إنّ الالهام لا يأتي عادة إلآّ على خلفية عمل قاس جدا ماكس فيبر
المرأة هي الطيف السماوي الذي هبط الأرض ليؤجج نيران الشباب ويعلم البشرية طهارة النفس وجمال الحنان أبو قاسم الشابي
ما سرّ لمسته الحنون المبدعة حنين ص: 47
أعيش فيها عالمي المنشود، عبر التخييل، عبر تحطيم الحواجز والحدود حنين ص: 15استهلال غير مألوف: اليقظة الشعريّة فسحة للمعرفة
بالأمس كان كلّ شيء قد تبدّل في ذهني: الليل، النهار، تواتر الفصول والحلم هذه المذكرات تعيد كل ما يطمس آلامي. كلّ حكاية لا تؤثر إيجابيا في عزمي واستنهاضي يقذف بها في أتون الحريق. حينئذ ما عدت أتكلم عن البحث العلمي بصرامته وصلابته. وإنّما أردت أن أذهب قريبا في طفولتي النرجسية المتوحشة بمخالب براءتها الموغلة في اِبداع لحظة شاعرية أو تخييل لعقل وعقلنة لتخييل توقظ فيّ إنسانيتي. ذلك أني جئت على عجل أحاول إرساء منحى جديدا في التعامل بلغة الحلم الورديّ ينبت في مفاصلي وشراييني.
تلوح الكتابة خنجرا في لحم دفاتري الحميمية التي هي جزء من كياني وكبريائي ليس في التعالي بل أن أكون في سديم البرزخ والعدم بين الأنا وجحيم الآخر والكلمات عندي غير الأفعال التي تشق مسالكي نحو الحرية المفعمة باليقظة الخلاّاقة أعادتني زبيدة بشير إلى الحنين في حنينها الملغم بالحكايات الرحيمة على القلب؟ وماذا يبقى للعقل من عدمية الآخر؟ هل أستطيع أن أتأمل خارطة آلامي وأملي في الخلاص الروحي عبر كلمات الشعر البريئة فهناك في حدسي ما يخبئه القدر وأن هناك النسائم تحمل بين الحبر المسكوب في الألياف الضوئية عواصف تمرد لمقاومة كلّ ما خفيّ من الشرّ. لوحة هي أحسن ما خبأته نفسي لنفسي ويعاودني ماء الحنين الفوار من مخيلتي الموغلة في البدايات الأولى للانبعاث والإبداع. التلال الموغلة في رؤياي والدرب الممتد في أعصابي نحو قلعة الاشراق والنور. لا أستطيع أن أستثني عقلي من هذه اللذة لتذوق سحر البيان حتى ذلك الأفق الرحب خضع للنور وتآلفت الصورة وتألقت بصيرتي حيّة في ما زرعوه من موت.ستكون الكلمات قد قيلت ورتلت وحفظت واستعادت الروح حركيتها اللولبية الراقصة للكون تأملا صافيا فأصبح أنا الكون واتسعت طاقاتي في العمل والأمل فهناك دلالات خافية عن الأنظار لا تنكشف إلاّ لأصحاب الحركة واليقظة .
من هذا الإحساس والجوع إلى حرية الانسياب اللغوي فكرت في الكتابة محاولا قراءة ما كتبته الشاعرة زبيدة بشير لعلي من خلالها استنهض طفولتي المكتنزة حكمة وموعظة لا تتسع لها عبارات اللغة لإفصاح عن هويتها. لم تودعنا الشاعرة ولكن تركت في ما أسماه دريدا ب‘‘كوجيتو الوداع’’[vi] هؤلاء الفلاسفة كانوا دوما يتذوقون سرّ الإنسان في منعرجات ومسالك لا يقدر عليها. الذين يقاومون التجديد والإبداع ويعوزهم الخيال والتخييل ويسعون إلى التبسيط للتسطيح ويعقدون المسائل ليتهربون من الوضوح .
***********************
في مستهل تحليلنا نريد أن نشير بصفة مختصرة إلى موقفين: الأول يتعلق بنظرة الرجال إلى المرأة في شعرهم والثانية تتعلق بموقع شعر النساء من اهتمام الرجال والتي تحتاج منا إلى عودة لاحقة نطنب فيها التفسير والفهم والتأويل للوقوف على الدلالات العميقة للعلاقة بين المرأة والرجل في الثقافة العربية الإسلامية في مكونات المخيال الجماعي الشعري.
أولا: انتبه أبو قاسم الشابي إلى أن الشعر في جوهره في علاقة متينة بالمرأة ويمكن أن يكون طاقة خلاقة مؤسسة وقد توصل إلى ذلك بفضل حدسه البكر والفطري وأفرد قسما في كتابه الخيال الشعري عند العرب عن ‘‘الخيال الشعري والمرأة في رأي الأدب العربي’’ والذي كشف فيه عن البنية الذكورية المهيمنة إذ يقول ‘‘إن نظرة الأدب العربي إلى المرأة نظرة دنيئة سافلة منحطة إلى أقصى قرار من المادة، لا تفهم إلاّ جسد يشتهي ومتعة من متع العيش الدنيء’’ فهو يرى أن ‘‘النظرة السامية التي يزدوج فيها الحب بالجلال والشغف بالعبادة...النظرة الروحية العميقة التي نجدها عند الشعراء الآريين فإنّها منعدمة بتاتا’’[vii] ومن هنا هل يحق لنا القول أن زبيدة بشير هي مشروع أبي القاسم الشابي الذي تحقق؟ وإلى أي مدى يكمن أن نجد صدى لموضوع الخيال الشعري عند العرب في مدونتها الشعريّة؟ وما هو تأثير ذلك على المواقف والسلوك في المجتمع التونسي الحالي؟
ثانيا: في كتاب نزهة الجلساء في أشعار النساء ترجم الإمام جلال الدين السيّوطي لأربعين شاعرة من شواعر العرب ‘‘المولّدات’’ وقد ذكر ‘‘طائفة مستملحة من أخبارهن عظمة الشاعريّة مما خلدته الأيام ولم تستطع محوه الأعوام وإذا كان هناك من يقول ‘‘ إن شعر النساء الجيد لا نجمع منه إلاّ صفحات’’[viii] فإنّ محقق هذا الكتاب قد تساءل هل يحق للمرأة أن تقول شعرا في الغزل؟ وإذا كان لها ذلك فيمن تتغزل؟أتتغزل بامرأة مثلها؟ أم تتغزل برجل’’[ix] وقد بين العقاد ‘‘أنّ الاستعداد للشعر نادر وإنّه بين النساء أندر’’ ‘‘لأنّ الأنوثة من حيث هي أنوثة ليست معبرة عن عواطفها’’ كما‘‘لا ينفي هذا أن الأنثى قد تعبر عن الحزن، لأنّ الحزن لا يناقض استعداد الشخصية للتسليم والاستناد إلى غيرها، ولهذا كانت الشاعرة التي نبغت في العربية باكية راثية وهي الخنساء’’[x] ومن المفارقات أن المعلقات السبع التي اختارها الناقدون جميعهم رجال رغم أهميّة شعر الخنساء.
قراءة تجربة شعرية يطرح علينا أسئلة: هل أن هذه القراءة تفقد الباحث في علم الاجتماع الموضوعية وصرامة الضبط المنهجي إذا اعتبرنا أن الشعر تذوق ذاتي ومجاله المشاعر؟ وما الذي ستضيفه حول المسألة النسائية في تونس؟ أهو تناس للأسئلة الحارقة التي ترهق النساء مثل الفقر والجهل والاستعباد والتمييز وغيرها من المشكلات التي تؤرقنا جميعا؟
لكي نجيب إجابة أوليّة ومختصرة نقول حتّى لو افترضنا أنّ الشعر حالة شعوريّة تعبيريّة فردية لاشعوريّة إلاّ أنّه ضمنيا يمكن أن نستشف منه مواقف تعبر عن المجتمع ككلّ فمضامين الشعر وفق التحليل سوسيو-ثقافي تتمّ وفق سياق اجتماعي وضمن علاقة مع الغير بحيث نتواصل معه ونوجه له الخطاب ذلك أن الكتابة الإبداعية مجال لتفجير المعاني المكبوتة وصياغة لنصّ مشحون بلذّات روحيّة ومعنويّة أوليس للعلم إذن نصيب من أن يتذّوق شذى الشعر وجماليّة الكلمات ويستسيغ منها نصّا آخر يضاهيه قوّة؟ ألم يقل أن الشاعر ضمير الأمة وهو ناطق بألمها وأحلامها ومعاناتها وآمالها؟ ألم يزل الشعر يحيلنا على ما ذهب إليه غاستون باشلار[xi]Gaston Bachelard إلى ما أسماه بالمخيال الشعري l’imagination poétique بوصفه اكتشافا للعالم والذات والخلود ؟ فلو لا شعر زبيدة بشير حسب اعتقادي هل كنا نتعرف على أجواء الحياة في تونس في السبعينات وما حملته بين جنبيها من حبّ وحرقة وتمرد ذلك أن شعرها أبيات تحمل بصمات حياة امرأة في مسالك صعبة ودروب وعرة وتتقد بين سطور مجموعتها الشعرية حنين ‘‘أحاسيس شبابها الباكر الطموح’’[xii]
في 08 فيفري 1938 بساقية سيدي يوسف ولدت الشاعرة زبيدة بشير وغادرتنا في 21 أوت 2011 وتركت لنا مدونة شعرية تم تجميعها ضمن ‘‘أعمالها الكاملة’’ أشرف عليها الشاعر نور الدين صمود. وهي تعتبر أول من أصدر كتاب تونسي سنة 1968 ليأتي بعده بأشهر قليلة كتاب ليلى بن مامي ذلك أن ناجية ثامر سورية الأصل’’[xiii]
فمن لا يعرف زبيدة بشير ‘‘وصوتها الرخيم الذي تنصيته كل صباح في برنامج ‘‘أغنية لكل مستمع’’ فبدأت تكتب القصص حيث تقول: ‘‘هل نملك نحن العذارى المظلومات غير الصمت والدموع؟’’ وفعلا فالدموع موجودة بكثرة في ديوانها وقد يلخص كلمة واحدة أدبها أنه هو الحرمان تقول ‘‘كانت حياتي، قصّة الحرمان من عهد الرضاعة’’ (حنين ص: 46 ) مع الملاحظة أن شعرها له خاصيتان الأولى الصدق والثانية قوة إرادة الإقناع فقالت مثلا ‘‘أنا مقيدة بآلاف القيود’’ وفي مكان آخر ‘‘زرعت لك الحب شبرا بشبر ولكن أرضك لا تثمر’’ يصنف جان فونتان زبيدة بشير في النزعة النسوانية إذ ‘‘لاحظت النساء في تونس أن وصف الحقيقة غير كاف وأنه لا بد من شيء جديد وهو الثورة ووصف العالم كما يجب أن لا يكون[xiv]
لا تهمنا تفاصيل حياتها اليومية ولكن بعض الإشارات في سيرتها قد ترشدنا إلى فهم سياقات إبداعها فهي التي تعلمت اللغة العربية وحفظت القرآن ورعاها الشاعر مصطفى خريف وتذكر الروايات أنه عندما رفعها والدها من ضفائرها لتعيد على الحاضرين سرد المولدية[xv] من جديد بعد أن تعثر الإمام في قراءتها وفي ذلك دلالة رمزية عميقة تتفتح فيه الشاعرة عن عالم الرجل وإذا كان طبيعيا لصبية أن تتواجد في المسجد لكن من غير الطبيعي أن تتقلّد ما عجز عنه الإمام وكان تصرّف الأب غايته أن يثبت للحضور فحولة رجل في التربية وليس في تحدّى طفلة لها شخصيتها والتي سنراها من فطاحلة الشعراء مما يعني تواصل الهيمنة الذكوريّة فالمرأة حين تكتب ترغب أن ‘‘أن تصير فحلا (من فحول الشعر مثلا بيد أن اللغة تصيرها ‘‘فحلة’’ ولا ينبغي لهذا الاشتقاق الصرفي ‘‘العادل’’ فالفحلة في المعاجم هي ‘‘سليطة اللسان القاموس المحيط’’[xvi]
إنّ اختيارنا لتجربة زبيدة بشير كحالة يمكن أن يساعدنا على فهم تجربة الحب لدى المرأة في المجتمع التونسي؟ وما هو النموذج العشقي الذي أسست له الشاعرة في مدونتها الشعرية؟ كما سيحيلنا شعرها عما نتمثله فيما ورد في القصص القرآني حول الملكة التي راودت النبي يوسف عليه السلام من جهة وما بدت عليه صورة الحب في الستينات فما الحب الذي صاغته الشاعرة في تلك الأجواء التقليدية الكاتمة لمشاعر المرأة؟ بأي خلفية أثرت قصة يوسف النبي عليه السلام في تشكيل المخيال الجماعي حول الحبّ؟ وكيف مرت تجربة الشاعرة من الحب كشكل ما فوق العبادة إلى الجنون الذي هو ضرب من الحكمة حسب نيتشه أي إلى الفناء في الحب البشري الذي هو صورة منعكسة عن الحب الالاهي ينتهي به الموت إلى الأبدية بما يحيلنا ذلك إلى تلك العلاقة الأزليّة التي تجمع العاشق بالمعشوق التي هي علاقة لا تنفصل وتنتهي بالحديث عن شهيد العشق الذي تحدث عنه ابن حزم في ‘‘طوق الحمامة.’’حيث جاء في الآثار: ‘‘من عشق فعف فمات فهو شهيد.’’[xvii] وفي هذا الصدد تقول الشاعرة ‘‘أنّها أنشودة القلب الشهيد، وبقايا من شبابي ووجودي’’ حنين ص: 27 أو ‘‘فأنا في نشوة الحب غريقه’’ حنين ص: 35 أو ‘‘كلّ في الموت شفائي’’ حنين ص: 81 أو ‘‘هذا وجودي، بين أمواج الفنا، يلقي شراعه’’ حنين ص: 44
كان حبّ زبيدة بشير رغبة جانحة في تكسير شوكة القبيلة التي تحاول أن تصادر الحب لدى المرأة ‘‘إنها صورة تقطع مع الماضي السحيق ، ماضي الرقّ و القينة لتدشّن بذلك راهنا نسائيّا مستقلاّ متعاليا ، دينه الكفر بمناخات الاستسلام و التبعيّة ، وديدنه التحليق بعيدا على حدّ تعبيرها في قصيدتها نهاية تجربة[xviii] هذا الانفتاح على الحب يرتقي بالمرأة إلى طبيعتها الأنثوية التي هي أكثر ارتقاء في الإنسانية إذ يقول ابن عربي ‘‘إن الإنسانية لما كانت حقيقة جامعة للرجل والمرأة لم يكن للرجال على النساء درجة من حيث الإنسانية، كما أن الإنسان مع العالم الكبير يشتركان في العالمية’’[xix] ذلك أن الرجل لا تزال تحكمه عقلية تدعي أنه وحده قادر على افتتان المرأة مثل النبي يوسف عليه السلام وأن المرأة غاوية ومترصدة به تريد أن توقع به في حبالها منذ أن تشكلت الصورة النمطية باعتبارها سببا الغواية وهي التي أنزلته من جنة عليائه ولكنه لا يعلم اليوم أن هذه النمطية يمكن قلبها وأن المعركة هي معركة تصورات فهي من الممكن أن تكون سببا في عودته للجنة وأن عليه أن يغيّر تصوره للحبّ بحيث انّه ما أن تكشف المرأة عن حبّها له حتّى ينقض عليها كالفريسة ثم فيما بعد يتنكر لها تقول ‘‘كان لي في حبه، ألف علامة، كاعتقاد المؤمن الراسخ، في يوم القيامة، يا لسخف العاشق الولهان، ترضيه ابتسامة’’ حنين ص: 76 أو ‘‘مات الحبّ في عمر الورود’’ حنين ص: 91 هذا في اعتقادي هو الانفتاح الإشكالي الذي يوجه دراستي في دراسة حالة زبيدة بشير. المرأة الضحية ببراءتها. فعلاقة المرأة بالعشق العفيف تشهد تغييرا ولكن رغم ذلك ظل المخيال الجماعي يشتغل لتوجيه المواقف والتصرفات فكيف يمكن المرور حينئذ من تجربة رابعة العدوية في العشق الالاهي الذي فيه تسام عن الحب البشري إلى تجربة زبيدة بشير في الحب البشري الذي هو في نهاية المطاف حب الاهي (الحبّ نور الله في أعماقها) [xx] كيف نستطيع إذن تفكيك هذه المضامين التي تكوّن في نظريتنا الحب والعشق؟
في شعر زبيدة بشير، سابقة تستحق الاهتمام فتسترد أحقيتها باعتبار أنّه ليس من السهل عليها أن تحقق حضورا في ظل التنكر والهيمنة الذكورية والحطّ من قيمة المرأة وعانت الظلم وعوملت دون مستوى الرجل أوليس الحديث في الثقافة العربية دوما عن الشعراء العرب في الجاهلية والإسلام رغم كثرتهن وحيث تساءل بعضهم ‘‘لماذا كان الشعر على شفاههن بوح اللهفة والضمّة والآن لا تفجير المعتزمات في خضمّات البحور والقوافي’’[xxi] ولكن هناك عملية محو من الذاكرة فطمس لمكانتهن مما يعبّر عن هذه البنية المترسبة في اللاوعي الجماعي لعدم الإنصات لمشاعر المرأة وإحساسها. ومن هنا نستنتج ‘‘أن الهوة متسعة بين ما تحقق للمرأة من تشريعات وقوانين ضامنة للحرية والإبداع وما أنتجته المرأة التونسية منذ الاستقلال إلى اليوم إضافة إلى أن العديد من مبدعاتنا قد انقطعن عن الكتابة إما بسبب الموت (ناجية ثامر- رقية بشير) أو بالانقطاع غير المبرّر عن الكتابة (زبيدة بشير – ليلى بن مامي – نعيمة الصيد – فاطمة سليم – خديجة الجويني)[xxii]
لم يكن مباحا أن تنفتح الأنثى على الناس بعواطفها وأن تبوح بميلها الفطري لحبها للرجل أن تسافر معه وأن تكتب معه وإنّما هي متهمة كما هو الشأن بالنسبة إلى المرأة التي راودت يوسف عليه السلام عن نفسه.وكما هو مألوف تتشكل المواقف من الاستدعاء لمكونات المخيال الجماعي لتترسب التمثلات ويعيد إنتاجها في كلّ مرّة. ولما كان الشعر خفقة القلب مبناه اللغة ف‘‘خفق صدور النساء نبض وجدان أو لهبا مقفّى’’ على حد تعبير الشاعر العراقي حافظ جميل[xxiii] لم يشذ عن سياقاته الاجتماعية والثقافية وحاولت الشاعرة بما أوتيت من قوّة أن تسند لنفسها جدارة الإبداع وتلقي بدلوها في بحر لجي من إبداعية الأدب قد يرى في الرجل ابتداعا وخروجا عن المتعارف عليه رغم ما أتت به ليس إلاّ قولا لذات مريدة ترى في لغتها سرا يحررها من مركزيّة الفعل المحبيّ الذي بقي يحتكره الرجل الذي يفعل والمرأة التي يفعل بها. والنتيجة تكون المحاصرة واسترجاع الشعراء الرجال وعلى غزارة شعرهم وكثرة عددهم فإن زبيدة بشير فرد في صيغة الجمع بما تخصصت فيه وتفردت ويجعلها الأبرز. يبدو ‘‘وفي الخاتمة يظهر أن المصير المعروض للمرأة في نصوص الأدبيات التونسيات مصير مأسوي’’[xxiv]
تمثل دراستنا لشعر زبيدة بشير محاولة في تنبن أي أبّيات أبدعت، وفي أي مقاطع تعثرت؟ ولكننا نخلص إلى أنّها في آخر الأمر حركت سواكن القلوب. فالبعض يرى أن الأسئلة الحارقة كلقمة العيش والكسب لا تجعل للشعر موقعا. ولكن هل يعيش الإنسان بالخبز فحسب؟ فالشعر في اعتقادي يعد وسيلة تبليغ من خلاله نلامس أعماق المرأة وتكشف عن أنوثتها المؤثرة فينا. ذلك أنّه ‘‘عندما يصبح للشعر أو الأدب فسحة، أو مرمى بصر في تربية الإنسان،فبشّر هذا الشعر وهذا الأدب بحياة مهما قصرت أو طالت تظلّ نموذجا بشريّا’’[xxv]
الذي يهمنا هو مدونة نصها الشعري كبناء لغوي وتشابك للمعاني ننطلق منه ونعود إليه تفكيكا وإعادة بناء ولو كان هناك من يتخذ من الشعر استهزاء ولا يقدر حق قدره فهم الذين لا يتذوقون الشعر الذي يطفح بالإيمان وبرغبة جامحة للاتحاد بوحدة الوجود وما الدخول إلى النص الشعري إلاّ محاولة للبحث عن معنى يتخفى بين السطور والكلمات المعبرة عن المشاعر الإنسانية الفياضة. ففي النص البشري قد يتجلى القدسي وتنبع القيم التي تحث الناس على التشبث بالخير وعلى أن السكوت عن الشرّ هو تدعيم لانتصاره علينا حسب ما أورد ذلك ماكس فيبر. فالنشد الآن الرحال والسفر في نصوصها. فالشاعر هيدجر محق عندما كتب عن الشاعر الألماني هورلدين وكذلك باشلار عندما كتب عن شعريّة اللحظة الشاردة وعن الماء والنار والسماء وكذلك دريدا عندما كتب عن كوجتو الوداع في ذلك دلالات أن الذي يغير الأفراد ليست الفلسفة فحسب ولا السياسة فقط ولا العلم بمفرده بل الشعر والفنون جميعا لما تتأسس على فلسفة السماع والتذّوق ومتعة العين تنفتح الذات على حركة الأفلاك الكونية تتمازج فيه المرأة والرجل في نسق موسيقي خلاّق
الهوامش:
________________________________________
[i] بشير (زبيدة): حنين الدار التونسية للنشر ص:78 قصيدة أحسب الحبّ لمحة من جنون
[ii] شاعرة تونسية (1938-2011)
[iii] دكتور في علم الاجتماع مساعد تعليم عالي الإهداء: إلى كلّ من جعله تبحره في العلوم نموذجا للتواضع والامتلاء بما يحقق التواصل الفيّاض بالخير.
[iv] ماكس فيبر العلم والسياسة بوصفهما حرفة ترجمة جورج كتورة جورج مراجعة وتقديم رضوان السيد المنظمة العربية للترجمة بيروت الطبعة الأولى 2011 ص: 165
[v] الشابي (أبو القاسم): الأعمال الكاملة الجزء الأول الدار التونسية للنشر 1984 الخيال الشعري عند العرب ص:71
[vi] Jacques Derrida : Adieu à Emmanuel Lévinas ÉDITIONS GALILÉE, Paris. 1997
[vii] الشابي (أبو القاسم): الأعمال الكاملة الجزء الأول الدار التونسية للنشر 1984 الخيال الشعري عند العرب ص: 72
[viii] نزهة الجلساء في أشعار النساء للإمام جلال الدين السيّوطي مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع بولاق القاهرة بلا تاريخ عبد اللطيف عاشور بين يدي الكتاب ص: 06
[ix] نفس المرجع السابق ص: 16
[x] نفس المرجع السابق ص: 17
[xi] Bachelard (Gaston) : la poétique de la rêverir Presses Universitaires de France 1993 p :1
راجع أيضا: فؤاد اليزيد السني/ بروكسيل - بلجيكا (2010-04-10) شاعرية هولدرلين في أفق فلسفة هايدجر (القسم الأول) طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179- وأيضا كتاب سوسيولوجيا الغزل العربي: الشعر العذري نموذجاً تأليف الطاهر لبيب مراجعة المؤلف المنظمة العربية للترجمة
[xii] خريف (مصطفى): من مقدمة مجموعتها الشعرية حنين والتي كتبها أثناء إقامته بالمستشفى العسكري بالعمران
[xiii] محمد المي: الأدب النسائي المكتوب باللغة العربية بين الانكماش والانطلاق دراسة توثيقية الحياة الثقافية السنة 26 العدد 123 مارس 2001 صص: 63-64
[xiv] فونتان (جان): الأدب النسائي التونسي منذ الاستقلال متابعات الحياة الثقافية السنة السابعة العدد 19-20 جانفي-فيفري-مارس أفريل 1982 ص: 166 بقية التصنيفات التي يضعها الكاتب : الامتثالية النساء يكتبن كما أراد الرجال (ناجية ثامر وهند عزوز)=وصف العالم كما يجب أن يكون الواقعية: الحياة الاجتماعية لها خصائص مؤلمة لم يذكرها الرجال (خديجة الشتوي وبية النوري فاطمة سليم) وصف العالم كما هو الهامشية: لا فائدة في الثورة لأن المجتمع لا يقبلها بدأن الاتجاه إلى أدب الماورائيات (فضيلة الشابي وزهرة ونافلة ذهب)= وصف العالم كما لا يكون التحويلية: تكتب أن الكلام لا يجدي نفعا وأن الهدف الوحيد هو المشاركة في البناء (فتيلة التباينية وعروسية النالوتي) = دعا إلى تكوين عالم آخر
[xv] (قصة مولد النبي محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم)
[xvi] جحفة (عبد المجيد): سطوة النهار وسحر الليل الفحولة وما يوازيها في التصور العربي دار توبقال للنشر المغرب الطبعة الأولى 1999 95 صفحة المرأة والرجل والكتابة ص:38
[xvii] الأندلسي (بن حزم): طوق الحمامة في الألف والآلاف مكتبة عرفة بدمشق 155 صفحة ص: 115
[xviii] (الديماسي) فوزي : صورة المرأة في الكتابة النسوية ( شاعرات تونسيات أنموذجا ) - - تونس موقع الصفصاف الالكتروني
[xix] ابن عربي الفتوحات المكية تحقيق : أحمد شمس الدّين الجزء الخامس منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت – لبنان صص: 127-128الباب الرابع والعشرين وثلاثمائة في معرفة منزلة جمع النساء والرجال في بعض المواطن الإلهية وهو من الحضرة العاصمية.
[xx] آلاء ص 12
[xxi] غريب (جورج): شاعرات العرب في الجاهليّة الموسوع في الأدب العربي عدد 93 دار الثقافة بيروت لبنان الطبعة الأولى 1984 ص:ص: 274
[xxii] محمد المي: الأدب النسائي مرجع سبق ذكره ص:64
[xxiii] غريب (جورج): شاعرات العرب في الجاهليّة الموسوع في الأدب العربي عدد 93 دار الثقافة بيروت لبنان الطبعة الأولى 1984 ص: 9
[xxiv] فونتان (جان): الأدب النسائي التونسي مرجع سبق ذكره ص: 168
[xxv]غريب (جورج): شاعرات العرب مرجع سبق ذكره ص:273