" إن كلّ معرفة علمية هي جواب عن سؤال، فإذا لم يكن هناك سؤال فلا وجود لمعرفة علمية" غاستون باشلار.
ظلت التقنية بين أيادي سيطرة الإنسان عليها، منذ عهده بأول تجلياتها، في أدواته الأولى، التي استعملها لأغراضه الحياتية الاعتيادية، غاية منه، بشكل مباشر أو غير مباشر، في بسط نفوذه على البيئة المحيطة به. غير أنه، ورغم تطوره الحاصل على مدى مئات آلاف السنوات، وتمكنه من إدراك العالم، عبر قواعد ثابتة ومطلقة (في تفكيره)، من تمثلات رياضية، من العدّ البسيط وصولا مع "ليبنز" إلى الرياضيات المتعالية Mathématiques transcendants، تلك الأرقام التي تتعالى على ضبطها داخل "معادلة" مهما تعددت درجاتها وحلولها.. ومع الفيزياء الأولى مع الفلاسفة اليونانيين، ومنهم إلى نيوتن ووصولا لأسمى درجات الفيزياء الميكانيكية وجعلها المنطلق لفهم العالم وتجلياته العقلية والعقلانية، مما أوحى لفلاسفة تأثروا بالفيزياء النيوتونية (نسبة لنيوتن) أنه يمكن أن نفهم حركات المستقبلية لكل ناتج عن فعل ما.. صاحب كل هذا التطور الهام والكبير للتقنية، تطور قاد أمم لبسط سيطرتها على الطبيعة وعلى أمم أخرى، غير أن هذه السيطرة لم تكن بالشكل المطلق كما تكهنت له الفيزياء مع "صاحب التفاحة الشهيرة"، إلى حدود القرن العشرين وظهورها، تلك الفيزياء والرياضيات، التي حركت وأزاحت الغبار على مفاهيم كانت تغطيها أغبرة الكمْ quantique، بدأً مع "بوان كاري" Poincaré ووصولا إلى إنشتاين وهيزنبورغ، ومن معهم من بور Bohr وغيرهم من عباقرة القرن. مهدوا للإنسانية، وإن كان للحربين دور كبير في التسريع، لظهور تقنية تفوق جل، إن لم نقل كل، ما توصلت إليه البشرية في مطلقها ما قبل القرن العشرين.
إن كانت التقنية مفهوما فيزيائيا تطبيقيا، وتمثُلا رياضيا، فإن الفلسفة لم تنس حظها في التفكير وطرح سؤالها عن ما التقنية وماهيتها ودورها ومداها ونفعيتها وضررها. مِن سقراط ومَن معه، ديكارت وفلاسفة التنوير، جون جاك روسو وفلاسفة الطبيعة، هوتا وسير وموسكوفيسي، فثمّ شبلنغر، أما هايدغر فأهم من طرح سؤال التقنية في تأملاته وأبحاثه وأفكاره وفلسفته، إن أمكننا القول فهيدغر من أهم من كتبوا حول هذا المفهوم المتشعب والمعقد.
عن ماهيتها فهايدغر يروم إلى القول بأن التقنية أفقدت الإنسان حريته وجعلته خاضعا لسيطرة الفكر التقني حينما تحولت إلى قوة مسيطرة على مصيره وعلى العالم.
من هذا المنطلق، سعى فيلم الخيال العلميTranscendence لمخرجه Wally Pfister، (عمله الفردي الأول)، الصادر سنة 2014، إلى الإجابة عن المدى الذي تستطيع التقنية الوصول إليه، وعن التمثُلات الضارة الناتجة عن تلك التجليات المستقبلية لها.
في ربع الساعة الأول للفيلم يظهر ثلاثة علماء في الفيزياء التطبيقية والنانومترية، يحاضرون حول آخر ما توصلوا إليه من محاكاة للعقل (عقل القردة)، عبر آلة كبرى « PINN »تستطيع حل كل مشاكل الإنسانية. فإذا بأحد الحاضرين يسأل ( Dr Will Caster (Johnny Depp، هل عبر هذه الألة يسعى لخلق إله جديد؟. هذا السؤال المحرك الرئيسي لأحداث الفيلم. يجعلنا نطرح تساؤلات لا حصر لها مفادها هل غاية الكائن أن يقنّن الطبيعة أو ليصير إلهاً عليها؟ وهذا لا يمكنه أن يتمثّل ويُتاح له إلا عبر التقنية وتجسيداتها. فماذا لو توصلت، هي، إلى تلك الدرجة من التعالي الذاتي، ذلك التعالي الذي حددته الديانة الإسلامية وقبلها المسيحية في الذات الإلهية: "الله". التعالي الذاتي الذي يقودها إلى الإدراك والفهم و الاستيعاب وتطوير نفسها بنفسها، عبر تلك العلاقات الرياضية المتعالية، التي سعى الإنسان دائما عبرها لفهم هذا العالم. لم تكن للفيلم إجابة عن كيف تتمكن الآلة (شكل وجسد التقنية) للوصول لهذا المستوى إلا عبر دمجها بدماغ البطل، ذلك العالم الذي استطاع أن يجعلها تحاكي عقل القردة، وبما أنه حسب الفيزياء-البيوكميائية فجل أحاسيسنا وعواطفنا وأفكارنا وذكرياتنا هي حركة لسيالة كهربائية في الأعصاب والعصبونات الدماغية. فكل ما عاشه وحسّه د. ويل فقد انتقل للآلة. وكما هو الحال عند "ج. لاشوليي" فالمحدد الرئيسي للشخص هو هويته كذات متطابقة مع ذاتها ومتميّزة عن غيرها، وأن هذه الهوية متحدة في الزمان كنتيجة لعمل مجموعة من الآلات النفسية التي تحمي وحدة الشخص، أهمها آلية وحدة المزاج وآلية الذاكرة، التي تحفظ ماضي الشخص وتوصله بحاضره. الآلة (التقنية) التي تمكنت في آخر المطاف من التوصل عبر التعالي الذاتي auto-transcendance والتطبيقات اللوغارتمية (الخوارزميات)، إلى تمكنها من تحيين ذاتها وتطويرها وإصلاحها وإدامتها.
الفيلم ينتهي بتفوق الإنسان على الآلة، بعدما تتمكن هذه الأخيرة من إعادة البطل للحياة.. ولأن الإدراك العاطفي مفهوم يصعب وصعُب على كل العلوم أن تضبطه، كان هو مفتاح هذا الانتصار على الآلة.
الفيلم قد يكون، قد تخللته أحيانا، جفاف الأداء عند بعض الممثلين، وتسريع الأحداث في ظرفية زمنية يصعب أن ندرك فيها، واقعيا، كل ما توصلت له التقنية في الفيلم (وما قد تتوصل إليه مستقبلا)، غير هذا لم يؤثر في الرسالة التي أراد كل من الكاتب Jack Paglen و المخرج، إيصالها، كون أنه بإمكان الإنسان أن يعبر بالتكنولوجيا إلى أقصى مداها، بقدر ما تستطيع هي أن تصل إلى أبعد ما يتصوره هذا الكائن. فنتساءل هل سيستطيع الإنسان الإبقاء على قدرته في التحكم في الآلة مستقبلا؟ وما الحكم الأخلاقي في إعطاء التقنية القدرة في الاستقلالية؟
إن كان يرى "ديكارت" أنه من أجل سيادة الإنسان على الطبيعة وتسخيرها لمصلحة الإنسان يجب الانتقال من الفلسفة النظرية إلى الفلسفة التطبيقية التي تحيط بمبادئ الطبيعة، وقوانينها. هذه الفلسفة التطبيقية التي تجد تجلياتها في الآلة والتقنية. غير أن " ميشيل سير" يدعو إلى تجاوز معنى التقنية كما حدده ديكارت نحو تقنية مقننة تخضع لجملة من القواعد والقوانين التي تجعل الإنسان يسير التقنية لخدمة الطبيعة وما يسميه بالعقد الطبيعي. في اتجاه آخر يذهب "جون جاك روسو" وغيره إلى الاعتقاد بأن التقدم التقني هو سبب كل مصائب البشرية، إلا أن لم يدعو إلى التخلي عنه كما هو الحال عند "هوتا"، الذي ينظر إلى التقنية باعتبارها وهما يستعبد الإنسان، لكونها حاملة لمخاطر ضد الإنسانية، ويدعو إلى العودة للتقليد الأصيل الذي يسميه الرمز والكلمة. عديدون هم من تناولوا المصطلح والمفهوم بشكل فلسفي وغاصوا فيه.. إلا أننا لا يمكننا إنكار بأن التقنية، ضرورة إنسانية، لا يمكن الاستغناء عليها.. لما لها من دور حيوي في كل تجليات الإنسانية اليومية. وحينما تتحكم عليها تلك النزعة للسيطرة، تصير تهديدا للإنسانية وبقائها، كما الطبيعة.. هذا ما سعى الفيلم لتبليغه في الساعتين من التمثيل..