الحرية بين الحلم و الوهم في نص – نسمة الحرية - للشاعر عمر الأزمي - حسن الرموتي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasseإن الاقتراب من نص نسمة الحرية لعمر الأزمي يتطلب استحضار العتاد النقدي و المعرفي ، لكون النص الحديث  ينطوي على مكونات ثقافية كثيرة ، منها ما هو ظاهر ، و منها ما هو مستتر ، تشكل في العمق الرؤية الشعرية  و تشكل اللغة عند عمر الأزمي عنصرا أساسيا ، و حجر الزاوية في تشكل هذه الرؤية ، لأن اللغة لديه تتيح له  البوح بمعاناة الذات و الآخر في تماهي عميق يصعب من خلاله الفصل بين الذات و الآخر ، لذلك أعتقد أن النص  لديه يشكل بنية من خلالها يمكن الكشف عن مكامن الإبداع ، و عناصر التأثير فيها ثم المعنى العميق الذي يعتمل في نفس المبدع .
و يشكل عنوان النص  في قصيدة– نسمة الحرية - الثقل الدلالي لما يقدمه من مفاتيح لقراءة النص وما يبوح به من دلالات تختزل مسافات المتن ، و تمنح المتلقي تصورات لأفق انتظارا ته ، هذا الأفق قد يكون نقيض ما تصوره المتلقي . و بالعودة إلى – العنوان – نسمة الحرية نجده يتكون من مركب إضافي من قبيل الإضافة المعنوية و التي تفيد التعريف .

الكلمة الأولى – نسمة جاءت مفردة تنتمي إلى المجال الطبيعي تحيل على الرقة و الليونة  و الجمال و العطر  عكس الريح ... و الكلمة المضاف إليه – الحرية - كلمة فلسفية لكن في معناها البسيط تحيل على الانطلاق و التحرر و الأعالي و السفر... هل هذا المعنى يشكل  الدلالة المحورية للنص عند عمر الأزمي ؟  هل نحن أمام نص ينفتح على الحياة و الأمل ؟

منذ البداية نصطدم برؤية مأساوية حزينة ، تبرز معاناة الذات في واقع تغيب فيه الحرية  و يحضر الظلم ، و يغيب الحلم المستقبل ... و تشكل الأفعال الماضية الدالة على الانقضاء  دلالة أساسية ( مرت ، مضت ، انقضت ، هوت ..) و هي أفعال تشترك في معنى واحد  وهو الغياب ، ثم يتضاعف هذا الجو الجنائزي الحزين يجعل عنوان النص عنوانا زائفا – ليس بالمعنى السلبي للكلمة -  لنتأمل هذه الأفعال (  كفكفت ، أجهشت ، بكت ، أنبرت ...) أفعال  ذات معنى واحد و هذا التنوع هو تجنب للتكرار الذي قد يفقد النص شاعريته ، أما الأسماء لا تختلف في سياقها الدلالي المباشر و الرمزي عن الأفعال (  دمعة  ، عبرة  ، رعشة  ، المظلوم ، الدياجي .. ) .

هكذا و منذ البداية نجد أنفسنا أمام انهزامية الذات و التي تعبر بعمق عن الرؤية للوجود  هذه الانهزامية تعبير عن أزمة واقع بكل تجلياته ، أزمة غياب الحرية تشترك فيها الذات  و الواقع معا :    يقول  :
      *  عبرة من المقلة نزلت

                                 دمعة من السماء انبرت

العبرة و الدمعة دليل بكاء و البكاء مقترن بالحزن و المعاناة ، العين و السماء تشتركان  في الفعل بسبب هذا الغياب ، لتصبح الحياة عبث ، و يصبح الضياع  جزءا من معاناة  الذات تسري في روح الشاعر و حتى عندما تشدو المليحة يتحول الشدو إلى ألم باستعمال الشاعر لأسلوب الندبة، وهو نداء المتفجع علية :

                        *   ثغر المليحة شدا  

                          يـا نسمتاه ، وا حريتاه ...

قد يبدو هذا الطابع الحزين للنص مشوب بالأمل، لكن نهاية النص تعكس غير ذلك...

يبدو هذا الأمل عند الشاعر في قوله :

                         *  لكن الأغنية لم تمت

                           بين أضلعي يحيا شدوها

                           و في نفسي البسمة سمت

 

لذلك نقول أن هذا الأمل هو زائف، كمن يطارد خيط دخان ،  أمل مستحيل التحقق يؤكده  معجم النص نفسه ، باعتباره بنية دلالية و شبكة من العلاقات اللفظية تجعلنا أمام هذا الجو الفجائعي . بل خاتمة النص تأتي واضحة لتعبر عن ذلك  :

                           *   لكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه

                              هكذا الأيام قدرت ،

                              هكذا الأقدار قضت .

ورغم هذه الخاتمة  - التي ربما كان يتوقعها – فإن ذلك لم يمنعه من ركوب شراع الأمل  للبحث  عنها ، الشراع وسيلة لخوض غمار المجهول و ركوب البحر .. هذا البحث لن يكون سهلا مما يزيد من معاناته ، فمنذ بداية بحثه تعترضه العراقيل ليصبح هدفه بعيدا – الأمل الزائف -  يقول

                             *    ابتلع العباب لواءاتي

                                ...........................

                                بيد أن سفينتي ازورت

                                و قهقهة الموج علت  ...

هكذا على الشاعر أن يواجه قدره ، بألوان من المعاناة في البحث عن ضالته ،و هذا في  العمق إدانة للواقع عندما يقف وجها لوجه أمام واقع مرير تساهم الطبيعة فيه ، يقول :

                            *   أخرست عقيرتها صوت الرعد

 

ثم تستمر المأساة من خلال لغة الحوار بين الشاعر و صيحة بسمة الحرية ، لتذكره  بكل ما كان يحس به ، ومن أجله ركب شراع البحث ، يقول  على لسان نسمة :

                    *    أنا صيحة بسمة النسمة إلي عتت

                     أنا جوهر الدفقة التي في قلبك سرت

                            أنا روح من نسمة الحرية التي

                            في سماء نفسك رفرفت ...

و يكشف الشاعر في جوابه ما سبق أن قلناه ، أن الحرية أو  بسمتها  هي مجرد وهم خيال ، حلم زائف ، يرتبط بالذكرى ، بالطفولة ، ماض نحن إليه ، لا يمكن أن نسترجعه ،  و يرتبط بحلم الكبر حين يهن العظم و يشتعل الرأس شيبا ، يقول  ::

                     *   إنها هي ... قطعا هي

                         مرام الطفولة و حلم الكبر

و حتى في حواره معها يستمر الألم و المعاناة و يدرك أنه يطارد شبحا مستحيل المنال

و يجد نفسه في موقع الخيبة و الهزيمة :

                              * قلت لها في انكسار

و العجز في امتلاكها يقول :

                         *    لكن ملكك أكبر مني

                             و كلمة عظمتك أوسع من شفتي 

رحلة الشاعر هي رحلة مناضل يبحث عن الحرية لكنه بحث محفوف بالخيبة و الحزن يتقابل  فيه الألم مع الأمل ، لكن ما فتئ الأمل يخبو و يتراجع لصالح عناصر من الطبيعة تحل محل  الشاعر / يقول

                                       *  لها البلابل يوما شدت

                                         و شوقا إليها حمامة المعري بكت

                                        و خجلا من خدها بريق الدر خفت

                                          و خوفا من صوتها رعيد البرق سكت

و حتى في حضور التناص في هذا المقطع ، فإن الشاعر يضفي صفة الحزن و البكاء على  حمامة المعري ، في حين أن  هذا الأخير تساءل هل هي تبكي أم تغني يقول المعري :

                       أبكت تلكم الحمامة أم غنت   // على فرع غصنها المياد

و يستمر الطابع التراجيدي في النص بحضور المكان ، أقصد بيروت ، لماذا بيروت ؟  قد يكون أي مكان أخر ، لكن بيروت رمز للصراع ، للحرب ، للمواجهة ، للمأساة ولا شك  أن عمر الأزمي يستحضر من هذا المنطلق  قراءته لكبار شعراء  لبنان مثل خليل حاوي ، يقول حاوي :    

                             *    نحن من بيروت ، مأساة ، ولدنا

                                  بوجوه و عقول مستعارة .

الطابع الحزين نجده يتجلى ليس فقط في صور النص و معجمه ، بل أحيانا حتى على مستوى   تكرار بعض الحروف و الدالة على الألم ، لنرى مثالا على ذلك ، حرف الحاء يتكرر هنا  بطريقة جلية يكاد يفقد المقطع شاعريته ، لكن في النهاية يضفي سمة الإحساس بالألم :

                      *  يا ريحا راحت الروح ، في روحاتها حيرانة

                        ويا بحرا أبحر الحبر في رحبه حبرا

ثم يحضر عنصر الموت ، ليس كنهاية للمأساة ، بل استمرارا لها ، في واقع انهارت فيه  القيم ، و كيان الفرد و انهيار المجتمع ، حيث الظلم و الاستغلال و التسلط ، و تشكل لفظة  الذئاب بؤرة مهمة لتصوير هذا الواقع يقول : 

                                         *    فأنا إذا مت صبابة

                                          و الذئاب فوق قبري عوت

وحتى في موته فالشاعر سيظل يأمل في تحقيق مبتغاه ، لذلك يتمنى أن يكتب على لحده :

                                       *   هذا الذي نسمة الحرية في قلبه  سرت
                                           و أعطته أغنية و بسمة ،.. ثم أنقضت
إلى أين يمضي الشاعر في النهاية ،  أين يبحث عن كنه الأغنية و البسمة ؟ يقول :

                              *    فمضى يبحث عن كنه الأغنية و البسمة عبر الأثير...

هكذا يظل البحث مفتوحا على آفاق واسعة ، لكنه بحث يتسم بالمرارة   و الحزن و اليأس  و الانتظار و الفشل و الهزيمة ، إنه وعي الشاعر بتناقضات مجتمعه ، ليعلن في الأخير   استسلامه للأيام و الأقدار                                

                             *   ليس كل ما يتمنى المرء يدركه ،
                                 هكذا الأيام قدرت  ،
                                هكذا الأقدار قضت .
و هو بذلك يستحضر البيت الشهير ،                     
           ليس كل ما يمنى المرء يدركه  ** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

عودة على بدأ

من خلال هذه المقاربة السريعة لنص عمر الأزمي يتضح أن عنوان القصيدة كعتبة من  عتبات النص – النص الملحق بتعبير جيرار جينيت – نسمة الحرية تبرز تلك المفارقة  بين العنوان و المضمون ، و المفارقة هنا ليس بالمعنى السلبي ولكن المقصود هو خيبة

أفق انتظار المتلقي في تمثله الأول للعنوان ، و ذلك لا ينقص مطلقا من قيمة النص ،  وحتى أعطي مثالا لذلك أذكر ديوان – أوراق الخريف لمحمد الحلوي و رواية ليلى ابو زيد – عام الفيل – فالقراءة الأولى للعنوانين لا تعكس متنهما ،  الأخ عمر شكرا  على هذا النص الذي يبرز رهافة الشاعر المبدع ، المكتوي بنار الكلمة  و الذي يتوق إلى الانطلاق و الحرية ، ليست حريته وحده ، بل حرية مجتمع أنهكه الظلم و التسلط و القهر، و الشاعر الحقيقي  هو الذي ينير الطريق و يكمل ما عجز عنه الآخرون ، و استحضر هنا البطل الأسطوري  اوليس عندما عاد من صراعه الطويل مع البحار الهيلينية  فقد جمع كل خُطاب زوجته المزعومين من التاجر و الحاكم و القائد... و قتلهم انتقاما لشرفه لكنه أبقى على الشاعر ، لأنه يستمد الحكمة من الآلهة ، حفظتك أيها الأخ آلهة الشعر و دمت مبدعا . 


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة