تشخيص آليات الصمود الأسطوري في محكي تزممارت ـ يوسف وزول

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

jzt37cmعرفت كتابات الاعتقال السياسي بالمغرب في العقود الأخيرة، مسارات متنوعة، نظرا لاختلاف السياقات التي تتحكم في كل تجربة على حدة (تجربة اليسار الجدري، تجربة تزممارت،...)، وكذا الملابسات والتداعيات المميزة لكل ملف من ملفات الاعتقال.

بناء عليه، فإن للتجربة التزممارتية خصوصياتها ومميزاتها التي تنفرد بها عن مثيلاتها من التجارب، وهذا ما تجسده الكتابات/الشهادات التي ألفها بعض الناجين من جحيم تزممارت، واستنادا إلى هذه النصوص يمكن الإمساك بمظاهر هذه الخصوصية التي سنقتصر في هذا المقال على تجل من تجلياتها المتمثل في البعد النضالي وآليات الصمود الأسطوري لدى معتقلي تزممارت.

لقد تم حشر المعتقلين/العسكريين في المعتقل الرهيب (تزممارت) الذي يضم زنازن فردية لا تقي حرا ولا بردا، وتنعدم فيها أبسط شروط الحياة البدائية، لأنهم شاركوا في انقلابي الصخيرات (الذي قام به مشاة أهرمومو 1971) والطائرة الملكية (الذي قام به طيارو القاعدة الجوية بالقنيطرة 1972) وانطلاقا من هذا، نلاحظ أننا أمام صنفين من العسكريين: صنف أول يمثله المشاة، وصنف ثاني يمثله الطيارون، والرابط المشترك بين أعضاء كل صنف من هذين الصنفين هو التراتبية العسكرية التي تنبني على الصرامة والطاعة العسكرية والإذعان للأوامر. أما فيما يخص العلاقة بين الصنفين أي بين المشاة/المعتقلين، والطيارين/ المعتقلين، فإن منهم من لم يتمكن من التعرف على ملامح وجه رفيق له في المحنة إلا قبل الخروج من تزممارت بقليل.

ورغم كل هذا، فإن قسوة الجلاد وبرودة الجدران، وصراخ المجنون وتألم المريض، وأنين المحتضر وكثرة الأموات دفعت هؤلاء المعتقلين إلى إبداع أشكال للنضال وخلق آليات للصمود أمام وحشية الجلاد والمعتقل.

وسنحاول – كما ذكرنا أعلاه – تشخيص هذه الأشكال النضالية وتحديد بعض آليات الصمود التي واجه بها معتقلو تزممارت آلة العقاب الجهنمية داخل مركز الموت:

طيبوبة بعض الحراس والتواد بين المعتقلين:

. طيبوبة بعض الحراس:

لقد احتفظ الجلادون البيروقراطيون بنفس الحراس الخمسة عشر ومديرهم – اللهم بعض الاستثناءات القليلة – طوال المدة التي دفن فيها المعتقلون العسكريون في قبور تزممارت والغاية من عدم استبدال هؤلاء بغيرهم هو الخوف من الفضح والتشهير. إنه الخوف من مخاطر التسريبات التي قد تكشف النقاب عن معتقل حجبته تخوم الصحراء وأيادي الجلادين التي عملت على تكميم جميع الأفواه، ليظل شطط الجلاد وأنين المريض عند الاحتضار حبيس الجدران الصماء.

وضمن هذا الإطار، فإن هؤلاء الحراس قد صاروا جزءا هاما من تاريخ المأساة التزممارتية، من خلال إدراجهم ضمن الذاكرة الجماعية التي سعت إلى حفظها وتوثيقها كتابات بعض المعتقلين الناجين من جحيم تزممارت، وكذا شهادات بعض حراسه الذين خرجوا من صمتهم ليصوروا لنا هذا الجحيم من زاوية أخرى، من خارج القطبان والجدران.

يقول: محمد الشربداوي (جيف):

"كانت تازمامارت قلب الجحيم نفسه، وقد رأيت هذا القلب ينبض بالبؤس الإنساني والآلم والجنون والموت... ولكن أيضا بالكراهية والظلم والبشاعة والوحشية والحماقات... لم أكن سجينا في تازمامارت.. ولكن تازمامارت اعتقلتني طوال تلك الثماني عشرة سنة التي لم أكن خلالها أستطيع إعلان سخطي وغيظي. لم أكن سجينا في تزمامارت عندما كان هؤلاء الرجال يتألمون ثم يموتون محاطين بالصمت المتواطئ للعالم. والسكوت الإجرامي للسلطات. أنا جزء من ذاكرة تزمامارت وما أزال سجين ذكرياتها وآلامها غير المسبوقة، سجين الموت في تازمامارت والاستبداد في تازمامارت. وسوف تبقى ذاكرتي موشومة إلى الأبد بذكرى تلك الثماني عشرة سنة من الجحيم.

إنني من دون شك، أحد آخر "سجناء" هذه المأساة الإنسانية"([i]).

لقد شكل صاحب هذه الشهادة وحراس آخرون (العربي لوزير، العربي أمزيان...) الجانب المشرق من ضمن الجوانب المظلمة التي تغطي فراغ تزممارت القاتل، نظرا للخدمات والمساعدات الكبيرة التي قدموها لمعتقلين قابعين في أفران فردية ينتظرون الموت، فأمدوهم (بالأدوية، الأكل، النور والهواء بفتح أبواب الزنازن إن سنحت الفرصة لذلك، إضافة إلى الدعم المعنوي...) كما عملوا جاهدين على ربط الاتصال بعائلاتهم في غفلة من عيون لا تعرف النوم، إنها عيون الجلاد بلقاضي وأعوانه. وقد تكون العطايا في بعض الحالات غاية في البساطة من منظور الحياة العادية إلا أنها تمثل الأمل والحياة في تزممارت "وإن نسيت شيئا من فضائله –العربي لوزير- فلن أنس له أبدا تلك الالتفاتة الإنسانية غداة مجيئنا إلى تزممارت، وقد كنت أتألم ألما مبرحا في رأسي الحليق فعل المنشار في العظام، فقد جاء عندي ذات مرة ورمى لي بطربوش من الصوف كان بالنسبة لي حينئذ كعتق من النار"([ii]).

يمكن تشبيه التضحيات التي قام بها هؤلاء الحراس بسهم البطل الذي أنقد "بروميثيوس" من الأغلال والنسر الذي كلفه الإله زيوس بنهش كبده إلى الأبد. والحقيقة أن هذا التشبيه الأسطوري فيه نوع من المغالاة على مستوى الحدث إلا أن هناك تطابقا على مستوى التشخيص فالإله زيوس هو (الجلاد البيروقراطي) وبروميثيوس هم (المعتقلين) والأغلال (المعتقل) والنسر (المدير، وأعوانه) والبطل المنقذ (الحراس الطيبون) وسهمه (العطايا والمساعدات).

وإذا كان البطل المنقذ في الأسطورة قد تمكن من قتل النسر والتمرد على الإله، فإن هؤلاء الحراس لم يتمكنوا من ذلك، وإنما حاولوا أن يسترقوا غفلة من النسر المسلط من طرف الإله لإمداد المعتقلين بخدمات ومساعدات قد تمنحهم بصيص الأمل وتساعدهم على مقاومة الموت الذي يطوقهم من كل الجهات.

التواد بين المعتقلين:

من المعلوم أن معتقل تزممارت كان يضم عنبرين، كل عنبر يحتوي على تسعة وعشرون (29) معتقلا، وبعد مرور سنوات قليلة من الاعتقال – رغم وحدة الجوهر القمعي – ارتفعت حصيلة الوفيات في العنبر الثاني (23 ضحية) مقابل (7 ضحايا) في العنبر الأول. فما هو السبب إذن في ارتفاع ضحايا العنبر الثاني؟ وما السر في بقاء غالبية معتقلي العنبر الأول على قيد الحياة؟

"لقد كان السبب الرئيس راجع حسب رأينا إلى تواجد خمسة عشر ضابطا في العنبر الأول، منهم أربعة نقباء مقابل تسعة ضباط في العنبر الثاني من بينهم نقيب واحد مما يؤكد أن التراتبية لعبت في صفوفنا دورا حاسما في السنين الأولى حيث سهلت علينا الحفاظ على انضباط أحسن والوصول بالتالي إلى تنظيم أجود"([iii]).

لقد حاول معتقلو العنبر الأول تنظيم حياتهم اليومية "فهم الأذكياء منا إن مقامنا في تزممارت لن يكون عابرا وأن علينا أن ننظم صفوفنا ونقاوم بكل الوسائل المتاحة لدينا حتى نحافظ على معنويات مرتفعة... بعد هذا نبتت في أذهان بعضنا فكرة تهييء برنامج يومي نستطيع بواسطته تنظيم حياتنا وترسيخ التضامن والانضباط بيننا حتى نضع حدا لذلك الضجيج الكبير الذي كانت تحدثه النقاشات الفوضوية الدائرة هنا وهناك"([iv]).

ولقد تمكن المعتقلون من خلال هذا البرنامج اكتشاف مواهبهم التي تفجرت وبزغت داخل زنازنهم، فسخروها لخدمة أصدقائهم في المحنة فصار من بينهم (الحكاواتي، والمغنى والمبتكر للآلات التزممارتية (المرآة + المقص...)، والمختص في اقتلاع الأضراس، المقرئ والمؤذن...) وغيرها من الوظائف والأدوار التي يسرت لهم سبيل القضاء على الفراغ القاتل لتزممارت.

وبالإضافة إلى هذا فقد نقلت لنا نصوص تزممارت مشاهد من داخل الجحيم تصور التواد الإنساني (الملائكي) بين المعتقلين في حالة المرض أو الاحتضار.

"لما أغلقوا علينا الباب وغرقنا في العتمة، اقتربت من صاحبي المسجي على دكة، وبحلقت فيه بعيني الغائرتين المتعودتين على الظلمة، فماذا رأيت؟ حطام آدمي كان أشبه ما يكون بفريسة أكلت بعضها السباع وتركت بقاياها لما دونها من الكواسر... وهببت أنا في عياب الصابون محاولا تنظيف صديقي جهد المستطاع، فبدلت ثيابه الملتصقة بجلده المهترئ بثياب نظيفة، حسب معايير النظافة في تزممارت..، وقصصت شعر رأسه ولحيته ثم قلمت أظافره بحديدة ماضية صحبتها معي، وبعدها شرع في التسلية عنه مراجعا معه ذكريات جميلة، فتحاكينا المغامرات والقصص وغنينا سويا أروع الأغاني، وتبادلنا النكت إلى حد أنه كان يضحك ويتألم في نفس الحين من ارتجاج صدره عند القهقهة.

ومر شهر على هذه الحال، فإذا بصحتي المتدهورة تزداد سوءا وترغمني على العودة إلى الزنزانة 10 فخلفني تباعا كل من الإخوة عبد الرحمن صدقي ثم محمد العفياوي والتجاني بن رضوان وأحمد بوحيدة وعبد الكريم الساعودي وأخيرا جاء دور ساكن الزنزانة رقم 1 بن عيسى الراشدي الذي قضى مع لغالو مدة طويلة تزيد على سنتين أو ثلاث ظل خلالها يخدم صديقه بتضحية وتفان قل نظيرهما بين بني البشر"([v]).

    1)التـديـن:

إن المتأمل للبرنامج اليومي الذي سطره معتقلو العنبر الأول بتزممارت، يرى على أنهم اتخذوا من الدين منطلقا ومرجعا لتحديد مواده، بدءا من طريقة الاستيقاظ "بمجرد تسلل خيط الضوء الرفيع من ثقب السقف أو سماع شدو الطيور في الخارج. كان رجل المناوبة يقرأ بصوت مرتفع ما تيسر من الذكر الحكيم، ثم يختمه بالسلام على رفاقه داعيا لهم بالفرج"([vi]). وانتهاء بالخلود إلى النوم، مرورا (بالآذان والصلوات وحفظ القرآن). إن الجانب الديني كان حاضرا بقوة في حياة المعتقلين، كما أنه لعب دورا هاما في توفير الاستقرار النفسي والاطمئنان الروحاني لهم، فهو آلية من آليات الصمود أمام شبح يتربص صباح مساء بجميع المعتقلين. إنه شبح الانتحار. "الانتحار.. أليس هو الخلاص الوحيد من عيش كنا نموت فيه ونبعث بعدد الساعات في اليوم.. فناهيك بالليل؟ وما إن كانت تغيب تلك الفكرة القاتمة عن أذهاننا لحظة حتى تأتي فكرة أخرى لتهمس لنا بشيء آخر... أخذ ورد، مد وجزر، .. كنا ككرة من التنس يتراشق بها لاعبان فوق حلبة ظلماء خالية إلا من متفرجين اثنين الله.. والشيطان. كانت تلك المعركة الباطنية الشرسة تنتهي دائما بانتصار الأمل.. والسر في هذا الصمود يرجع حسب رأيي إلى حفظ القرآن الكريم. فقد كان لتلاوة الذكر الحكيم وتدبر آياته وقعا عظيما في نفوسنا، وتحفيزا لنا على مواصلة المقاومة بصبر المؤمنين المحتسبين.

فما أحسسنا أبدا بقربنا من الله كإحساسنا به في تزممارت.. كنا نقضي الساعات الطوال في الصلاة الخاشعة والتضرع العميق، مرددين ما كان يقوله النبي الصالح يونس حين كان مبلوعا في ظلمات ثلاث.

لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"([vii]).

    2)السخرية والضحك:

لقد اتخذ معتقلو تزممارت من السخرية آلية لمقاومة شطط الجلاد وقساوة المعتقل، إن السجان والسجن وجهان لسلطة واحدة تهاب السخرية لأنها آلية الصمود في وجهها المكفهر". إنها مثل بورج الراهب الطهراني القاتل في رواية اسم الوردة لامبرتوايكو... الذي حجب الجزء الثاني المفترض من كتاب أرسطو سنوات طوال، وهو الجزء المخصص للكوميديا والضحك، بل إنه سمم المخطوط ليستحيل كل من تصفح أوراقه جثة هامدة([viii]).

وبناء عليه، فقد قام معتقلو تزممارت بالرد على إدارة المعتقل التي ألغت أسماءهم الحقيقية واستبدلتها بأرقام سجنية (الزنزانة رقم 10 مثلا)، من خلال إلصاقهم للحراس مجموعة من الألقاب الساخرة (السلك، فوكسطروط، السرخينطو، مايك سييرا، الوزة، الباش، الشويبيني، الفرناتشي، حمار العودات، حفار القبور، السرفر...) إنها مواجهة للمعجم الخاص بالسجن والسجانين عبر تفكيكه بسخرية وجعله يندرج في سياق لساني آخر كي يفتقد سياط عنفه المسلطة ليل نهار على جسد وإحساس وعقل المعتقل.

"تفقد السلك أبواب الزنازن واحدا واحدا... وقال لنا بصوته الآخر الذي يقطر سما ونفاقا. "شهية مفتحة آلخوت" وذات مرة قلده الملازم محمد منصت.. فضغط على الحروف بشدة مبالغا في إخراجها من الأنف لكي يضحكنا"([ix]).

وفي نفس السياق فقد تمكن معتقلو تزممارت من ابتكار لغة خاصة بهم (اللغة التزممارتية) التي تعد بمثابة شفرة سرية تتميز بالدقة والاقتصاد والسخرية في التعيير وتضمن للمعتقلين الحديث بحرية عن آرائهم وقراراتهم، بعيدا عن الآذان المتربصة بهم. لكنها كذلك لغة هامشية خارج مجال السلطة، تخرج السجان لأنها تتأبى عن قبضته التي أحكمها على الروح والجسد والمكان في "تزممارت"([x]).

ولم يكتف المعتقلون بالسخرية من الجلادين فقط، بل قد استهدف خطابهم الساخر المعتقل وما يحيط به من صمت رهيب وفراغ قاتل.

"وذات مرة سأله أحدنا معاتبا بعدما لاحظ كثرة صمته وانزوائه.

- ماذا تفعل يا عبد الله؟ ألا يؤثر عليك هذا الصمت الثقيل؟ فأجاب ببساطته المعهودة وهو يسخر من فراغ تزممارت القاتل.

- كنت منشغلا بعد ثقوب الجدار، أول أمس كانوا سبعة عشر، وبالأمس بقي عددهم كما كان سبعة عشر، واليوم حسبتهم فوجدتهم لازالوا سبعة عشر"([xi]).

وبالإضافة إلى هذا، فإن هناك مشاهد ومقاطع أخرى تؤثثها ضحكات وقهقهات المعتقلين فيما بينهم:

"لما سألته إن كان قد تعرف على الواقف أمامه، فأجاب بالنفي فتدخل حشاد قائلا: أهلا لغلو هل نسيت وجهي بهذه السرعة؟ انفجر لغالو ضاحكا وقال له: "لم تعد حشاد الذي أعرفه، إنك أشبه ما تكون بذلك العجوز الذي يقود العربة في الفيلم التاريخي المصور في المغرب سلومبو Slombo"([xii]).

    3)اللعــب:

مع نهاية السبعينات كانت غالبيتنا العظمى قد حفظت القرآن الكريم. فكان علينا أن نبحث عن شيء نعوض به حصص الحفظ، فاخترعنا طريقة فريدة للعب الشطرنج. والفضل في ذلك يرجع إلى الصديقين مبارك طويل وصالح حشاد... أما كيفية اللعب، فكانت بطريقة الصوت.ذلك أننا وضعنا لكل صف من المربعات الأفقية حرفا مميزا أما المربعات العمودية فكانت مرقمة من واحد إلى عشرة فكان اللاعب عند نقلة ينقلها يعلن عنها بحرف ورقم، فيرددها خصمه ويرددها معه الحكام والمتفرجون.

وهكذا قضينا ما يزيد على خمس سنوات ونحن نلعب من وراء الجدران على هذا النحو. فنظمنا بطولات كان الفائز فيها يكافأ عادة بكسر الخبز الحافية"([xiii]).

لقد كان شعارنا يختلف عن شعار رفاقنا في البناية رقم 2. إذ واصلنا المقاومة رغم كل الظروف، منا من كان يزحف ومنا من احدودب ظهره، لكن الجميع كان يشارك في الأنشطة اليومية بحثا عن النسيان، وكثيرا ما تخيلت نفسي ورفاقي كجذوع أشجار جرفتها السيول، لكنها تعاكس التيار حتى لا تصل إلى الهاوية([xiv]).

    4)سحر السرد والخيال:

إن المهم في السرد هو القدرة على بناء عالم ممكن يقوم بتهذيب النسخ المتحققة ليحولها، بعد التنقيح والتهذيب إلى نموذج يستوطن الوجدان. فبناء عالم تخييلي استنادا إلى حقائق موضوعية معناه الرقي بالعرضي والزائل إلى مصاف القيم الثابتة التي يتكفل الوجدان بتخليصها من سمات الخاص والمفرد([xv]).

واستنادا إليه، فإن جل هذه المقومات السردية حاضرة في القصص والحكايات التي يتكفل ببنائها بعض معتقلي تزممارت من الذين اشتهروا بامتلاكهم بناصية السرد وإيجادهم بناء القصص والنوادر: "لم يمض إلا وقت قصير حتى اتضح لسجناء العنبر الأول أو بالأحرى لآذانهم، أن رفيقنا محمد الرايس وعبد ربه كان يمتلكان موهبة لا بأس بها في حكي الأفلام وسرد الروايات فكان كلما أراد بعض السجناء أن يقص علينا شيئا تعالت الأصوات لزجره مطالبة بالإجماع إما بـ"صابر" (وهذا اسم الرايس الأول) وإما بـ"خاي حميدو" (اللقب الذي أطلقوه علي في تزممارت)"([xvi]).

إن اختيار المعتقلين للطريقة التي ينهجها كل من الرايس والمرزوقي في الحكي، ليس اختيارا عشوائيا، بل هو نتيجة لتضافر عدة عوامل:

    أن الحكايات عند الرايس والمرزوقي تتضمن قوة إقناعية تساعد المتلقي على التخلص من عتمة الزنزانة وضيقها واستبدالها بعوالم خيالية أخرى، "كان محمد الرايس يتمتع بموهبة خارقة في سرد القصص والأفلام متمكنا من جميع التقنيات التي تشد المستمع إليه شدا وتغوص به في عالم سحري ينسى فيه نفسه ومكانه وزمانه"([xvii]). وبناء عليه فإن السرد باعتباره أداة التشخيص الأولي يشكل قوة ضاربة في مجال التواصل والإقناع والسيطرة على كل المناطق الانفعالية داخل الذات الإنسانية، تستوي في ذلك انفعالات الكبار والصغار فهو قادر إلى التسلل إلى وجدان المتلقي في غفلة من العقل وأدوات الرقابة داخله([xviii]).
    القدرة على ترويض زمن الحكي، وبناء الحكايات خارج إكراهاته، فعلى الرغم من كون السرد سيرورة داخل الزمن وتشتغل وفق إكراهاته، فإنه قادر أيضا على التحكم في هذا الزمن وإدارته لحسابه وفق غاياته الضمنية والصريحة، الواعية واللاواعية([xix]).

وعلى العموم، فقد أفلح كل من "الرايس" و"المرزوقي" في إخراج رفاقهم في المحنة من تلك الظلمات الحالكة وجعلهم ينسون إلى حين بؤس القبور المنسية.

وبالإضافة إلى هذا، فقد شكل الخيال منفذا لإشباع رغبات المعتقلين المكبوتة، يقول أحمد المرزوقي في شهادته (ص 103) "في تزممارت، كان تفكيرنا محصورا دائما في الجوع والبرد، كنا نحلم بالشبع إلى درجة الهوس، وكنا نعد في الأول برنامجا يوميا نستضيف فيه بعضنا البعض في الخيال، ونتنافس في إظهار كرم الضيافة بتنويع ألذ الأطعمة وأجود الأشربة في أفخر الفنادق وأغلى المطاعم العالمية... وكنا مثلا نتناول طعام الفطور في فندق هيلتون بالرباط، ثم نأخذ الطائرة مباشرة إلى القاهرة لنتناول وجبة الغذاء في فندق فاخر على ضفاف النيل، ثم نطير في المساء إلى باريس لنلتهم آلاف الأطباق المصنوعة بيد أمهر الطباخين وأشهرهم. لقد كنا نتمتع بالحياة في الخيال بإسراف وبذخ، لاهثين خلف سراب اسمه الشبع بنفس اللهفة التي يركض بها المتخمون الميسورون عن سراب اسمه الارتواء، فإذا سكن الليل وخيم الصمت، طوينا جناح الخيال، وعدنا إلى قبورنا المنسية كما تعود الفئران المريضة إلى جحورها المظلمة"([xx])

وختاما، فإن التجربة التزمماتية تعد بمثابة بِلَّوْرَة على كل مختص (عالم اجتماع/عالم النفس/ناقد أدبي/مؤرخ...) أن يراها من زاويته الخاصة ضمن مجهود جماعي يصبو إلى تغطية هذه التجربة من جميع جهاتها قصد تقديم صورة واضحة لقارئ لطالما استهوته الخرافات والأساطير والإضافات الزائفة...

[i]- حسن بحراوي، السيرة السجنية بالمغرب ضمن كتاب الذاكرة والإبداع، ص 173.

¨    [ii]- أحمد المرزوقي: تزممارت، الزنزانة رقم 10، طارق للنشر، الدار البيضاء، ط1، 2003. ص 90

[iii]- المرزوقي، ص 73.

[iv]- نفسه، ص 95.

[v]- المرزوقي، نفسه، ص 154-155.

[vi]- المرزوقي، نفسه، ص

[vii]- نفسه، ص 98-99.

[viii]- سعيد عاهد، السخرية كسلاح لمقاومة السجن والجلاد، صمن كتاب الذاكرة والإبداع، ، ص 92.

[ix]- المرزوقي، ص 77.

[x]- هشام العلوي: هشام العلوي: نصوص تزممارت، الكتابة والبوح والذاكرة: ضمن كتاب الذاكرة والإبداع (قراءات في كتابات السجن)، ، ص 58.

[xi]- المرزوقي، ص 192.

[xii]- المرزوقي، ص 99-100.

[xiii]- المرزوقي، ص 99-100.

¨    [xiv]- الرايس: من الصخيرات إلى تزممارت، تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم، ترجمة عبد الرحيم الجماهيري، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2002. ، ص 166-167.

[xv]- بنكراد سعيد ، الذات والجلاد قراءة في رواية: "سيرة الرماد" لخديجة مروازي.

[xvi]- المرزوقي، ص 97.

[xvii]- المرزوقي، ص 97.

[xviii]- بنكراد سعيد ، أدب السجون بالمغرب: "من الشهادة إلى التخييل ضمن كتاب" "الذاكرة والإبداع"، 26.

[xix]- بنكراد سعيد ، نفسه، ص 26.

[xx]- المرزوقي، ص 103/104.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة