقي بك الأيام والطوى
        من كف نخاس لنخاس
2- الكلمة:     يا سيدي
        لما مدحت الزبرقان
        كنت أبيع كلمتي بلقمة الزؤان
        لما هجوته
        كنت أبيعها بلقمتي زؤان
        وحينما زقا الصغار
        سقطت في المرآة
        باغتني كالبرق وجه الله.
إنه في هذه القصيدة يكشف للقارئ عن الوجه الآخر لهذا الشاعر، إنه يبحث عن عناصر مأساة الحطيئة بعمق، فيلتفت إلى الوضع المعيشي الذي يحياه هذا الإنسان المعيل، وهو وضع يمكن أن يصادفه كل صاحب كلمة في عصرنا الحاضر منع من لقمة العيش.
بالإضافة إلى أن ممدوح عدوان يستوحي في هذين المقطعين الشعريين الحالة الاجتماعية للحطيئة ـ كما صورها هو في قصائده ـ ويسقطها على حالته في الستينيات.
ويستوحي الشاعر في المقطع التالي فلسفة الشاعر العربي: أبي العلا المعري كما تجلت في قصيدته: "تعب كلها الحياة" حيث يقول في قصيدة: "الحرب تزهر أطفالا"(4).
خفف الوطء
        فهذي الأرض أجساد ضحايا
        ولدت عارية عاجلة
            عاشت بعري وعجل
        أسرعت للموت لم تلبس كفن
        نحن ربينا على أجداثنا زغبا عراة
            ونمونا رغـم إمـلاق الزمـن
حيثما سرت اتئد
واخلع النعل
        فهذا معبد الموت
            وها نحن القرابين الجديدة.
إن استلهام فلسفة أبي العلاء تتجسد هنا من خلال توحد الشاعر بهموم الفقراء والجياع، ومدى فظاعة الاستغلال الذي مورس عليهم وأسرع بهم نحو الموت. لذلك، فهو يضم صوته إلى صوت أبي العلاء المعري في دعوته إلى احترام هذه الجثث الراقدة تحت التراب، وذلك بخلع النعل والمشي بتؤدة.
وهو بذلك يعلن عن انتمائه الراسخ لجبهة الكادحين.
وفي نفس السياق، يوظف الشاعر رمز الصعاليك والخلعاء للدلالة على ما يعانيه الشاعر من مشاعر الإحباط:
 جاء نحوي التائهون عن البلاد
        الدامعون من البلاد
أتى الصعاليك الحفاة
وجاءني الخلعاء
صرت قبيلة موبوءة
نادمتهم،
        وشربت ذكراهم عند الأم التي وئدت. (5)
يستدعي الشاعر في هذا المقطع الشعري رمز "الصعاليك" ليجعله شاهدا على الزمن الفلسطيني، زمان اليتم والرماد، ويجعل من هؤلاء الصعاليك شاهدين على (جريمة ضياع فلسطين)، وما منادمته لهم إلا دلالة على ما يعيشه من غربة بعدما وئدت الأم/ فلسطين هنا.
ويستوحي الشاعر رمزا آخر من الرموز المتجذرة في الوجدان العربي، ويتعلق الأمر بالشاعرة العربية "الخنساء" المشهورة بقدرتها الفائقة على رثاء أخيها صخر، إذ يستلهم من رثائها هذا مجموعة من الصور التي يسقطها على رثاء الزمن العربي بعد هزيمة 67، وتبدو مهارة الشاعر فائقة هنا في خلق حوار فني بين مضمون قصيدة الخنساء، ومضمون قصيدة الشاعر المعنونة بـ: "روي عن الخنساء" (6)، حيث يقول في أحد مقاطعها:
يذكرني غروب الشمس بالقتلى
        بمن من ليلنا انطفأوا
وتجثم فوق أعيننا وحوش الليل
تأبى الشمس أن تأتي مع الريح
فيغرق في الظلام المر شيطان بنسيم
ويجهش حولنا فوج التماسيح
        يدوم بكاؤهم جيلا
        ولولا كثرة الباكين حولي
            ما تعرت نسوة للفاتحين ضحى
ولا اهترأت سيوف الجند في بيتي
ولا قتلت قبيلتنا ابنها صخرا
        ولا عشنا بلا شمس. (7)
إن طبيعة البنية الرثائية هنا تبدو مستلهمة من رثاء الخنساء لأخيها صخر، لكن الشاعر يربطها بواقع أمته السياسي، ويسحبها على كل مظاهرها الاجتماعية والوطنية، موظفا معاني: الظلام والغروب والبكاء للدلالة على ما خلفته الهزيمة في نفس الشاعر.
2 ـ تربية الوجدان الإسلامي وتعميق الانتماء لرموزه الثائرة على الفكر التقليدي:
ولممدوح عدوان مواقف إيجابية من بعض الشخصيات الإسلامية المعروفة بمواقفها ومبادئها، وهو ما يدفعه إلى توظيفها كرموز يمكنها أن تلعب دورا هاما في بلورة الإحساس بالانتماء إلى الإسلام لدى المتلقي.
إلا أن انتقاء الشاعر لهذه الرموز يكشف ـ للمتأمل مدى حرصه الشديد على اختيار شخصيات إسلامية كانت قد خرجت ـ في الأغلب الأعم ـ عن شعارات: الإمامة والخلافة أو السنة، وتمثل الاتجاه "اليساري"؛ وهذا ما يتجلى بوضوح في النماذج الشعرية التالية:
تبح حناجر النداب من ندم بعاشوراء
يهيم النهر كالمجنون، والتمساح يسكب فيه أدمعه
ويملأ جوفه المسعور بالحمأ
ولكن القتيل بكربلاء يموت وسط النهر من ظمأ
وآلاف الحناجر كل يوم تتخم الدنيا
تؤذن للصلاح والفلاح... ولا يمر الصوت في الصحراء
ينبه غافلا يقضي... ولا يدي
        بأن الفقر، أن الغدر في الملأ
وأن النار في الدهماء
ويأبى أن يمر الصوت في الصحراء
يودع جثة كانت أبا ذر
        لأن الصوت قد تمتصه الرمضاء.(8)
يستلهم الشاعر هنا شخصية: "الحسين" كرمز من رموز التراث الشيعي الزاخر بدلالات التضحية والفداء، وهذا الاستلهام يستدعي من الشاعر استحضار فترة معينة من التاريخ الإسلامي، ومقابلتها بمرارة الرثاء التي يعاني منها الوجود العربي بعد نكسة حزيران 1967، وكأنه يريد القول بأننا نعيش "كربلاء" جديدة، وأن "عاشوراء" لم تنته بمقتل الحسين الشهيد، وإنما هي ممتدة إلى عصرنا الحاضر.
والشاعر شغوف باستحضار "الحسين" كرمز للجو الجنائزي المهيمن على الشاعر:(9)
ها أنا بدم أتدثر:
        إن الدماء تدق النوافذ
        توقف زحف المشاة
بدأ الدم من جرح كف تجاهد للخبز
        تجني مجاعتها كل عام
بدأ الجرح من ماء نهر يفيض بوجه الحسين المضرج
وتدفق في النيل،
        والنيل يحمل وجه الشفيع المدجج.
كما يستحضر "كربلاء" في كثير من قصائده، كقوله في قصيدته: "الدوار" (10).
" حين فشلت أن أموت في رمال كربلاء
رجعت في قوافل البريد
بصقت في وجه يزيد
لكي يميتني بسجنه
لكنما جلاده العنيد
أصر أن يخون سيده
وأن أعود للحياة من جديد "
إن الشاعر في هذا المقطع لا يخفي تعاطفه مع شهداء الشيعة، في مقابل تنديده الصريح برمز الخلافة "يزيد بن معاوية".
ويحضر "علي بن أبي طالب" كرمز لمجموعة من القيم الإسلامية الإيجابية في كثير من القصائد عند ممدوح عدوان، في مقابل "عثمان بن عفان" الذي يوظفه عدوان كرمز سلبي.
ويقابل الشاعر ما بين هذين الرمزين في قصيدة له بعنوان: "خارجي قبل الأوان":(11)
أنا من جند علي
فارس لم يرهب الموت ولم يحفل بمغنم
معه في أحد قاتلت وحدي
وبكفي رددت السيف عن صدر النبي
وشهرت السيف لما عضني الجوع وآلم
باحثا عن جنة الله على الأرض بأبواب علي
ولكي أثأر من أجل أبي ذر
        أنا كنت على عثمان سيفا من حصار
ولكي لا يخلط القوم وينسوا
ما ترددت بأن أقطع رأس ابن العوام
رغم علمي أن من يقتله يغشى جهنم !
ولكي لا تكثر القمصان أضحى أقرب الناس إلي
أبعض الناس علي
وهو خلفي
حينما امتشق السيف ينادي:
" سيفك الدرب إلى الله.. تقدم"
                  أتقدم.
يبدو الشاعر في هذا المقطع الشعري شغوفا بفروسية علي ـ التي يستمد منها اعتزازه بحمل السيف ـ في مقابل معارضته لعثمان وأتباعه، وبذلك فهو يمنح أبعادا إيجابية لمواقف علي التاريخية، في حين يبدو عثمان رمزا لفساد الأوضاع السياسية.
وهذا ما يدفع الشاعر إلى تبني مبادئ "أبي ذر الغفاري" ـ كرمز للثورة على هذا الفساد ـ وعدم تردده في شهر سيفه على عثمان، "وقطع رأس الزبير بن العوام".
إن الشاعر هنا يستحضر مجموعة من المواقف التاريخية التي شهدها عصر الخلافة الراشدية، منددا بالرموز التي عاثت الفساد، وخرجت عن دائرة التعاليم الإسلامية.
وفي هذا السياق، يستحضر "معاوية" والصراع بينه وبين علي حول الخلافة:
وحينما انتهت حروبهم
وعقدت راياتنا للمنتصر
عاقبني علي من أجل الزبير
عاقبني لأجله معاوية
ثم دفعت بالزكاة للاثنين (12)
ويضيف قائلا في هذه القصيدة مشهرا بمعاوية:
من ترى أطفأ الوجه؟
نفي الفقير؟
....
أم معاوية المستعير كلام علي
ليسرق شيعته الغافلة (13)
والشاعر عنا ينتقد الوضع السياسي لعصره ـ الذي تميز بالانقسام ـ عبر نسخه للحظة التاريخية التي ظهر فيها هذا الانقسام جليا بين علي ومعاوية.
ويحرص الشاعر على استخدام التاريخ الإسلامي كوسيلة فنية لنقل أفكار معاصرة لمتلقيه. وهو إذ يسبر أغوار هذا التاريخ؛ إنما يقدم أفكارا ثورية تنم عن مدى إحساسه بالصدمة العنيفة التي تلقاها جيله في العصر الحديث، ولذلك فهو لا يتوانى في تعرية الأنظمة السياسية المسؤولة عن هذه الصدمة المروعة.
وتستوقف الشاعر حركة الردة وهو يستقرئ تاريخ أمته الإسلامي، فيلتفت إلى "مسيلمة الكذاب":
في زمن الردة والتوابين
ينتشر مسيلمة في كل مكان
يختلط الشاهد بالقاضي بالقاتل
والكل يخيطون القمصان
وعلى كل قميص جاؤوا بدم كذب
ليقال قميص عثمان (14)
إن زمن الردة إذن هو زمن الشاعر، ولذلك فإن مسيلمة يتراءى له في كل مكان وهو يحشد الأنصار يصافحهم:
حين تكالب حولي الحقد، تتالى اللطم على وجهي الممزق،
 امتلأت عيناي دما وأنا أرفض أن أركع، ثم ترنحت، مددت يدي
 أبحث عن لمسة حب تسندني.. من منكم مد يده؟
من منكم لم يتجنب وجهي في ساعات الشدة؟
من منكم لم يتقدم ليصافح كف مسيلمة
                في أول أيام الردة؟  (15)
لقد عادت أيام الردة من جديد، وأنصار مسيلمة يتكاثرون، في حين يتقاعس الناس عن تأييد علي بن أبي طالب:
يا أيها الرمح الذي لم تحن رأسه
        ولم تكسره ريح الغرب
يا أيها الرمح الذي عليه فارسي اتكأ
حتى يمر الركب
لا تشرب الدماء كلها
نخاف إن مضى أو انكفأ
إن نجمه هوى أو انطفأ
نخاف أن نضل عن دروبه
ففي دروبه سينبت الصدأ
والناس سوف يحجمون
خوف اشتداد الحر،
        أو خوف اشتداد القر
نخاف أن يبقى علينا مغلقا كالسر (16)
وفي هذا تلميح إلى الوضع الذي تعيشه فلسطين التي انفض الجميع عنها، وراح كل واحد يبحث عن مبرر لتقاعسه وخذلانه، تاركين إياها تناضل وحدها وتواجه مصيرها المشؤوم.
ويكشف ممدوح عدوان عن جوانب أخرى في التاريخ الإسلامي؛ موظفا بعض الأحداث التي شهدتها مسيرة هذا التاريخ المليء بالصراع بين قوى الخير والشر، وملتفتا بعناية إلى بعض الرموز المجسدة لهذه القوى، فتستوقفه شخصية " وحشي" ذلك العبد الذي قتل "حمزة" فيحلل دوافع وحشي لقتل سيده في قصيدة رائعة وهي "سقطة وحشي" من ديوانه "تلويحة الأيدي المتعبة" من الصفحة 45 ـ إلى ص: 55، حيث يقول في إحدى مقاطع هذه القصيدة:
أعدت إلي؟
        إني انهرت من وهني
ففيم بربك العجلة؟
أكنت تمر عبر مفاصل الزمن؟
أكنت تسيل كالوسن؟
أظنك دون غيرك،
        سوف تقتل سيد القتلة
....
هربت... لطأتُ في الأوكار،
        أغلقت الكوى وعفوت في المطر
فجئت إلي في الأحلام كالثكلى
غدا سأراك،
        حيث تبوح أعصابي بما خبأت
            لن أقوى على الكذب
ستشهد كلها:
            إني أغرت عليه أطعنه
            وإني حامل أجله
            وإني قلت: "دمت يا سيد الشهداء
                    إني سيد القتلة" (17)
ينفض الشاعر في هذه القصيدة غبار الأقوال التاريخية التي أحيطت بحياة" وحشي" ويقف بموضوعية على الدوافع التي أملت عليه اقتراف جريمته ـ دون أن يرغب في ارتكابها ـ، إنه يستجيب استجابة عمياء لرغبة سيده الذي وعده بالحرية. ولكنه بعد ارتكابه لهذه الجريمة وقتله لحمزة أصبح ملاحقا بذنبه، وهو غير قادر على تحمل هذا الشعور بالذنب.
ويتناول في قصيدة أخرى ـ من هذا الديوان ـ وهي: "واتكأ على رمحه" قصة البطل العربي: "ربيعة بن المكدم" الذي حمى قومه وهو ميت فوق فرسه، مستندا إلى رمحه القائم في الأرض، متخذا منه رمزا للفداء والتضحية:
يا أيها الرمح الذي لم تحن رأسه
        ولم تكسره ريح الغرب
يا أيها الرمح الذي عليه فارسي اتكأ
حتى يمر الركب
لا تشرب الدماء كلها
نخاف إن مضى أو انكفأ
إن نجمه هوى أو انطفأ
نخاف أن نضل عن دروبه
ففي دروبه سينبت الصدأ (18)
والقصيدة قيلت في رثاء "شي غيفارا" حيث يستمد الشاعر قيم البطولة والفروسية والتضحية من البطل العربي "ربيعة بن المكدم" ويسبغها على هذا المناضل الثائر الذي استشهد من أجل المبادئ التي  ناضل من أجلها.
ويحضر "طارق بن زياد" في ديوانه: "أقبل الزمن المستحيل" كرمز للبطولة والتضحية أيضا، حيث يحيطه بهالة من التقدير تنم عن مدى تعاطف الشاعر مع هذه الشخصية البارزة في تاريخ فتح المسلمين للأندلس، إذ يقول فيه:
....
كان جسر البيت، كان العين للدمع
            وشيطانا لرجم الأتقياء
دمية للطفل كان
فارس الأحلام للعذراء، ينبوع ملذات السكارى
لا تلوموه إذا مال وقد صار لكم متكأ
منذ أن جاء رأيناه مسيحا ويهوذا
ورأيناه سراجا
فهجمنا صوبه سرب فراش
واحترقنا فيه حتى انطفأ
            من أضرم النار في السفن؟
            من قال: إنا تائهون في المدن؟
فلتهجموا إلى المرافئ
ولتنقلوا المياه للشواطئ
ونحن قابعون في المخابئ
            ما تنفع البيارق (19)
والشاعر حريص على مقابلة حضور هذا الفارس المغوار في الماضي، بغيابه المهول في الزمن الحاضر، هذا الغياب الذي ترك جرحا عميقا في نفس الشاعر:
قد دفنا رؤى طارق بالهموم
كان سيفا كسرناه فوق الصخور
هذه لعنة جلبتها إلينا السموم
لا نرى غير هذه الصقور،
            التي منذ جئنا تدور
        لا ماء في البحار
        والنار في السفن
        تمتد للمدن
        وطارق كالحلم طار
        ولم تجئنا في غيابه المزن (20)
ويتم استلهام التراث الإسلامي عند ممدوح عدوان بعناية وبقدرة تحليلية فائقة. ولهذا نجد أن الشاعر لا يقتصر على إبراز رموز شخصية فقط، وإنما يستقرئ التاريخ الإسلامي وما زخر به من حركات ثورية كان لها فضل تصحيح مسار هذا التاريخ نحو تحقيق العدل والحرية.
وفي هذا الإطار؛ تستوقف الشاعر ثورة الزنج التي قادها: "علي بن محمد"، فيقول في قصيدة: الهروب من ثورة الزنج":
جاءنا ابن محمد ثم امتطانا
        وحين التقى بالأعادي استحلنا أسنة
(في انتظار الفوارس:
        تذوي بنات القبائل توقا
        وشبانها يحملون
في بطون المقابر ذلا تشقق دود المقابر
        والنسوة الظامئات
        وأشجارنا فقدت ما بها من غصون
في بطون المقابر ذلا تشقق دود المقابر
        والميتون
واستحال التراب لدينا عيون
في انتظار الذي يبدأ الخطو
        نحو النجاة
لم يكن عندنا غير هذا الجنون)
قال لي: تلك بغداد في الأفق
        شمس من الفقر ترجو الافولا ... (21)
ينجح الشاعر هنا في نقد وضعه الاجتماعي والسياسي من خلال تصويره لما أصبح يحكم هذا الوضع من تردي وخذلان. ولذلك فإن ممدوح عدوان يعمد إلى قلب كل القيم الإيجابية التي تحققت في الماضي، بقيم سلبية تحكم وضعه الراهن، فيقول في مقطع موالي من هذه القصيدة:
حينما اصطك جوعي بسيفي
        اكفهرت وجوه الأعادي
        غشاني البريق
عندها اندلع البرق حتى رأيت جذور المرارة
ورأيت بوجه علي تقاطيع حجاجهم
        وأنا من رأى عينه الخابية
ورأيت عليا ينادم جند الموفق خلف ستاره
وأمامي رأيت المدائن تهوي
        ولكن ببغداد بانت لنا كعبة
        فوق جرح ابنها حانيه
كان فيها جياع تهاووا بقصفي،
        ومثلي ذاقوا الهوان (22)
هكذا يصبح علي بن محمد ـ قائد ثورة الزنج ـ حجاجا، كما يصبح نديما للخليفة العباسي "الموفق" بعد أن تخلى عن مبادئه الثورية. لقد انقلب إذن من النقيض إلى النقيض، وهنا يركز الشاعر على الردة التي أصبحت تسم حياته المعاصرة وتجرفه إلى الهاوية:
لم أزل أبصر الروم والفرس والترك في القصر،
        والزنج في فقرهم يغرقون
والموفق لعبة حكم تمدد مسترخيا.
        خفقت عنه عبء الجياع بضحكتها جارية
والسيوف استحالت قسيا بلا أسهم
يضربون بها.. تلتوي.. ثم ترتد بين العيون(23)
وفي هذا دلالة واضحة على إصرار ممدوح عدوان على تنديده بالحكام العرب الذين يعقد لهم صلة بالدخلاء (الروم ـ الفرس ـ الترك) في السطر الشعري الأول، في الوقت الذي استعار فيه رمز "الزنج" "الغارقون في فقرهم" ليدل به على الفقراء والجياع والطبقة الكادحة بصفة عامة.
ولذلك يعلن الشاعر الثورة ـ من جديد كما أعلنها الزنج بقيادة علي بن محمد في عصر الموفق ـ على هؤلاء الذين يدعون "التقية" لستر جرائمهم التي لا تنتهي:
كيف أخبئ سيفي وجوعي معي؟
والطريق استحالت صحاري
ورمل الصحراء يشير ويتقن عني الوشاية
يتهرب جوعي، ولكن مسوح التقية لا تستر الشهوة العارمة. (24)
يتضح من هذه النماذج الشعرية التي استلهم فيها عدوان بعض الشخصيات الإسلامية، مدى توظيفه لها كرموز ثائرة على الفكر التقليدي، وعلى الفساد السياسي والاجتماعي، وحاملة لهموم التغيير، وهو بإحيائه لها وبعثها من جديد، إنما يريد أن يعمق هوية الانتماء لهذا التراث لدى المتلقي من جهة، ويبرز قدرتها على المساهمة في النهوض بهذا الواقع العربي المتردي في مرحلة حرجة شهد فيها انكسارات وأزمات لم تعرفها الذاكرة العربية على مدى تاريخها الطويل.
3 ـ التناص أو التضمين التراثي:
يرتبط استلهام الرموز التراثية عند ممدوح عدوان بذلك النوع من التناص الذي يهدف إلى تضمين بعض قصائده أقوالا تاريخية أو أبياتا شعرية.
والشاعر هنا لا يريد الاستعانة بقول مأثور أو بيت شعري فحسب، بل يسعى إلى أن يكشف فيه عن وجه معاصر، أو إفراغه من مضمونه الأصلي وشحنه بمضمون جديد.
والشاعر قد لا يقتصر هنا على تضمين بيت شعري واحد أو اثنين، وإنما قد يلجأ إلى تحوير مجموعة من الأبيات لشاعر واحد، أو القصيدة بأكملها.
إنه يريد ـ كما يقول شكري عياد: "أن يحضر بأوجز عبارة مضمون القصيدة السابقة أو روحها، لتكون عنصرا مكونا للتجربة الشعرية الجديدة. إنه باختصار يحكي الشاعر القديم، ويجري حوارا بينه وبينه." (25)
وفي هذا السياق، يقول ممدوح عدوان في قصيدة: "الطاووس" (26)
كذبت عليك لما قلت أن الخيل تعرفني
        ويعرفنني كذاك الليل والبيداء
وأن الناس، كل الناس،
        إن أضع العمامة يعرفوني
...
وإني إن أضع تلك العمامة
        أفتقد كالبدر في الظلماء
أنا كذبة خسرت جناحيها
        فلا نقص الذباب،
        ولا أضافت في عيون النادبين بكاء.
إن الشاعر لا يقتصر في هذا المقطع الشعري على محاورة المتنبي وحده بتضمينه لجزء من بيته المشهور:
 "فالخيل والليل والبيداء تعرفني     **      والحرب والضرب والقرطاس والقلم"
بل يحاور كذلك الحجاج بن يوسف الثقفي صاحب الخطبة البتراء:
" أنا ابن جـلا وطلاع الثـنايا    **     متـى أضع العـمامـة تـعرفـوني"
ويحاور أيضا قول أبي فراس الحمداني:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم       **       وفي الليلة الـظـلماء يـفتقد الـبدر
ويتضح من هذا التضمين أن عدوان يهدف إلى مقابلة الفروسية العربية المتحققة في الماضي على يد الشاعرين الفارسين: المتنبي وأبي فراس الحمداني، وعلى يد والي العراق الصلب: الحجاج، ـ مقابلة هذه الفروسية ـ بالذل والجبن والاستكانة الطاغية على الزمن الحاضر:
ركضت إليك كي أهليك كي لا تسألي الخيلا
لئلا تسمعي قول الذي شهد الوقيعة
        أنني قد خضتها طفلا
وأن غنيمتي كانت بها ذلا
ومعذرة
        أريدك أن تظلي الدهر جاهلة بما حلا
قفي.. ولتقبلي ذلي
        وفي أفيائه عيشي
لأني كنت طاووسا
        وقد عريت من ريشي (27)
إن الشاعر في هذا المقطع يستلهم مضمون معلقة عنترة الشهيرة، ولكنه يعيد صياغة مضمونها من جديد، حيث يقابل ما تحقق فيها من قيم إيجابية بمضمون مغاير لا يلتفت إلا لما هو سلبي، والشاعر يرمي بذلك إلى تعرية ذاته من كل هذه القيم الإيجابية التي تحققت في الزمن الماضي ـ من خلال رمز عنترة ـ والتركيز على الذل الذي أصبح يسم الزمن الحاضر.
والقصيدة هنا توازي بين أسطورة عنترة كرمز للشجاعة الناذرة والعفة والتضحية، وبين واقع الهزيمة ـ هزيمة العرب في حزيران 1967 ـ يتحول ذلك الزهو والاعتزاز ـ الذي وصفه الشاعر بالطاووس ـ إلى ذل ومسكنة ـ "وقد عريت من ريشي".



4 ـ الرمز الخاص:
يعتبر التراث الشعبي من أهم مصادر الشاعر ممدوح عدوان في اختيار رمزه الخاص، فهو يلجأ إلى الحكاية الشعبية أو إلى الأغنية الفولكلورية، أو إلى السير والأمثال الشعبية، يقتبس منها مقاطع أو عناوين أو أعلاما، مسقطا إياها على المعنى الذي يريد أن يخوض فيه.
ويعد ممدوح عدوان من أبرز الشعراء السوريين الذين استلهموا هذا التراث الشعبي وضمنوا شعرهم بعض ملامحه، وسأقتصر على نماذج قليلة للدلالة على ذلك، يقول في قصيدة: "الراعي الكذاب" (28)
قصة بين قرانا والسماء
يقطف الأطفال في الليل جناها
عن قطيع في الجبال البكر تاها
تزهر القصة خوفا
عندما تنتحب الوديان في ليل الشتاء
" كان.. يا ما كان.. "
        يطوي الموقد المقروء أسرار الحكاية.
إن عبارة "كان يا ما كان"  تثير في المتلقي إيقاعا فولكلوريا أليفا يوحي بعوالم الخوارق والسير والقصص الشعبية العربية القديمة.
ولكي تقوم هذه العبارة بهذه الوظيفة، يستحضر الشاعر بعض الجزئيات المساعدة كاقتران الحكاية بزمن محدد، وهو ليل الشتاء.
وتؤدي المرثاة الشعبية المضمنة في قصيدته "الطاووس" دورا مشابها، حيث يقول:
وإني قد خسرت غدي
            وشخت ولم أجاوز بعد عشريني
        خسرت ودون أن ألعب
" ونار مصيبتي بالجسم لدعت"
" ولو ينفع دعاي الله لدعيت"
" ولو يشفي بكاي الحزن
لدعيت"
" الإنس والجن يتباكوا سوى". (29)
إنها صورة شعبية لسيدات البادية تستشف من خلالها موسيقى حزينة وهن يتغنين بهذه المرثاة على إيقاع خطواتهن وهن متوجهات إلى نبع القرية الساكنة ليسقين الماء.
وأمثال هذه الصور الشعبية كثيرة في متن ممدوح عدوان، اقتصرت على هذين النموذجين فقط لإعطاء فكرة عامة عن كيفية تعامل الشاعر مع هذا التراث الشعبي.
5 ـ الرمز الطبيعي:
يقول د. أحمد بسام ساعي حول استلهام الشعراء السوريين لهذا الرمز: "يجد الشعراء في الرمز الطبيعي مسقطا يسقطون فيه الواقع على الطبيعة، فلا يقعون على الأغلب في غموض الرمز التراثي أو الخاص، من ناحية، ويتجنبون به التعبير التقديري أو المباشر من ناحية ثانية." (30)
وفيما يلي نموذج لاستلهام هذا الرمز الطبيعي عند ممدوح عدوان، حيث يقول في قصيدته" "اسكتشات عربية" (في المقطع السادس بعنوان: الصحراء):
كنا في الصحراء
ظمأى نبحث عن قطرة ماء
ننتظر الغيث فلا يأتي
        من أي سماء
كنا كوما لا نعرف
        إن كنا موتى أم أحياء
حين أتت طائرة الأعداء
قصفتنا
قصفتنا
قصفتنا
ألقت كل قنابلها
فتفجر نبع الماء.(31)
يوظف عدوان في هذا المقطع الشعري كلمة (الصحراء) كرمز طبيعي لجفاف الحياة العربية ولواقع الهزيمة المهيمن عليها. وللتطلع إلى النصر (الذي يرمز إليه هنا بالظمإ) يوظف ممدوح عدوان رمزا طبيعيا آخر، وهو (الماء) ليدل به على الحياة الجديدة المرتقبة بعد النكسة، ولذلك قرن هذا العنصر الطبيعي وهو الماء بكلمة (النبع) كدلالة على البعث من جديد.
ويكتسي الرمز الطبيعي أهمية قصوى عند ممدوح عدوان للتعبير عن مجموعة من الدلالات سبق أن وقفت عندها.
يتضح مما سبق أن ممدوح عدوان حرص ـ في تعامله مع الرمزـ على تأصيل عناصره، وذلك باستلهامه من التراث العربي والإسلامي، متخذا هذا الموقف من منطلق انتمائه الفني والفكري. ولذلك فإن عودته إلى الأصول العربية والإسلامية كان الباعث الرئيسي وراء توجهاته الشعرية؛ إذ استطاع أن يبتعد عن العالم الغريب لأساطير الإغريق واليونان، وأن يقترب من العالم المتأصل في وجدانه، وذلك عبر تركيزه على تربية الوجدان القومي وصقل هوية الانتماء إلى الأمة العربية من جهة، وتربية الوجدان الإسلامي وتعميق الانتماء لرموزه المشعة من جهة أخرى.
ومن هنا فإن الانتماء التراثي عند عدوان اتخذ أكثر من صورة، سواء بدا هذا في استلهام الرموز العربية والإسلامية، أو في استحضاره لبعض الحركات التي شهدها التاريخ الإسلامي، أو بمحاورته للتراث الشعبي العربي، أو بتضمينه التراثي... إلخ.
وعلى هذا النحو، استطاع ممدوح عدوان أن يساهم في تجديد البنية التراثية للرمز الشعري، وقد ارتبط هذا التجديد عنده بعاملين اثنين:
أ ـ التمرد على الرموز المعاصرة أو السابقة لجيله في مدرسة الشعر الحديث.
ب ـ مواكبة متغيرات الواقع الفكري والاجتماعي والسياسي الجديد الذي وجد نفسه محكوما به.


الهوامش:

1- د. أحمد بسام ساعي. مرجع مذكور. ص: 338.
2- د. أحمد بسام ساعي- مرجع مذكور. ص: 341.
3- من مجموعته الشعرية: "تلويحة الأيدي المتعبة" مصدر مذكور. ص: 56-57.
4- من مجموعته الشعرية: "يألفونك فانفر" مصدر مذكور. ص: 86.
5- قصيدة: هكذا تكلم التل" من مجموعته الشعرية: "أمي تطارد قاتلها"  مصدر مذكور. ص: 63.
6- من مجموعته الشعرية: "الظل الأخضر" مصدر مذكور. ص: 22-23.
7- قصيدة: "روي عن الخنساء" من  مجموعته: "الظل الأخضر" مصدر مذكور. ص: 19.
8- قصيدة: "الدماء تدق النوافذ" من مجموعته الشعرية بنفس العنوان. مصدر مذكور. ص: 7.
9- نفس المصدر. ص: 7.
10- من مجموعته الشعرية: "تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 161.
11- من ديوانه: "تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 67-68.
12-من قصيدته: "ثلاث قصائد صعبة" ـ تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 29-30.
13- نفس المصدر. ص: 38-39.
14-من قصيدة: " ثلاث قصائد صعبة" مجموعة: "تلويحة الأيدي المتعبة"ص : 25.
15- قصيدة: "وتمر المدينة برقا" من مجموعته الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل". ص: 38.
16- قصيدة: "واتكأ على رمحه" من مجموعته الشعرية "تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 35-36.
17- من مجموعته الشعرية: "تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 45-46.
18- من مجموعته الشعرية: "تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 35.
19- قصيدة: "أمة خلعت موتها" من مجموعته الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" ص: 64-65.
20- قصيدة: "أمة خلعت موتها" من مجموعته الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" ص: 57/58.
21- من مجموعته الشعرية: "الدماء تدق النوافذ" ص: 17-18.
22- من المجموعة الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" ص: 19-20.
23- من المجموعة الشعرية: "الدماء تدق النوافذ" ص: 26.
24- قصيدة: "أقبل الزمن المستحيل"من مجموعته الشعرية بنفس العنوان.ص: 23.
25- شكري عياد: "الأدب في عالم متغير". القاهرة. 1971. ص: 81.
26- من مجموعته الشعرية: "الظل الأخضر" ص: 47-48.
27- من نفس المصدر السابق. ص: 50-51.
28- من مجموعته الشعرية: "الظل الأخضر" ص: 118.
29- من مجموعته الشعرية: "الظل الأخضر" ص: 45-46.
30- د. أحمد بسام ساعي: "حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه" مرجع مذكور. ص: 369.
31- من مجموعته الشعرية: "تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 157-158.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟