خصوصية الكتابة عند الرافعي – تحليل نموذج ـ البوعيادي محمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstrait-eteكثيرا ما يُنظر إلى فعل الكتابة عند مصطفى صادق الرافعي من منظور إيديولوجي يختزل الجمال وأناقة الأسلوب في الفكرة، أو العكس حيث تغيب الفكرة أمام غلبة بلاغة القول ورونقه، وذلك يعود إلى سبب كون الكاتب يمزج في أفق الفعل الكتابي بين صلابة الأسلوب وانسيابه وبين عمق الفكرة التي تمتح من مرجعيات ومشارب متعددة، أبرزها الديني و الفلسفي والأدبي، مع غلبة بيِّنة للنفس الإيماني الديني في الصور و الأحكام والآراء...
غير أن هذه الغلبة ما يجب أن تمنع كل شرائح القراء باختلاف مستوياتهم وباختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية والوجدانية والعقدية من التلذذ والاستمتاع بمستوى راق من النسج، تظهر فيه اللغة العربية في مظهر اللغة الماتعة الراقصة، إننا حين نواجه نصوص الرافعي يكون الأفضل لنا ( لأجل قراءة ألذ) أن نتخلى عن تلك الخطاطات الذهنية المُسبقة التي تصنف الكُتّاب (والكاتبات) ضمن خانات ضيقة، إما باعتبار الانتماء الديني أو السياسي أو الفكري الفلسفي...إلخ.

إذ ماذا يكون الأدب إذ لم يكن تعبيرا عميقا غائرا، مُحمّلا بثقل الذات و فداحة الواقع؟، ماذا يكون الأدب إن لم يكن ناتجا عن رؤية "رومانسية" للكون بأشيائه و موجوداته و قضاياه الملموسة والمجردة ( ليس بالضرورة رؤية انتمائية أو لتكن انتمائيــة حتى)؟. بل وما تكون خصوصية الأدب وجماليته بالنسبة لنا إن لم نستطع أن نلجه عُراة من كل أسمال الإيديولوجيا ( وليس الفكر) والقيم البالية وأن نجعل بيننا وبين النص علاقة تعشّقٍ تمتن ذلك الرابط المتخفي، ذلك الجسر اللامرئي الذي تُنسج مادته من أعصاب الكاتب ودمه ومن جوع القارئ وتعطّشه، إن أدبية اللغة تتحدد بخاصية الخرق، خرق التركيب العادي، المألوف، اليومي، الانزياح عن اللغة اليومية، لغة الاستهلاك، فهذه الأخيرة لا تنفذ إلى ما بعد حدود القصد المباشر، إذ إنها تقول الأشياء بهدوء وبساطة مقصودين، وهناك فائدتها، لكن اللغة الأدبية لغة رقص، إن أي أدب لا يحتفل بنفسه من خلال نفسه هو أدب "ساندوتشات" واستهلاك سريع، هو أدب الأفكار المُوجهة التي تقال كأي خطاب صحفي ممل، فالأدب – في نهاية المطاف – و بالرغم من دعوى الالتزام لا يمكنه أن يكون مملا، بل ليس مسموحا له أن يكون عجوزا مُستكينا إلى جدار الفكرة، إلا في حالة القصدية القصوى، حيث تكون شيخوخة اللغة مقترنة برؤية جمالية ما..
في لغة "النهضويين" العرب هناك احتفالية باللغة، عند بعضهم تجاوزت حالة احتفاء إلى حالة ابتزاز للمفردات و إيغال في البهرجة ( المنفلوطي)، لكنها لم تَحِد عن مصطبة الرقص الماتع وهي تستأنس بقلم كقلم مصطفى صادق الرافعي...
أحكامنا على الأسلوب ذاتية جدا، ذلك أن الأسلوب ذاتي أيضا، و هو لا يمكن أن يكون إلا ذاتيا (الأسلوب هو الرجل)،غير ذلك يكون حالة تشويه لشيء سابق، صورة منسوخة بلا ألوان عن رسم قديم، ولغة الرافعي لا تنكر أنها أخذت من مشارب قديمة، إذا ساءلناها عن مكونات نسيجها ستقول لنا: دانتي في كوميدياه الإلهية، المعري في رسالته..إلخ، كتابة الرافعي فسيفساء من تناصّات مُغرقة في الأثالة و التّرف البياني، وهي لا تسعى لإخفاء ذيّاك المُعطى و تقنيعه، بل تسفر عنه النقاب كاشفة عن حالة شيزوفرينيا وخصام مع الواقع اللغوي و الاجتماعي ( إرادة التحديث متناقضة مع السكون في اللغة القديمة)، حالة تميز خلقته من خلال جسر الماضي، وإن بدت لغة "رجعية" للبعض، فإنها تبدو لمن لا يختزل الأمر في تحقيب تاريخي مغشوش وسكولائي لغة لكل ذوق و كل زمن ....
كي لا يظل كلامنا عن الروعة و الرونق وخصوصية الإبداع عند الكاتب معلقا في الهواء، سنعمد إلى مقاربة نص من نصوص الرافعي، و هو نص "السجين" الذي جاء في مجموعة "السحاب الأحمر".{1} لأجل استجلاء بعض خصوصيات الكتابة عند الرجل، حيث نتغيّى من ذلك ملامسة خاصية الكتابة بشكل تقني و عملي أكثر...
تحليل النموذج:
يتموضع نص السجين باعتباره الفصل الثالث ضمن مجموعة السحاب الأحمر، مجموعة نثرية تستعصي على التجنيس الأدبي، وهي تابعة لنصوص "رسائل الأحزان" التي ضمنها الرافعي خلاصة تجربة حب فاشلة، لكن تلك التجربة لا تهمنا كثيرا فهي حالة من حالات ما قبل الإنجاز النّصي، قد تكون دافعا عميقا وقويا وقد تكون تسويغا تافها لنص رائع. غير أنه من المفيد أن نشير إلى أن ما قد يقودنا إليه التحليل لا يبتعد كثيرا عن خصوصيات باقي النصوص الثمانية الأخرى التي ضمتها دفات "السحاب الأحمر".إذ يسود نفس واحد و إيقاع متناغم جُماعَ النُّصوص.
يتحدث السارد عن سجين . يُقادُ إلى محكمة ، كالمارد قوي البنية، مغلول اليدين، شديد المزاج متعصب، حيث اجتمع الناس حوله في المحكمة والذل يكفنه ، وحيث وقفت أمه وأخواته وأبناؤه وزوجته محروقي القلوب أثناء محاكمته، يصف عمق المعاناة التي تتعرض لها العائلة الصغيرة جراء سجن صاحب أمرها، ويفجر المشهد برحيل عربات السجن و هي تقود السجين إلى مصيره بعد أن قتل روحا آدمية ، في حين بقيت العائلة محزونة عليه.
لكن الطّريف في هذا النص وإن بدى أنه يتوفر على حبكة ما هو كونه خارجا عن إطار التجنيس الأدبي المَعْروف، بمعنى أنه ينعتق عن خطاطة الأجناس الأدبية المعروفة على الاشتهار، ذلك أن أول إشكال يقابلنا في تناوله هو إشكال النوع، فلأي نوع أدبي ينتمي نص "السجين" - مع العلم أن المشكل يتمطط ليشمل باقي نصوص المجموعة التي تدور في نفس فلك النص المقصود - ؟
يقول ضابط الكتاب وواضع المقدمة:
" والحقيقة أن الرافعي يملك قدرة سردية فائقة، ولكن الذي أخرجها عن إطار النوع السردي هذه الإضافات والإطنابات التعبيرية التي حملت مضامين فلسفية أو رؤية فكرية، وأظن أنها لو صفيت من هذا التفصيل التعبيري والبلاغي أو لو قسمت قسمين، يستخلص في القسم الأول القصة القصيرة، ويفصل بالجزء التأملي والفلسفي المصاحب لأحداثها لكان لها جانبان لكل منهما خصوصيته"{1}.
إن نص السجين شبيه بقصة قصيرة من حيث كونُهُ يرصد لنا أحداثا متتالية وسريعة في زمن مكثف ، لكنه يخلط ذلك بكثير من التأمل الفلسفي، إذ نكاد نشعر بأن الأحداث ليست سوى مطية للتفلسف والتفكير في الوضع البشري. وهي مسألة يمكن أن تُلاحظ في باقي النصوص التي تحويها المجموعة، بل وتمتد هذه الخاصية إلى إنتاجات أخرى كثيرة، خصوصا "رسائل الأحزان" حيث يندرج كلا العملين ضمن ما يسمى "فلسفة الجمال والحب" عند الرافعي.
و يطرح هذا الازدواج والغموض في "انتماء النص" مشكلات في التحليل و إرساء القول حول كتابات الرافعي، بل والكتابات الأدبية ل"عصر النهضة" بدرجات متفاوتة، إذ بأي أدوات يستأنس المرء في التحليل، أدوات تحليل النص الحجاجي الفلسفي أم أدوات تحليل النصوص السردية التي أرساها النقد الأدبي عبر سيرورات ومراحل؟.
كإجراء عملي يأخذ بيدنا لتجاوز هذه العقبة سننظر إلى النص باعتباره نمطا هجينا بين السردي والتأملي، وهي ليست مجرد خطوة عملية هوجاء خاضعة للحدس، بل إن عمق النص وطبيعته يفرضان هكذا استراتيجية، ما يجعلنا ننظر إلى المُنجز النّصي من زاويتين:
1) زاوية تقنية بنيوية 2) زاوية موضوعاتية.
1) - تقنيا –
تركز الدراسة البنيوية للنصوص على مستويات معلومة ومضبوطة: الشخوص – بنية السرد – بنية الزمن – الأساليب.وسنحاول إضاءة بعض هذه الجوانب في نص "السجين" بشكل خاطف ومختصر، وذلك بغية وضع اليد على خصائص الكتابة عند الرافعي.

-الشخوص:-

يقول أرنولد بنيت: " إن قاعدة النثر الجيد هي رسم الخصوصيات وليس شيئا آخر" وهو ما يتحصل في نص "السجين" من خلال اللغة الواصفة، إذ لا نرى أن قراءة حضور الشخصية في ظل النموذج العاملي قد تضيف شيئا للنص، ذلك أنه نص فلسفي قبل أن يكون سردا، وقد أشار بروب إلى أن حضور الشخصية يتوزع داخل النص من خلال أوصافها، إذ لا تكون التسمية ( فلان) سوى مجموع وظائف الشخصية وأفعالها ومواصفاتها.
وفي هذا النص تحضر مجموعة من الشخصيات ( الوظائف و المواصفات)، بعضها "ثانوي" كالناس المتحلقين بالسجين والضحية وأخرى "رئيسة" ومهمة بدرجات{2}، وهنا نستحضر عائلة السجين وخصوصا الزوجة والأبناء، وطبعا أهم شخصية التي هي السجين ذاته.
1-السجين:
شخصية قوية جسديا، حيث وصفه النص بمجوعة من الأوصاف وفي عبارات : "كالمارد" \ "سبع من سباع القرى" \ "خلق في هيأة مستصعبة شديدة المراس" \ " رجل طوال" . لكنه من الناحية النفسية إنسان مخذول ونادم " ولا يجد النور إلا في الإقرار والندم فيسكن إليهما"{3}. هو شخص ساكن ومهزوم روحيا .بل إنه بتعبير السارد كالميت: " كان السجين كالميت" {4}.لأنه ارتكب جريمة ستؤدي به إلى السجن وفراق أولاده وأسرته.
2- الضحية: ليس هناك من حضور للضحية إن على مستوى الأحداث أو على مستوى الملفوظ أو حتى التلفّظ، إنها شخصية غائبة نصيا، لكن وكما أشرنا في الهامش لا يكفي ذلك للحكم عليها بالغياب التام أو بكونها مجرد "ثانوية"، إن الضحية هنا حاضرة من خلال كل حدث وكل خطاب، ذلك أنها من المحركات الرئيسة للحدث ككل، فلولا الضحية ما كانت الجريمة ولا كانت المحاكمة، إن للضحية حضورا نوعيا من خلال خطاب الآخرين لا من خلال خطابها هي، الأمر الذي يؤكد حرصنا على عدم الانخداع بثنائية " الشخصيات الرئيسة والثانوية" التي تعتمد على كمية الخطاب المُنتج وكثافة الحضور في المقاطع السردية.
3- الأم:
تحضر الأم في النص باعتبارها ثاني أهم نقطة يركز عليها السرد، إنها إنسانة عجوز هرمة، خائفة " رأيت أمه المفجوعة"{5}،باكية و محروقة القلب على ابنها.
4- أما الزوجة فلا يقل حضورها أهمية عن حضور الأم ، هي "شابة جزلة الخلق ناضرة الصبا" {6}\ حزينة \ خدومة " تحمل على رأسها برمة أعدت فيها ما تعرف أن سيدها يشتهيه من طعامه". امرأة باكية و منتحبة على زوجها.
5- الأخوات:
هن أخوات السجين: "ساهمات الخدود"\ "ذابلات الأعين" \ حزينات باكيات على مصير أخيهن.وكذلك أخو السجين الذي يبدو حضوره خافتا في النص.
5- الولدان:
"كلاهما ضامر الوجه متقبض منكسر"{7} \ حائران " وكانت عيونهما الحائرة تدل على أنهما بإزاء حالة غير مفهومة" أما الرضيع الصغير( ابن السجين أيضا) فيحضر في مستوى التعبير عن البراءة .
إن حضور الشخصيات "الثانوية" في هذا النص حضور يعمق نبرة الأسى في النص، إذ لا تتعلق المسألة في النص بمصير السجين فقط، بل بمصير عائلة بكاملها، و هذا هو ما يبرر كون قراءة الشخصيات تتعالق مع دراسة البعد الموضوعاتي (الفلسفي والفكري) للنص. فمعظم نصوص الرافعي تتميز بخاصية فريدة من حيث حضورُ الشخصيات، إذ خطاطة الشخصيات في كتاباته أشبه ما تكون ببنية دائرية ، لها مركز وهوامش، حيث إنها بنية كلاسيكية بالأساس، الشخصية الرئيسة في البؤرة وباقي الشخصيات تتفاعل مع أوضاعها، مع الخطاب الذي تنتجه والوضعيات التي تتخذها أو تتموضع فيها، لكن الجديد هنا هو أن وظيفة الشخصية الرئيسة في حد ذاتها هي المقصودة، إن المسجون كمقولة اجتماعية ووجدانية هو الهدف الأسمى، ولعل ما يآزر هذا القول يشرعنه مسألة عدم إعطاء اسم علم لهذا السجين، إنه مجرد سجين فقط، حيث لا يدل على شخصية مُسمّاة بقدر ما يدل على شخصية مرجعية تعيش حالة السجن فتعكس وضعية المخلوق البشري في علاقته مع هذه المؤسسة العقابية، إن عكس هذه الحالة وتفكيرها بتوأدة هو الباعث الرئيس لخلق الشخصية أساسا. وهي واحدة بين أخريات من خصّيصات الكتابة عند الرّجل.

- بنية السرد -

يحدد توماشوفسكي نوعين من أنواع السرد، هناك سرد موضوعي، حيث يكون الكاتب مطلعا على كل شيء في الحبكة، ويترك حرية التأويل للقارئ، وهناك سرد ذاتي وفيه نتبع الحكي من خلال عيني الراوي، إذ يفصِّل في كل شيء ويلامس الزوايا النفسية للشخصيات. ونحن نَلْفِي أنَّ نوعية السرد في نص السجين هي الثانية، إذ السرد هنا ذاتي بالأساس، حيث يغوص الراوي في أعماق الشخصيات فيرصد بعض أحوالها:
يقول واصفا الحالة النفسية لامرأة السجين مثلا :" نزّت كبدي لما رأيت الحب الهالك يستفيض امرأة السجين ويسوقها جامحة في عنان الغيظ تترامى على وجهها"{8}. ويقول في مكان آخر واصفا التعاسة الداخلية للمجرم: " وتبيَّنته فرأيته ساكنا سكون الاستهزاء، كأنه على ثقة مما خفى عنه تشبه ثقته بما وضح له، أو هو لتعاسته أخفق أكثر مما فاز"{9}.
إن السرد في هذا النص نابع من تفوق للسارد على الشخصيات ( السارد العليم = الرؤية من الخارج) ، إذ يستطيع الولوج إلى عالمها الداخلي وتشريحه من خلال اللغة الواصفة ويا ما تكرّرت هذه المسألة في نصوص الرافعي، حيث تعكس لنا هذه الحالة وضعية كلاسيكية تسِم كتابة الرافعي بميسمها، إذ يسيطرالسارد على أجواء النص، يمتلك مفاتيحه ومغاليقه من خلال تبني الكاتب استراتيجية كلاسية في القص، يكون بموجبها سيد الحدث من خلال اللجام الذي يحكم به الشخوص والأحداث عن طريق "السّارد الإله"، الذي – في حالة النصوص الهجينة كهذه – لا يعكس سوى تألّه الكاتب الكلاسيكي وخوفه من إفلات عقال الكتابة وتنصّلها من الوعي الشامل والتام ( و هو نقيض الكتابة التجريبية طبعا).

- الزمن –

في كل نص سردي هناك زمنان حسب ج.جُنيت، زمن السرد وزمن الحكاية، يتميز الأول بكونه لا يتقيد بتتابع منطقي ويتميز الثاني بذلك التتابع المنطقي اللازم (مثلا لا يمكن أن تحدث الوفاة قبل الولادة أو تغيب الشمس قبل الشروق) ما يفرض علينا التمييز بين الحكاية وبين القصة، إذ الحكاية هي المضمون السردي (المدلول) والقصة هي الترتيب الاستراتيجي لمواد الحكاية (الدال)، فلابد لكل قصة من استراتيجية سردية تتم وفق الحساسية الفردية و الرؤية الخلاّقة للكاتب..
يتحدد زمن القصة في النص الماثل أمامنا في مشاهد محددة، إذ يقترح جنيت أن تتم دراسة الزمن في المشاهد والمقاطع والاستراحات، ليتم لمس جانب الخصوصية والاختيار.
يبدأ زمن القصة في نص السجين منذ اللحظات الأولى للسرد، خاصة حين يعلن السارد عن فضاء الحدث " كنت يوما في محكمة كذا "{10}. ويتتابع داخل قاعة الحكم ( كان السجين في بهو المحكمة فصعد به الجند إلى غرفة "قاضي الإحالة") {11} و ينتهي خارج المحكمة، خاصة حين تأتي حافلة السجن لتأخذه " وجاءت حافلة السجن فركبها السجين و مضت تجرها البغال طائعة منقادة كما تنقاد إذا هي جرت مركبة الملك"{12}. ينتهي زمن الحكاية في هذا المستوى و ينتهي معه زمن القصة، إذ من خصوصية الكتابة الكلاسيكية -التي لا تشد عنها كتابة الرافعي- أن زمنيها (زمن القصة و زمن الحكاية) يسيران في سديم واحد، يتتوأمان من بداية النص إلى منتهاه مع بعض الفلتات الصغيرة أحيانا، لكن دون التوظيف التام لتقنيات السرد الحديث كالارتجاع أو التقطيع الزمني للحدث، وهي خاصية أخرى تنضاف لكتابة الرافعي، كما تجدر الإشارة إلى أن الزمن ينقسم – وفق السرد الذاتي و الموضوعي- إلى زمن نفسي (تابع للسرد الذاتي) و زمن موضوعي ( تابع للسرد الموضوعي)، إذ لا تنفصل بنية الزمن عن بنية السرد أيضا، وهنا يحضر ضمن الزمن السردي زمن نفسي خاص بنص "السجين"، إذا بالرغم من انتهاء المشهد الأخير إلا أن المرأة لازالت تعيش حالة نفسية لا يمكن للراوي أن يتغافلها أو يتغافل دورها في تطعيم الطابع المأساوي للقصة، يقول : " كانت المرأة غريقة في يأسها ، وكان شاطئ الأمل يفر أمام عينيها فرارا، لأن بينها وبينه موجة دمعها" {13}.
نرى إذا أن الزمن يحضر في النص على مستويين ، أولهما مستوى الحكاية والحدث وثانيهما يتعلق بزمن السرد الذي يرتبط بزمن الشخصيات ( النفسي) . وكلا الزمنين يسيران على محور واحد في نص السجين، ونكاد نجزم أن معظم نصوص الرافعي تنماز بذي الخاصية على مستويات ودرجات متذبذبة، ما يدفعنا إلى التفكير في التساوق الزمني بين الحكاية والقصة كخاصية راسخة وأثيلة في الكتابة الرافعية.

- اللغة ( الأسلوب) –

يعرف تودوروف الأسلوب في كتابه "مفاهيم سردية" أنه " الاختيار الذي يجب على كل نص أن يعمل به من بين عدد من الإمكانيات المتضمنة في اللغة" {14} أي أنه سمة خاصة بالكاتب، حيث يقرر هو اختيار استراتيجية لغوية تميزه عن غيره، وينقسم الأسلوب من الناحية التقنية إلى أسلوب تشخيصي وآخر تصويري، الأول نجد فيه لغة تصف الأحداث والأماكن بتقريرية قصوى، والثاني يحتوي جملا تلفظ الحقائق الأبدية للتأملات المجردة والأحكام. ونحن نلمس أن نص السجين نسج باندغام هذين الأسلوبين معا، حيث يختص الأسلوب التشخيصي بلحظات الحكي، في حين يحضر الأسلوب التصويري في لحظات التأمل والتفكير الفلسفي داخل النص.
نماذج:
الأسلوب التشخيصي: " كان السجين في بهو المحكمة فصعد به الجند إلى غرفة "قاضي الإحالة"، و وقفوه ساعة على مطل بين يديه فناء واسع أسفل منه"{15}.
الأسلوب التصويري: " ما الفراق إلاَّ تشعر الأرواح المفارقة أحبتها بمس الفناء لأن أرواحاً أخرى فارقتها، ففي الموت يمس وجودنا ليتحطم، و في الفراق يمس ليلتوي، و كأن الذي يقبض الروح في كفه حين موتها هو الذي يمسها عند الفراق بأطراف أصابعه"{16}.
إننا وإن ميزنا بين أسلوبي التشخيص والتصوير ملزمون بالقول - وفقا لمساحة التأمل الفلسفي في النص- أن للأسلوب التصويري غلبة على التشخيصي، ذلك أن البعد الموضوعاتي يحضر بقوة في النص على حساب الجانب السردي، الذي لا يطالعنا إلا بين الفينة والأخرى لينظم لنا مسار الحبكة. فالتفكر في شؤون البشر وفي الحب والحرية والقسوة يفرض أن أسلوب التصوير يغطي الجانب الأكبر من المساحة اللغوية. والأسلوبين معا في تحققهما يعتمدان آلية الوصف الدقيق والعميق بكثرة، إذ يغلب الطابع الوصفي على معظم النص، لكنه وصف بديع في لغة أنيقة وشاعرية تجعل أسلوب الرافعي ينماز عن غيره بالرقة والعمق، و ذلك راجع من الناحية النقدية إلى ما أسماه تودوروف بالأسلوب العاطفي، حيث يتماهي السارد مع المسرود إلى درجة تبنيه الوصف الموجه نحو موضوع ما أو شخصية ما، وهنا لا ضير في الإشارة إلى أن مجموعة النصوص المعنونة بالسحاب الأحمر كتبت في ظرفية نفسية خاصة عاشها الرافعي جراء تجربة حب فاشلة ( كما يشير إلى ذلك مقدم الكتاب). يلعب الوصف في النصوص عموما وفي نص السجين على وجه الاختصاص دورين أو وظيفتين أساسيتين:
أ) خلق استراحة وفسحة للهروب من تتالي الأحداث .
ب) وظيفة رمزية دالة على معاني معينة ، خصوصا حين يتعلق الأمر بوصف الشخوص والحالات النفسية التي تخالجهم.
والوظيفة الثانية هي الغالبة في نص "السجين"، إذ نكاد نشكك في أن وظيفة الوصف داخل نص السجين هي إعطاء فسحة للسرد كي يلتقط أنفاسه، وذلك لسبب بسيط هو أن حضور الوصف يغلب على حضور السرد ذاته وكأن المسألة معكوسة، فالوصف يُداخل السرد حتى في تلك المساحات الصغيرة التي يأخذها في النص " و لما استقرت عينه عليها أرسلت كل عواطفها في مجاري دمعها، وقد أيقنت أنه قطع بها عمادها و زوجها و والد ابنها وكنزها الذهبي"{17}. وهو الأمر الذي تفسيره مرتبط بغلبة النفس الفكري والتأملي على حساب السرد والأحداث. إذ ذاك يكون أسلوب الرافعي تصويريا وصفيا بالأساس قبل أن يكون تشخيصيا.

2) - موضوعاتيا –

أشرنا إلى أن البعد الفلسفي يغلب على طابع النص في مقابل البعد السردي، وذلك راجع لكون الخلفية التي كتب بها النص، خلفية تعليمية، إن السارد يتطرق إلى مجموعة من القيم الإنسانية داخل نص السجين، نجد شذرات النص تلامس كل مرة قيمة منها، وفيها يظهر البعد الشخصي للذات الكاتبة، إذ يتجاوز الأمر مسألة السرد إلى مسألة إعطاء الرأي ومناقشة الأفكار لنلفي ذواتنا – كقراء- أمام بنية شارحة تفسيرية وأحيانا حجاجية، ولعلنا نلامس مجموعة من المشكلات الوجودية داخل نص السجين قد تفرقت شذر مذر ، أهمها موضوعة " إنسانية الإنسان" ، يقول الرافعي في مواقع مختلفة من النص ( من حقنا هنا أن نتحدث عن الكاتب عوض السارد ما دمنا خرجنا من السرد إلى التأمل) :
" كأنما كبرت الإنسانية حتى عن أن تكون شيئا إنسانيا، فما هي فيمن ترى ممن حشوُ جلودهم ناس و حشو نفوسهم بهائم" {18}.
" ألا أيها القلب الإنساني المعجز، إن أيامك كلها مُضِيٌّ في سبيل الموت الأول كما هي مضي في سبيل الحياة الأخرى" {19}.
"ألا ويحك أيتها الإنسانية ظالمة أو مظلومة، إن أمامك من هذين الطفلين الموتورين آلتي تصوير قد نقلتا هذه الصورة وستحفظانها إلى يوم ما..".
" الحب والرحمة والشفقة والصداقة وكل هاته المعاني التي هي روابط الإنسانية في اشتباكها ، هذه كلها هي وسائل مسرتك في حالة، وهي بأعيانها أسباب عذابك في حالة أخرى ".
إن موضوع الإنسان هنا يُتناول من عدة زوايا، فهناك حضور لعتاب على الإنسانية من الكاتب، وذلك من خلال قناة الطفلين الضائعين بعد أن سجن ولي أمرهما (السجين) ، هناك كشف لحقيقة المشاعر الإنسانية، فهي تارة سبب الفرحة والسعادة، و هي تارة أخرى سبب الشقاء و الدموع.
إن التيمات الفلسفية داخل النص متعددة، فيمكن أن نضيف إلى موضوعة الإنسان موضوعات أخرى فرعية تتعالق بها كموضوعة الحرية، جاء في النص " أجرم السجين فأخذ بذنبه، فما ذنوب هؤلاء جميعا "{20}. هل حرية الفرد تتعلق به هو فقط، هل من حقه أن يرتكب الجرائم؟، أهو حر في مصيره؟، يقول لنا الرافعي عن طريق السؤال الاستنكاري أن السجين قاد معه أشخاصا آخرين إلى الألم و البكاء والضياع، هؤلاء الأشخاص هم أبناؤه و عائلته.
ويذهب الكاتب إلى إثارة إشكال المسؤولية الفردية في الوجود حين يتحدث عن الرضيع " و أما الرضيع هذا اليتيم في حياة أبيه، هذا المسكين الذي ابتدأ تاريخه بجريمة لا يد له فيها..إلخ"{21}.
حيث يحالو الرافعي أن يستثير ذات المتلقي من خلال نهج توليدي يعتمد على الصدمة أولا ثم السؤال ثانيا..
إن تيمات النص الفلسفية تتعالق فيما بينها ، جامعها وخيطها الناظم هو الوضع الإنساني، الذي انطلق الكاتب إليه من خلال قناة السرد، فنحن لا يمكنا أن نحاكم نية الكاتب لأنها معطى ماقبل-نصي، لكننا يمكن أن نجزم بأن حضور البعد المضوعاتي يطغى على نص السجين، و هو ما فرض التمييز بين الجانب التقني و الجانب الموضوعاتي في المقاربة.

تكون خصّيصات النص عند الرافعي وفقا لنموذج التحليل متشعبة ومتوزعة حسب الزاوية التي يُنظر إليها منها، فهو نص:
+ هجين من حيث النوعُ الأدبيُّ، إذ يقع على ثخوم النصين التأملي والسردي.
+ حضور الشخصيات فيه مطية لمقاربة الوضع البشري في مختلف حالات وجوده : الحب – الموت – الحزن – الفرح....
+ من حيث بنيته السردية، هو نص كلاسكي تغلب فيه الرؤية من الخارج، حيث سيادة السارد الإله العليم بكل جزئيات الشخوص النفسية...
+ من حيث بنيته الزمنية هو نص تقليدي، حيث يتلازم زمن الحكاية وزمن القصة وفقا لاستراتيجية كلاسيكية في القصّ.
+ يتزاوج في أفقه الأسلوب التصويري والأسلوب العاطفي، إذ تفرض طبيعته التأملية غلبة التصوير ( رصد الحقائق الأزلية الخارجة عن التاريخ) وفق نظرة ذاتية.
+ هو نص يمتطي صهوة السّرد لِيمارس التأمل الفلسفي و الديني بالأساس.

الهوامش:

{1} مصطفى صادق الرافعي، السحاب الأحمر، ضبط وتقديم محمد علي سلامة، الصحوة للنشر و التوزيع،ط 2008.، المقدمة ،ص 5.
{2} تجدر الإشارة هنا إلى أن التقسيم الإجرائي بين الشخصيات الرئيسة والشخصيات الثانوية ليس صحيحا دائما، فمعيار الأهمية التي تكتسبها الشخصية في النص السردي لا يرتبط بكمية الخطاب الذي تنتجه أو عدد المرات التي تظهر فيها ، بل يعود التمييز أساسا إلى التغيير النوعي الذي يضفيه حضور هذه الشخصيات على مسار الأحداث و طبيعة النص.
{3} نفسه، ص 43.
{4} ص 48.
{5} ص 45
{6} ص 46.
{7} ص 47.
{8} ص 51.
{9} ص 43.
{10} ص 31.
{11} ص 44.
{12} ص 50.
{13} ص 51.
{14} تزفيتان تودوروف، مفاهيم سردية، ترجمة: عبد الرحمان مزيان، منشورات الاختلاف، الطبعة الأولى، ص 138.
{15} السحاب الأحمر، ص 44.
{16} نفسه، ص 52.
{17} ص 46.
{18} ص 44.
{19} ص 49.
{20} ص 48.
{21} ص 51.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة